ريزان شيخموس
بعد سقوط نظام بشار الأسد، تدخل سوريا فصلًا جديدًا من تاريخها المعاصر، عنوانه الانتقال نحو دولة عادلة تتّسع لكلّ مكوّناتها، وتؤسّس لعقد اجتماعي جديد يعكس تطلعات السوريين وآلامهم وتضحياتهم. ومع تشكيل إدارة انتقالية، يُفتح الباب أمام كتابة دستور يُعبّر عن التعدد القومي والديني والثقافي في سوريا، ويضمن مشاركة الجميع في صياغة مستقبل البلاد، لا كضيوف على مائدة الوطن، بل كشركاء في قراره السياسي ومصيره التاريخي.
غير أن بناء سوريا الجديدة لا يمكن أن يتحقق عبر التغيير السياسي فحسب، بل يحتاج إلى إرادة حقيقية تُنصف من تم تهميشهم، وتعالج اختلال العلاقة بين الدولة ومواطنيها. وفي طليعة هؤلاء يقف الشعب الكردي، الذي عانى لعقود من الإقصاء، والتجريد من الجنسية، وحرمانه من حقوقه الثقافية والسياسية، فضلًا عن سياسات التعريب والتغيير الديمغرافي التي طالت مناطقه. ومع كل هذه المعاناة، لم يتخلَّ الكورد يومًا عن سوريا، بل كانوا في صلب معارك الثورة ضد الاستبداد، وفي مقدمة الصفوف خلال الحرب ضد الإرهاب، خصوصًا في مواجهة تنظيم داعش.
اليوم، يقف الكورد أمام لحظة مصيرية، تتيح لهم الانتقال من موقع المظلومية إلى موقع الشراكة، ومن الدفاع عن الحقوق إلى صياغة المشروع الوطني. هذه اللحظة التاريخية تتجسّد في انعقاد الكونفرانس الوطني الكردي في السادس والعشرين من هذا الشهر، بإشراف مباشر من الرئيس مسعود بارزاني، وبمشاركة القائد مظلوم عبدي، حيث يُنتظر أن يتم التوافق النهائي على الرؤية الكردية الموحدة، والمصادقة على تشكيل وفد كردي موحّد للمشاركة في العملية السياسية، والتفاوض مع السلطة الانتقالية.
ما يميّز هذا الكونفرانس المنتظر هو شمولية التمثيل، إذ من المقرر أن تحضره كل الأحزاب الكردية الفاعلة في سوريا، والمنظمات السياسية، وكافة الفعاليات والنخب المجتمعية، والشخصيات الوطنية المستقلة، بما يضمن أن تكون هذه الرؤية السياسية الموحّدة معبّرة عن الشعب الكردي بأكمله، وتُشكّل مرجعية سياسية وأخلاقية للكورد في المرحلة المقبلة. بهذا، تتحول هذه الخطوة من مبادرة سياسية إلى تعبير حقيقي عن إرادة جماعية تسعى إلى التفاوض باسم الكل، لا باسم جزء.
وتبرز أهمية هذا الكونفرانس أيضًا في كونه يحظى بدعم وتشجيع مباشر من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الفرنسية، اللتين كان لهما دور فاعل في الدفع نحو توحيد الصف الكردي وتشكيل رؤية سياسية جامعة. وقد يُشارك في أعمال المؤتمر ممثلون عن هاتين الدولتين، تأكيدًا على الأهمية السياسية المتزايدة لهذا الحدث ودوره المتوقع في المساهمة في استقرار سوريا المستقبل، وضمان تمثيل حقيقي للكورد في العملية السياسية الشاملة.
هذا الكونفرانس لا يُعتبر حدثًا كرديًا داخليًا فقط، بل هو محطة مفصلية لها أبعاد سورية شاملة، لأنه يضع حجر الأساس لدور كردي جديد على مستوى سوريا كلها، ضمن مسار سياسي يطمح إلى بناء دولة تعددية لا مركزية، تعترف بسوريا كدولة متعددة القوميات والثقافات والأديان، وتقوم على نظام برلماني يضمن التمثيل العادل والمشاركة السياسية الفاعلة لجميع مكونات المجتمع.
الرؤية الكردية المشتركة التي جرى التوافق عليها بين المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي تمثل نقلة نوعية، لأنها لا تقتصر على المطالب القومية للكورد، بل تقدم تصورًا متكاملًا لسوريا المستقبل، يبدأ بالاعتراف الدستوري بالتنوع القومي، ويؤسس لهوية وطنية جامعة لا تقصي أحدًا، بل تراعي الخصوصيات الثقافية والدينية، وتعتمد اللغة الكردية كلغة رسمية إلى جانب العربية، وتضمن التوزيع العادل للثروات والسلطة بين المكونات والمناطق، وتضع حدًا للتمييز والتهميش الذي مارسه النظام طيلة عقود.
الرؤية تتضمن أيضًا ضرورة إنهاء كافة السياسات التمييزية بحق الكورد، بما في ذلك ضمان تمثيلهم في مؤسسات الدولة ومراكز القرار، ووقف مشاريع التغيير الديمغرافي، وتأمين العودة الآمنة للمهجرين والنازحين، خاصة من مناطق عفرين وسري كانيه وكري سبي، إلى جانب تعزيز دور المرأة وضمان المساواة بين الجنسين، واحترام حقوق الطفل وكرامة الإنسان.
إن انعقاد الكونفرانس الوطني الكردي، والمخرجات المنتظرة منه، سيكون بمثابة إعلان سياسي واضح بأن الكورد جاهزون للانتقال إلى مرحلة الشراكة الوطنية الفاعلة، عبر وفد تفاوضي موحد، يحمل مشروعًا لا يعبّر فقط عن الحقوق القومية، بل عن مستقبل سوريا كلها. وهذا ما يمنح هذه المبادرة بُعدًا وطنيًا يتجاوز البُعد الكردي، ويجعلها محطّ أنظار المخلصين من أبناء الشعب السوري، الذين يتوقون إلى وطن جديد قائم على العدالة والكرامة والمساواة.
ومن هنا، فإن الكرة اليوم ليست في ملعب الكورد وحدهم، بل في ملعب السلطة الانتقالية التي يقع على عاتقها مسؤولية التعامل الجاد مع هذه الرؤية، والتأسيس لدستور جديد يضمن الحقوق القومية والثقافية والسياسية لجميع المكونات، دون استثناء أو انتقاص. فإذا كانت هذه السلطة تطمح فعلًا إلى تأسيس سوريا جديدة، فعليها أن تعترف بأن الكورد ليسوا طرفًا هامشيًا، بل جزءًا أصيلًا من النسيج الوطني السوري، وركنًا من أركان الدولة المقبلة.
لقد أثبت الكورد، في أكثر من محطة، أنهم أهل للمسؤولية، وشركاء صادقون في بناء الوطن. واليوم، وبفضل هذا الزخم السياسي والتنظيمي، يمكن للكورد أن يلعبوا دورًا محوريًا في صياغة مستقبل سوريا، إذا ما توفرت الإرادة السياسية، ونجح الكونفرانس في توحيد الصف الكردي، وطرح خطاب جامع، ينطلق من الواقعية السياسية، ويستند إلى شراكة متكافئة مع بقية المكونات السورية.
بل وأكثر من ذلك، فإن الكورد، بما يملكون من تجربة سياسية وواقع ديمغرافي وثقافي غني، قادرون على لعب دور ريادي في مستقبل سوريا، شريطة أن يمتلكوا مشروعًا سياسيًا واضحًا وموحدًا، وهو ما يُفترض أن يتحقق عبر هذا الكونفرانس التاريخي. لكن هذا الدور لن يُكتب له النجاح ما لم يثبت الكورد، قولًا وفعلًا، أنهم ليسوا فقط أصحاب مطالب، بل أيضًا شركاء فعليون في بناء الدولة السورية، من موقع الانتماء والجدية والمسؤولية الوطنية. فالمشاركة الكردية المنشودة ليست فقط من زاوية قومية، بل من قلب الانتماء السوري، حيث الكورد لا يعملون من أجل مكاسب ضيقة، بل من أجل وطن يتسع للجميع، ويُبنى بسواعد جميع مكوناته، وعلى رأسهم الكورد الذين كانوا دائمًا في قلب المعادلة الوطنية، ويجب أن يبقوا كذلك.