أزاد فتحي خليل *
تاريخ الكورد الحديث مليء بالتجارب الثورية التي تميزت بالشجاعة والإصرار، لكنه أيضاً مشحون بخيبات الأمل والخيانة من الحلفاء والأنظمة الإقليمية والدولية. من جمهورية مهاباد التي لم تدم سوى 11 شهراً في أربعينيات القرن الماضي، إلى الإدارة الذاتية في روج آڤا التي تواجه اليوم تحديات سياسية وعسكرية واقتصادية هائلة. يتكرر نفس النمط: حلم قومي يُبنى على أمل الدعم الخارجي، ثم ينهار تحت وطأة المصالح الجيوسياسية. هذه الثنائيات من الثورة والخيانة ليست مجرد أحداث منفصلة، بل هي نمط تاريخي يكشف الكثير عن طبيعة الصراع الكوردي في المنطقة.
جمهورية مهاباد: الحلم الذي ولد ليموت
في عام 1946، تأسست جمهورية مهاباد في شمال غرب إيران بدعم من الاتحاد السوفييتي، لتكون أول تجربة لحكم كوردي مستقل في العصر الحديث. قادها القاضي محمد، الذي حاول بناء دولة تعكس تطلعات الكورد في الحرية والاستقلال. ومع ذلك، سرعان ما انهار هذا الحلم عندما سحب السوفييت دعمهم تحت ضغط دولي، مما فتح الباب أمام الجيش الإيراني لاجتياح الجمهورية وإعدام قادتها. لم تكن مهاباد فقط تجربة فاشلة بسبب ضعف الدعم العسكري أو السياسي، بل كانت أول تجسيد واضح لخيبة الأمل الكوردية من الحلفاء الدوليين.
الكورد في العراق: بين تحالفات هشة وخيانات متكررة
في العراق، خاض الكورد صراعاً طويلاً من أجل الحكم الذاتي، بدءاً من ثورات الملا مصطفى بارزاني إلى الانتفاضة الكوردية في 1991 بعد حرب الخليج. على الرغم من حصولهم على منطقة حكم ذاتي بعد سقوط نظام صدام حسين، فإن العلاقات بين حكومة إقليم كوردستان وبغداد بقيت متوترة. استفتاء الاستقلال عام 2017 كان لحظة فارقة؛ فقد دعم الكورد الاستقلال بنسبة ساحقة، لكن الرد الإقليمي والدولي كان صادماً، حيث تخلت القوى الكبرى، بما فيها الولايات المتحدة، عن دعمهم، وسمحت لبغداد وتركيا بشن ضغوط عسكرية واقتصادية أدت إلى خسارة كركوك، الغنية بالنفط.
الثورة السورية: الكورد في قلب العاصفة
مع انطلاق الثورة السورية في 2011، وجد الكورد أنفسهم أمام فرصة لإعادة صياغة وضعهم السياسي. تأسست الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا (روجآفا) كنموذج فريد يعتمد على المساواة بين الجنسين والديمقراطية التشاركية. قاتل الكورد ببسالة ضد تنظيم داعش، وحظوا بدعم من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة. ولكن هذا الدعم لم يكن مستداماً؛ ففي عام 2019، انسحبت القوات الأمريكية فجأة من بعض المناطق الحدودية، مما فتح المجال أمام تركيا لشن عملية عسكرية ضد القوات الكوردية.
خيانة الحلفاء: نمط متكرر أم سوء تقدير كوردي؟
لطالما اعتمد الكورد على التحالفات الخارجية لتحقيق أهدافهم القومية، لكن هذه التحالفات غالباً ما كانت محكومة بالمصالح المؤقتة. في كل مرة يُستخدم الكورد كأداة لتحقيق أهداف جيوسياسية، ثم يُتركون لمصيرهم بعد انتهاء الحاجة إليهم. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل هي خيانة متكررة من الحلفاء أم سوء تقدير استراتيجي من قبل القيادات الكوردية في اختيار حلفائهم؟
الانقسام الداخلي: العدو الذي لا يُرى
إضافة إلى الخيانات الخارجية، يواجه الكورد تحدياً داخلياً يتمثل في الانقسامات السياسية بين الأحزاب والفصائل المختلفة. ففي العراق، يتنافس الحزب الديمقراطي الكوردستاني بقيادة مسعود بارزاني مع الاتحاد الوطني الكوردستاني بقيادة جلال طالباني على النفوذ السياسي والاقتصادي. وفي سوريا، هناك توترات بين الإدارة الذاتية والأحزاب الكوردية المعارضة المدعومة من إقليم كوردستان العراق. هذه الانقسامات تضعف الموقف الكوردي وتزيد من سهولة استغلالهم من قبل القوى الإقليمية والدولية.
الدروس المستفادة: هل يمكن للكورد كسر حلقة الخيانة؟
إذا كان التاريخ يعلمنا شيئاً، فهو أن الاعتماد على الدعم الخارجي وحده لن يحقق الحلم الكوردي. يجب على الكورد تعزيز وحدتهم الداخلية وتطوير استراتيجيات سياسية تأخذ في الاعتبار تقلبات المصالح الدولية. كما أن الاستثمار في بناء تحالفات إقليمية مع الشعوب والجماعات المضطهدة الأخرى قد يكون خطوة نحو تحقيق شكل من أشكال الحكم الذاتي أو حتى الدولة المستقلة.
المستقبل: بين واقعية السياسة وحلم الدولة
المستقبل الكوردي يظل مفتوحاً على كل الاحتمالات. قد تظل روجآفا نموذجاً ناجحاً إذا تمكنت من تجاوز التحديات الحالية، وقد يشهد إقليم كوردستان العراق استقلالاً حقيقياً إذا تغيرت المعادلات الدولية. ومع ذلك، يبقى الحذر من الخيانات المتكررة أمراً ضرورياً، كما أن الاعتماد على الذات وتوحيد الصف الداخلي هما السبيل الأنجع لتحقيق تطلعات الكورد.
*كاتب وباحث سياسي