فرحان كلش
بداية أقرُّ بأنني من أنصار العلمانية، ولكن تلك الواقعية والمنسجمة مع القيم العامة للمجتمع السوري، فهل هذا ممكن؟
إن ترويض الأفكار وتشحيذها وفق الرؤى المحلية ذات أهمية قصوى، خاصة ونحن نشهد زمن النمذجة الوطنية إن صح التشخيص، حيث نفتقد التوافق على رؤية واحدة في الاقتصاد والسياسة والمجتمع، وهذا ما يدفعنا للبحث المضني عن نموذج متوافق ولو جزئياً مع المنسوب الحضاري لمجتمعنا.
لذلك أردت إلقاء نقطة ضوء على الدعوات الكثيرة حول ضرورة فرض العلمانية على الدولة السورية التي قيد الإنشاء على أنقاض دولة القائد الأوحد.
الحقيقة إن الدراسات حول العلمانية كثيرة وذات تلوينات متعددة، فقط سأطرح امكانية تطبيقها على مجتمعنا السوري بإرثه الثقافي ذو البعد الديني – الإيماني بالعموم من جهة، و كذلك تعدد خصوصيات جل مكوناته الثقافية المتباينة، بحكم الإنتماءات القومية والدينية والمذهبية من جهة أخرى.
العلمانية هي مجموعة نظم اخلاقية وسياسية ومجتمعية وحقوقية … تهدف إلى تقديم الوضعي على الديني، في عملية فصل السلطات في الدولة، لتكون هذه حيادية تجاه الظواهر المجتمعية كافة.
وبالمفهوم الأوضح فصل الدين عن الدولة، أي تأسيس مجموعة قيم مجتمعية خارج المقولات الدينية، وسلطة الكهنوت والمشتغلين بالدين.
وفق هذا هناك ملاحظتان هامتان:
هل من الممكن منع هؤلاء من ممارسة السياسة وبالتالي وضع حد لرؤاهم والتي هي أيديولوجيا بجزأيه النظري والتطبيقي؟
نعم ذلك ممكن، ولكن لا أعتقد بإمكانية تحقيق ذلك قريباً إلا بالطرق العنفية، وهنا قد نشهد مفارقة أخلاقية، إذ كيف تمنع وتحرر في نفس اللحظة، لذلك شهدت أوربا وفي فرنسا تحديداً صراعاً مريراً، دامياً بين دعاة الفكر العلماني والمتشبثين اليمينيين بسلطة الكنيسة.
وهل نحن مستعدون لهكذا مواجهة؟
التجربة السورية السابقة فشلت في منع الإسلام السياسي من العمل للوصول إلى السلطة، فرغم الصراعات الدامية في الثمانينيات وما تلاها، نشهد الآن سلطة بشكل ما للإسلام السياسي.
إذا من الضروري البحث عن حلول أخرى، فإقامة الحكم الأقرب إلى مصالح الجماهير الاقتصادية والمعيشية، ذلك الحكم الذي لا يحيج المرء إلى اللجوء إلى رجل الدين ربما للدعاء له لكي يخلصه من أزماته، يمكن من خلال ذلك خلق فجوة بين رجل الدين والمواطن في البعد السياسي، وكذلك محاولة نشر ثقافات تتصف ببعد إنساني عام وجامع يمكن أن تحدث توجهاً مجتمعياً نحو التلاقي وفق هذه القيم التي تتبناها أغلب المجتمعات والمتضمنة في تفسيرات معاني (الصراط المستقيم) في كل الديانات الكبرى، وهذه خطوة هامة نحو تهميش دور رجل الدين وتدخلاته في التفاصيل الدقيقة لحياة الناس بهدوء والإنتقال التدريجي إلى بعض المداخل التي تتشكل منها العلمانية ذاتها.
وأيضاً يمكن القول بأن العلمانية تهدف إلى حيادية الدولة، والدولة في أساسها الموضوعي هي أداة الطبقة أو الفئة الحاكمة، فكيف يمكن تحقيق هذا المطلب إن لم نجد سلطة تدعو إلى العلمانية وتتبناها؟
نعم، فالعلمانية وإن أمكن فصل الدين عن الدولة، وحصر عمل رجال الدين في دور العبادة بمختلف تفرعاتها، بل وحمايته من أجل أن يمارس كامل طقوس معتقده، ولكن لا يمكن بسهولة كتابة قانون الأحوال المدنية مثلاً وفق النظرة العلمانية بسبب الروابط والقيم الأسرية والموانع الدينية والمجتمعية السائدة والتي ستشكل حاجزاً منيعاً بالضد من المختلف الذي تود العلمانية أن تفرضه، فالصدام مع المجتمعات المتدينة يحتاج صبراً وعملاً هادىءً ومضنياً.
لهذا كله فإننا سنشهد صراعاً فكرياً عميقاً قد ينزاح إلى أشكال أخرى عنفية ربما في ظروف ما، في ظل ما تروج له الإدارة الحالية والتي تمهد الأرضية لتطبيق نموذج للإسلام السياسي المائل نحو التشدد (نظراً للمنبت الفكري لجماعة (هتش))، وبقية السوريين بوجههم المتدين والحضاري، و إذا استثنينا الحاضنة الإجتماعية لهذه الإدارة فإن السوريين بالعموم متدينون معتدلون، سيجدون أنفسهم في خضم ضغط رؤى أخرى عليهم، وإن كانت من ذات المنبع ولكن بقيم لم يتبناها المجتمع السوري بالعموم على مرَّ تاريخه، و على الموازات من هذه الأفكار التي تتبناها الأغلبية الإسلامية السورية والتي هي في الوسط بين السلفية السياسية والعلمانية، هناك قوى ديمقراطية ويسارية تميل إلى الفكر العلماني، كان لها حراكها الثقافي في محطات متفرقة من التاريخ السوري.
هذا الصراع لن ينتهي لصالح أحد الطرفين بسهولة، لذلك من الضروري الابتعاد عن الآراء المتطرفة يساراً أو يميناً، فتغيير أمذجة الشعوب ليست عملية أوتوماتيكية أو خاضعة لرغبات نخبة أو فئة، بل هي عملية طويلة الأمد وتحتاج المرور بتجارب قاسية أحياناً، ريثما يتبلور الوجه الثقافي والقيمي لمجتمع ما، بمختصر الكلام، إن خض المجتمع السوري بطرق غير مناسبة سيشكل ضرراً بالغاً على المستقبل السوري.