إبراهيم اليوسف
الروح الكردية، تلك الروح التي تميزت بالتسامح والإيثار عبر الأزمان، كانت ولا تزال نموذجاً للمحبة والعدالة. في كل منعطف تاريخي، كان الكردي يقف مع الضعفاء والمظلومين، وهو الذي يرزح تحت كاهل آلة الظلم في وطنه المجزأ، بغض النظر عن دينهم أو طائفتهم. لكن هذه الروح الطيبة، رغم كونها مثالاً على التسامح، إلا أنها طالما كانت دائماً ما تتحول إلى فخ، حيث يتحول أصحابها إلى هدف لأولئك الذين يستقوون على حسابهم. وفي هذا المقال، سنتناول كيف أن الكردي كان وما زال هدفاً للتشويه من الأطراف كافة، وأن تسامحه لم يجلب له سوى مزيد من الأعداء.
إذ إنه منذ أن بدأ الصراع في سوريا، كان الكردي أول من وقف مع المظلومين بغض النظر عن هويتهم الطائفية أو الدينية. في البداية، كان الوقوف مع أهل السنة ضد النظام البعثي، إذ خرج شبابنا في أول الوقفات التضامنية مع درعا والمدن السورية المنكوبة واحدة تلو أخرى، رغم التاريخ المعقد بين الطرفين. لكن كما جرت العادة، وبمجرد أن تتغير القوى، يصبح الكردي هدفاً للاتهامات من قبل الجديد المتحكم، حسبه أنه في كل مرة مع الضعيف في مواجهة الظالم، وهو ما أجسده كشخص- مثلاً- في موقفي، و إذا كان هذا التسامح جزءاً من النبل الكردي، فإنه يتحول في كثير من الأحيان إلى سلاح ضده، فيصبح ضحية لممارسات من كانوا بالأمس معه في المعركة ضد الظلم.
صناعة الذريعة ضد الكردي: أعداء من كل الجهات
عندما تحولت الحرب إلى صراع طائفي، استخدم الكثيرون الدين والطائفة كأدوات للانتقام من الكرد، ولتحقيق مكاسب سياسية. ولعل أكثر ما يثير الاستفهام هو كيف أن الكردي، الذي نصر الآخرين في محنهم، أصبح هدفاً لاتهامات مشوهة لا أساس لها، من قبل الآخرين المظلومين سابقاً، والمتحكمين الآن؟:
“أنت انفصالي”، “أنت بارزاني”، “أنت قنديلي”، “أنت خائن”، “أنت خنزير” هي بعض النعوت التي بات الكردي يسمعها يومياً من أطراف كانت تدعي أنه شريك في النضال، لكنها انقلبت عليه لأنه يرفض أية تبعية لظالم أياً كان. لقد كانت هذه الذرائع تروج في سعي لتشويه صورة الكردي وتحميله أوزار الآخرين، سواء كانوا في مواقع السلطة أو في صفوف الفصائل المسلحة. في بعض الحالات، كانت أجهزة النظام البعثي- الأسدي هي الأداة الوحيدة التي استخدمت ضد الكرد، لكن ما هو أغرب من ذلك هو أن بعض القيادات السنية التي كانت في موقع السلطة- التي سميت وتسمى علوية- قد كانت أشد عداوة تجاه الكرد، وقد مارست الفساد والاضطهاد ضدهم في تلك الفترات، وقد كان الكرد من أوائل من عارضوا تلك السلطة، ومن أوائل ضحاياها الذين لم يكن أحد منهم، في مفاصلها، بعكس هؤلاء المنقلبين عليها.
لا حصانة لك أيها الكردي في مواجهة شهوة السلطة لدى شركائك:
لقد خدم الكرد الإسلام- السني، على مدار أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمن، كما خدموا شركاءهم، أية كانت رؤاهم وعقائدهم، ضمن حدود التعايش المشترك، دفاعاً عن القضايا المشتركة. لكننا، في لحظات المأساة، نجد أن بعض هؤلاء الذين كان الكرد إلى جانبهم في محنتهم- وأنا بصدد مجيشي العوام ممن يسمون بالنخب- يتحولون ضدهم، فهناك من انقلب ضدهم بين ليلة وضحاها، بل إن هناك من انقلب عليهم بين ساعة وساعة، أو حتى ضمن حدود ميقات الساعة الواحدة، لمجرد إصدار موقف، أو تأفف، يكسر إطار التبعية التي يعيشها شريك الكردي. الشراكة التي ظن الكرد أنهم يشتركون فيها مع بعض الأطراف تحت غطاء الدين كانت مجرد وهم، في ظل من يتخذ الدين مجرد أداة، وليس الدين الحنيف الذي أؤمنه به، وأكتب وأنا صائم، فمن من كل من عاشوا مع الكرد- أقصد الذين جزأوا خريطته- ضمن هذا الإطار كانوا أوفياء له؟!، ولنا أن نتأمل في لوحة الأنظمة الدكتاتورية المتعاقبة في سوريا، وليس في عهدي الأسدين الابن والأب فحسب، ولا حتى في عهد أمين الحافظ وحده، بل فيما قبل عهده، أيضاً، بل منذ لحظة الأ التأسيس التي أخلص لها الكردي، وخانه فيها شريكه، وهذا ما ينطبق على حالة الكردي في تركيا وإيران والعراق، على نحو أوضح وأشرس!؟
لأن تلك الروابط التي بنيت عبر التاريخ، للأسف، لم تشفع لهم. ومن هنا، فإن الكرد لا يحصدون في النهاية سوى أكذوبة تهمة: الخيانة!، رغم كل ما بذلوه من تضحيات. تصوروا أنموذجاً ثقافياً جد متفهم لشراكة الكردي، يغبط على عدد من المنشورات خلال ساعة واحدة، ويرى في أنموذج الوطنية، إلا أنه يسحب موقفه، وينقلب من موقف الصديق الوفي الأثيرلدي و المثني علي، ليتموقع في الجبهة التي تسحب مني كل خصيصة وخصلة إيجابية، ولن أتحدث هنا عمن هم مدربون- أي سواه وهو الذي أحترمه- من أجل تشويه تاريخ الكرد وجغرافيتهم، ماداموا يتحدثون عن خصوصيتهم، ولا يطوبون لتاريخ مزيف طارئ على مناطقهم!
وإذا كان الكردي قد خدم جيرانه ضمن رابط الإسلام أربعة عشر قرناً، واشترك معهم في حماية جغرافيا ودين وتاريخ مشترك، فإنه من الطبيعي ألا يبصر معادو وجوده من بين هؤلاء مواقفه خلال أربع عشر سنة من تأييد المظلوم ضد الظالم، بعد أن انتقل شريكه- ولا أعمم- من الخانة الأولى إلى الثانية، وبات يمارس الظلم، كظالم على سواه، فقال كلمته الفصل فيه، كما يقتضي ضميره وإباؤه،، فإن أربعة عشر يوماً، من الموقف المبدئي الجديد نسفت تاريخه – المضيء معه- في أربعة عشر قرناً. أربع عشرة سنة، وصار في دائرة: التهديد والوعيد والتبييد، لأنه ليس من ضمن الموالين له في حلم التأبيد الذي لن يفعله أنى ظلم شريكه سواه، وأن أربعة وخمسين سنة من عهد الأسد لم تثن الكردي عن موقفه الإنساني والوطني!
ما يتجلى بوضوح الآن، على ضوء كل ذلك، هو أنه لا الدين ولا الطائفة ولا الشراكة في النضال ولا حتى التاريخ المشترك يمكن أن يكون حصانة للكردي. بدلاً من أن يكون التسامح مفتاحاً للسلام، أصبح الكردي يعيش في ظل مجموعة من الذرائع التي تصنع ضد روحه الطيبة، ليصبح هدفاً في كل زمان ومكان. في الوقت الذي كان فيه الكردي يقف مع المظلومين، يجد نفسه اليوم مستهدفاً من كل جهة، دون أن يلقى الدعم الحقيقي من أولئك الذين عملوا معه في الماضي.
ولهذا، فإنه بينما كان الكردي يدافع عن المظلومين في كل زمان، فهو اليوم يدافع عن نفسه ضد الاتهامات التي تنسب إليه زوراً وبهتاناً. مع ذلك، فإن الروح الكردية، تلك الروح التي لا تعرف سوى التسامح والمحبة، لن تتغير. إن الكردي سيبقى وفياً لمبادئه، ولن يتوقف عن الدفاع عن العدالة دون أن يندم على مواقفه، حتى إذا كانت هذه المواقف قد جعلته هدفاً لمن يتسارعون في إلقاء اللوم عليه.