حوران حم
منذ انطلاق الثورة السورية في عام 2011 وما تبعها من انهيار مؤسسات الدولة وبروز قوى الأمر الواقع، أتيحت فرصة نادرة للكرد في سوريا لإعادة طرح قضيتهم الوطنية بصورة جديدة تتجاوز عقوداً من الإنكار والتهميش. غير أن المأساة لا تكمن فقط في عداء النظام والمعارضة لمعظم الحقوق الكردية، بل في أن الرؤية الكردية للحل، رغم الفرصة التاريخية، جاءت مضطربة، ضبابية، ومليئة بالتناقضات.
فمع تتالي الوثائق السياسية التي تصدرها الأحزاب الكردية، تلاحظ وفرة في المطالب والطموحات، مقابل شحّ في آليات الوصول إليها. يتكرر الحديث عن “دستور جديد يعترف بالكرد”، و”فيدرالية”، و”إدارة ذاتية منتخبة”، و”توزيع عادل للثروات”، و”إصلاح بنيوي في الثقافة والتربية”، ولكن قلّما نجد تصوراً عملياً يجيب عن أسئلة مصيرية مثل: كيف؟ مع من؟ متى؟ وبأي أدوات؟
الإفراط في الشعارات… طريق إلى العجز
المعضلة الكبرى في الرؤية الكردية الحالية تكمن في أنها تميل إلى رفع سقف الخطاب السياسي دون حساب للواقع أو لتوازنات القوى. حين تُرفع شعارات من قبيل “الفيدرالية الديمقراطية” أو “اللامركزية السياسية”، فإن ذلك لا يُرفق بخطة تنفيذية ولا بقراءة دقيقة لمواقف الفاعلين الأساسيين في سوريا: النظام، المعارضة، روسيا، تركيا، إيران، بل وحتى الولايات المتحدة.
بلغة أخرى، نحن أمام مشهد تُضخّم فيه الطموحات دون امتلاك أوراق القوة اللازمة. يُقال للكردي السوري: “ستحصل على كل حقوقك”، لكن لا يُقال له كيف، ولا ما الثمن، ولا ما هي مراحل النضال لتحقيقها. هذا الانفصال بين الخطاب السياسي والواقع العملي يجعل من الرؤية الكردية، في كثير من الأحيان، أشبه ببيان عاطفي أكثر منها مشروعاً استراتيجياً قابلاً للتحقق.
تناقضات داخلية وتشرذم سياسي
ليست الأزمة فقط في غياب خطة، بل أيضاً في غياب التوافق الداخلي. فالمشهد السياسي الكردي في سوريا يعاني من انقسام حاد بين تيارات متضادة، بعضها مرتبط بحزب العمال الكردستاني (PKK) وأيديولوجيته، وبعضها الآخر يدور في فلك المعارضة التقليدية أو يسعى إلى نوع من الحياد. كل طرف يدّعي تمثيل الكرد، ويطرح “رؤيته الخاصة”، مما يؤدي إلى تشتت الخطاب وغياب المرجعية الجامعة.
النتيجة؟ لا توجد “رؤية كردية واحدة”، بل رؤى متنافسة ومتناقضة، الأمر الذي يضعف الموقف الكردي في أي طاولة تفاوض، سواء داخلية أو دولية.
الرؤية بحاجة إلى مراجعة بنيوية
إذا أردنا الحديث عن “رؤية كردية للحل”، فعلينا أولاً أن نفرّق بين الحلم والبرنامج، بين الرغبة والإستراتيجية. الحلم مشروع، ولكن تحويله إلى واقع يتطلب:
- تعريف الهدف بدقة: هل نريد حكماً ذاتياً ثقافياً؟ فيدرالية؟ دولة مستقلة؟ أم اعترافاً دستورياً ضمن نظام ديمقراطي مركزي؟
- تحديد الأدوات النضالية: من التفاوض، إلى التحالفات، إلى الضغط الشعبي والدولي.
- بناء توافق داخلي: لن تقوم رؤية جامعة دون وحدة الحد الأدنى بين القوى الكردية.
- المرونة في التفاوض: لا بد من قبول التدرج في الحل، وتحديد خطوط حمراء وحدود ممكنة.
- ربط القضية الكردية بالحل الوطني السوري: أي رؤية تنفصل عن السياق السوري العام مصيرها التهميش والعزلة.
الشعب الكردي في سوريا لا ينقصه الحق، ولا يفتقر إلى الذكاء أو الشجاعة، بل إلى قيادة تملك رؤية واقعية، قابلة للتطبيق، مدعومة بخطط مرحلية وتحالفات ذكية. أما الاستمرار في تسويق الأوهام، ورفع شعارات فضفاضة دون مضمون عملي، فلن يؤدي إلا إلى مزيد من الآلام والخذلان.
مجمل الطرح السياسي الكردي، والخروج من دائرة الشعارات إلى ميدان السياسات، ومن منطق الرغبة إلى منطق الإمكان. فالتاريخ لا يرحم الشعوب التي تضيّع الفرص، ولا يرحم من يتاجر بآلامها.