الخطاب الطائفي في سوريا: نار تحت الرماد تهدد ما تبقى من الوطن

حوران حم

في زوايا الحديث السوري اليومي، في المنشورات السريعة على مواقع التواصل، في تصريحات بعض “القيادات” ومواقف فصائل تدّعي تمثيل الثورة أو الدولة، يتسلل الخطاب الطائفي كسمّ بطيء، يتغلغل في الروح قبل أن يظهر في العلن. لم تعد العبارات الجارحة التي تطال الطوائف والأقليات، والمناطق، والمذاهب، تُقال همساً أو تُلقى في لحظة غضب، بل باتت تُصرّح جهاراً، وتُرفع على شكل شعارات، وكأنها آراء مشروعة أو حقائق غير قابلة للنقاش.

أصبح من المألوف أن تسمع أو تقرأ أن العلويين كفار، أو أن الدروز عملاء، أو أن الكرد انفصاليون وملحدون، أو أن الشيعة مجوس، أو أن المسيحيين يتآمرون بصمت، أو أن الدمشقيين متملقون، أو أن الأرمن لاجئون غير مرحّب بهم. حتى السنة، الذين يُفترض أنهم الأغلبية، لم يسلموا من الاتهام، حيث يُرمى الصوفي منهم بالردة، ويُخوَّن السلفي إن لم يكن في خندق “الصحيحين”. يبدو وكأن كل مكوّن في هذا البلد متهم سلفاً، ومطلوب منه تقديم أوراق اعتماد دائمة لإثبات وطنيته أو إسلامه أو ولائه.

الخطير في الأمر ليس وجود هذه النظرات، فكل مجتمع يحمل في باطنه رواسب تعصّب وكراهية، لكن الكارثة تكمن في تحوّل هذا الخطاب إلى جزء من المشهد السياسي والإعلامي السوري. لم تعد الكراهية الطائفية تهمة يُتجنّب الوقوع فيها، بل أصبحت وسيلة للتحشيد وتأكيد الهوية في بيئة متشظية. الفصائل المسلحة، سواء تلك المرتبطة بالنظام أو المعارضة أو القوى الكردية، بات بعضها يتحدث بلغة طائفية علنية، يشيطن بها الآخر المختلف، ويستسهل عبرها التبرير للقتل والتهجير والهيمنة.

والمجتمع، المثقل بالحرب والدمار، صار أكثر استعداداً لتلقّي هذا الخطاب، لا من باب القناعة به، بل نتيجة الخوف، والتعب، والشعور بالخسارة. في مثل هذه اللحظات، تنبعث الغرائز، وتستيقظ الهويات الضيقة، وتُختزل الأسئلة الوجودية الكبرى في مفردات بسيطة: نحن وهم. من معنا ومن ضدنا. أهل الجنة وأهل النار.

ولعلّ الأخطر من الخطاب ذاته، هو ما يخلّفه من أثر عميق على النسيج السوري. الجار الذي كان شريكاً في الأعراس والأحزان، صار موضع شك. الصديق القديم أصبح طرفاً يُحسب حسابه طائفياً. المدن لم تعد مدن السوريين جميعاً، بل باتت تُوصَف بأغلبية طائفتها، وكأنها قلاع مغلقة. في لحظة ما، كدنا ننسى أن حلب حاضنة لكل المذاهب، وأن دمشق احتضنت الأرمن، وأن السويداء كانت دائماً بوابة الجنوب الوطني، وأن الجزيرة السورية مثال للتعددية الهادئة.

هذا التآكل لا يهدد فقط الوحدة الوطنية، بل يُسقط أي أمل بإعادة بناء سوريا على أساس مدني ديمقراطي. فكيف يمكن تخيّل عقد اجتماعي جامع، إذا كان كل طرف ينظر للآخر كخطر وجودي؟ وكيف يمكن أن تنجح أي عملية سياسية إذا كانت الطوائف تُعرَّف لا كمكوّنات وطنية، بل كأعداء محتملين؟

الطائفية ليست قدراً، وليست جينات نولد بها، بل هي أداة تُصنع وتُغذّى وتُستخدم حين تغيب العدالة، ويُقتل القانون، ويُخطف الإعلام، وتُفرَغ المؤسسات من معناها. والطائفية في سوريا ليست وليدة الثورة أو الحرب فقط، بل كانت موجودة في عمق النظام الأمني الذي حكم البلاد، وتكاثرت في ظل الغياب شبه الكامل لأي مشروع وطني جامع بعد 2011.

ما نحتاجه اليوم ليس فقط نقد هذا الخطاب، بل مقاومته. لا بصوتٍ خافت أو خطابٍ رمادي، بل بموقف واضح وشجاع. مواجهة الطائفية تعني الدفاع عن حق الجميع في الوجود والكرامة والانتماء. تعني الاعتراف بالتعددية كقوة لا كتهديد. تعني بناء ذاكرة جماعية لا تُقصي أحداً، وتعني استعادة مفهوم “المواطن السوري” كهوية سياسية وأخلاقية جامعة.

ربما تأخرنا كثيراً. وربما الجرح عميق، والخيبات كثيرة. لكن البديل عن هذه المواجهة، هو الغرق في حروب أهلية متتالية، لن يخرج منها منتصر، بل ستعيدنا قروناً إلى الوراء، شعباً مدمراً، وطناً منتهياً.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

م.اياز خلف في زيارة تحمل رمزية عالية، اختار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السعودية مجددًا كمحطته الخارجية الأولى في ولايته الثانية، في مشهد يعيد إلى الأذهان زيارته الأولى عام 2017. هذه الخطوة ليست بروتوكولية فحسب، بل تشير إلى أن الرياض ما تزال مركز ثقل إقليمي لا يمكن تجاهله، خصوصًا في الملفات الحساسة والمتشابكة، وعلى رأسها الملف السوري. تأتي زيارة ترامب في…

صالح بوزان ـ دادالي ما إن تنفس الشعب السوري الصعداء بكافة أطيافه ومكوناته وتياراته يوم ٨ كانون الأول من العام ٢٠٢٤ بسقوط نظام البعث في سوريا وهروب رأس النظام بشار الأسد ، إلا أنه وبعد أيام معدودة من سيطرة الجهاديين المنضوين تحت لواء هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا)، بقيادة أبو محمد الجولاني ( أحمد الشرع )، وانتشار تلك…

يتابع المجلس الوطني الكردي باهتمام بالغ التطورات الأخيرة المتعلقة بإعلان حزب العمال الكردستاني، في مؤتمره الأخير، وقف العمل المسلح وحلّ الحزب، استجابةً لدعوة زعيمه السيد عبدالله أوجلان. ويعتبر المجلس أن هذه الخطوة تمثل تحولاً سياسياً مهماً وإيجابياً من شأنه الإسهام في تعزيز فرص السلام والاستقرار في تركيا والمنطقة عموماً. وإذ يثمّن المجلس الوطني الكردي هذا التوجه نحو المسار السلمي، فإنه…

فواز عبدي   حسب ما قرأت فإن ما حدث في بحيرة ميدانكي بريف عفرين لا يمكن اختزاله فقط في نفوق الأسماك أو انبعاث روائح كيميائية غريبة من الماء. إننا أمام جريمة متكاملة الأركان، تُرتكب عن سابق إصرار وتصميم، في منطقة أنهكتها الحرب، ولم تَسلم حتى مواردها الطبيعية من وحشية الإنسان. إن تسميم المياه ليس فقط خرقاً بيئياً أو تهديداً للصحة…