خورشيد شوزي
الإعلام، بوصفه السلطة الرابعة (كما يسميه البعض) في المجتمعات الحديثة، لم يكن يوماً مجرد ناقل للأخبار، بل هو فضاء مفتوح تتقاطع فيه الحقائق مع المصالح، وتنصهر فيه الموضوعية مع التوجهات السياسية والأيديولوجية. في عالم مثالي، يُفترض أن يكون الإعلام حارساً للحقيقة، يضيء زواياها المظلمة، ويكشف زيف الادعاءات والتضليل. لكنه، في كثير من الأحيان، يتحول إلى أداة في يد القوى المتنفذة، تُسخِّره وفق أجنداتها، وتُلبسه ثوب النزاهة وهو بعيد عنها كل البعد.
النزاهة الإعلامية ليست مجرد شعار يُرفع، بل هي التزام بالمهنية والموضوعية واحترام عقل المتلقي. لكن عند التمعن في أداء معظم القنوات الإخبارية الناطقة بالعربية، نجد أن الحياد ليس سوى وهم، وأن كثيراً من هذه القنوات تخلَّت عن دورها في نقل الحقيقة بصدق، واختارت أن تكون طرفاً في الصراعات، مسهمة في تضليل الرأي العام بدلاً من تنويره.
لنأخذ على سبيل المثال التغطية الإعلامية للمؤتمرات الدولية حول سوريا، وكيف يتم انتقاء العبارات والمصطلحات بعناية لتوجيه الرسائل السياسية المرغوبة. خطاب المسؤولين الغربيين، وخاصة الفرنسيين، حول دعم الكرد في سوريا، تم تحريفه عمداً في الإعلام العربي، حيث تم تجاهل التصريحات الصريحة التي أكدت على التحالف مع قوات سوريا الديمقراطية وضرورة إشراكها في مستقبل سوريا، واستبدالها بروايات أخرى تخدم مصالح قوى إقليمية معينة.
في المؤتمر الدولي الأخير حول سوريا، صرّحت الدول الغربية، وعلى رأسها فرنسا، بوضوح أن الكرد جزء أساسي من خارطة سوريا المستقبل. لكن القنوات العربية لم تنقل ذلك بحياد، بل تعمّدت اجتزاء التصريحات وتحريفها، مضيفة مصطلحات مثل “الجيش العربي السوري” بدلاً من “الجيش السوري”، في محاولة لإقصاء الهويات الأخرى عن المشهد السوري الجديد. فهل يعقل أن يتم الحديث عن إدماج قوات كردية في جيش يُوصف بأنه “عربي”؟ أليس الأجدر استخدام مصطلح يعكس تنوع سوريا القومي والإثني؟
إن هذه الممارسات ليست استثناءً، بل هي نهج متبع في العديد من القنوات الإعلامية التي تتبنى خطاباً يعكس مصالح الجهات التي تموّلها أو تديرها. وللأسف، بات الإعلام العربي المرئي (والمكتوب) اليوم أحد أدوات تشكيل وعي زائف لدى المشاهدين (والقراء)، يخدم مصالح قوموية وإيديولوجية معينة، بدلاً من أن يكون منبراً للحقيقة والتعددية واحترام الآخر.
الكرد، كما غيرهم من المكونات السورية، ليسوا فصيلاً هامشياً يمكن تجاهله، بل هم جزء أصيل من نسيج البلاد، وتاريخهم وحقوقهم لا يمكن طمسها بقرار إعلامي أو بموجة من التضليل المنهجي. لقد جُرِّب إنكار وجودهم على مدى عقود، وفشلت كل المحاولات الرامية إلى تذويبهم أو تحييدهم. واليوم، في مرحلة إعادة تشكيل سوريا، لا يمكن لأي طرف إقصاؤهم أو فرض رؤية أحادية تستثنيهم.
إلا أن القضية تتجاوز الشأن السوري، فهي تعكس أزمة أوسع في الإعلام العربي، الذي لا يزال يعاني من التسييس والرقابة، ويعتمد على الخطابات القومية أو الدينية الضيقة التي لا تترك مجالاً للرأي الآخر. السؤال الذي يطرح نفسه: إلى متى سيظل الإعلام أداة بيد الأنظمة والقوى المسيطرة، بدلاً من أن يكون سلطة حقيقية تعبّر عن نبض الشارع وتقدم الحقيقة دون تحيز؟
لقد آن الأوان لأن يتحرر الإعلام العربي من قيوده، وينقل الحقيقة كما هي، لا كما تريدها الأطراف المتحكمة فيه، وأن يتبنى خطاباً أكثر انفتاحاً وموضوعية، يحترم عقول المشاهدين ولا يستهين بقدرتهم على التمييز بين الحقيقة والتضليل. فالأحداث تتسارع، والتاريخ يُكتب من جديد، ومن يظن أن بإمكانه تزوير الواقع أو فرض سردية واحدة، فهو واهم. الشعوب لم تعد كما كانت في الماضي، والمعلومات لم تعد حكراً على جهة بعينها، وفي هذا العصر الرقمي، الحقيقة ستجد طريقها إلى العلن، مهما حاول الإعلام التقليدي طمسها أو تحريفها.