الشعوب العربية من دولة الإستبداد السلطوية، إلى ثورة الإنعتاق والحرية.
التاريخ: السبت 12 شباط 2011
الموضوع: اخبار



خالص مسور

هل نسمي ما حدث في كل من تونس ومصر بالانتفاضة أم بالثورة...؟ وفي الحقيقة فإن الفرق بين الاثنتين يكمن في أن الإنتفاضة هي وقوف الشعب بكل فئاته الإجتماعية والسياسية في وجه الدولة السلطوية وتحطيم الاستبداد وقهره ولكن دون اللجوء عادة إلى إجراء تغييرات بديلة وراديكالية حاسمة، أما الثورة فهي نهوض الشعب وتحطيم الاستبداد وبناء البديل السياسي والسير بقوة نحو التطوير والتغيير والتحديث والتحويل من كاريزمات الدولة السلطوية إلى ركائز الدولة الديموقراطية.


 وضمن هاتين المقولتين يمكن اعتبار ما حدث في تونس ومصر بأنها ثورات أبعد من الانتفاضات أثراً كما تختلف معها في الأهداف والنتائج، فالشعب في تونس تمكن من هزيمة رأس السلطة ووضع البلد في أيدي الشعب وممثليه الحقيقيين، كما أن الشعب في مصر استطاع ترحيل غول الاستبداد وبناء الديموقراطية والانتخابات وحكم الشعب.

وفي قراءة سريعة لتاريخ الدولة وتنوعها، نرى أن ظهور الدولة السلطوية – الثيوقراطية كان في عهد دويلات ممالك - المدن السومرية في حوالي منتصف الألف الرابع قبل الميلاد وما بعده، فكانت الدولة أداة الاستعباد الروحي والسياسي والاقتصادي وفيها لم تكن هناك ملكية خاصة بالمعنى المتعارف عليه للملكية بل كان كل شيء عائد للملك يشاركه فيه قليلاً أو كثيراً الكهنة الربانيون، وكان الملك ظل الله في الأرض يحكم بتفويض من الله وهو سيد البلاد وحاكمها الأوحد بدون منازع. وضمن هذا المسار التاريخي عرفت الممالك السومرية والإمبراطوريات القديمة الأخرى كالبابلية، والأكادية، والآشورية في بلاد الرافدين، نوعاً من الاستبداد السياسي في إدراتها للحكم من قبل الأوليغارشية الحاكمة للدولة السلطوية، مما أدى على الدوام إلى انتشار الفساد والمحسوبيات فيها وكتم صوت الشعب ولجم تطلعاته.
ولكن ومع الدولة الديموقراطية في اليونان ظهر بصيص أمل لدى الشعب اليوناني الذي انتقل سريعاً وفي وقت مبكر نحو ساحات العلم والفكر، وسيطرت النزعة العقلانية والتفكير المنطقي في هذه الدولة، أو بالأحرى الدويلات الديموقراطية التي كانت تجري فيها انتخابات حرة ونزيهة ترفع أياً كان إلى سدة الحكم أوإلى مؤسسات الدولة بعد اجتماع حاشد في ساحة المدينة أو(الآغورا) وفي يوم معلوم لتجري فيه انتخابات علنية ومباشرة وبرفع اليد أو بالقرعة بين المرشحين للمناصب. وفي المنطقة العربية عرف العهد الراشدي نوعاً من الديموقراطية متمثلة بنظام الشورى وهو ما اعتبر نقلة نوعية سديدة في طريقة الحكم حسب مفاهيم ذاك الزمان، وإن كانت هذه الشورى والاختيار كانت تنحصر في أكابر الصحابة من قريش، وحتى هذه فكانت نقطة إيجابية ومنطقية ومقبولة تماماً، لأن اختيار الناس لواحد ذوي الأصل الوضيع من مثل بلال الحبشي أو أبي هريرة وهما ربما الأكثر ورعاً وتديناً، لم يكن بالحل المنطقي نظراً لحداثة الإسلام في القلوب ولأن العقلية القريشية ذات السمة القبلية لم تكن قد خمدت جذوة أوارها بعد. وفي العهدين الأموي والعباسي عاد الاستبداد والحكم الثيوقراطي إلى واجهة الحدث السياسي بكل زخم وقوة ، وكان الفقه الإسلامي المطبق بشكل مخالف للنصوص الدينية هو المعين الذي نهل منه الاستبداد ماء حياته، ونستشهد هنا بقول ابن تيمية الفقهي ما معناه: ( أطع أولي الأمر منك ولو ضربك، وسبك، وأكل مالك). ولكن يبدو هذا القول مجانفاً لحقائق الدين وفي غير محله تماماً بل هو غير صحيح جملة وتفصيلاً ويتعارض مع الحديث الشريف : (من رآى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).
فالثورات التي باتت تقودها الشعوب العربية الآن هي في طور محاربة المنكر بألسنتها التي تلهج بالتغيير السلمي واالديموقراطية واللحمة الوطنية ووحدة مكوناته. كما شهدت الدولة السلطوية في روما فترة بائسة من الاضطراب والعنف السلطوي سميت بحكم الطغاة  ويعتبر الإمبراطور (كاليجولا) -37-41  م، مع قريبه (نيرون) الذي أحرق عاصمته روما من أشهر سفاحي العالم وطغاة التاريخ. وفي الحقبة العثمانية عادت الاستبداد والفوضى والرشوة والفساد لتغزو مفاصل خلافة آل عثمان بقوة مرة أخرى وقد دام ذلك آماداً طويلة، إلى أن بدأت رياح الوعي القومي تهب من أوربا إلى الساحة العربية لتبدأ حركة قومية نشطة جرت أنساغها في عروق أقطاب القومية العربية آنذاك وهم يرومون التخلص من إرث الاستبداد العثماني الثقيل. رغم أن البعض من المصلحين ك(محمد عبدو) مثلاً نادى بحكم المستبد العادل، لكن مفهوم الاستبداد حتى مع العدل الذي أدخله المصلحون في الموروث الإسلامي أو ما يمكن تسميته بالفكر الديني الإسلامي، هو في الوقت ذاته نفي للديموقراطية تماماً.
وفي نقلة أخرى وبعد استقلال الدول العربية ظهرت دول تتمتع بقسط وافر من الديموقراطية وبدأ التنافس على منصب مؤسسات الدول فيها عن طريق الانتخاب والاقتراع المباشر، ولكن لم يمض على هذا وقت طويل حتى تناهب العسكر للإمساك بزمام السلطة وظهور الحكومات الفردية ومعها ما يسمى بالدولة السلطوية من جديد لتقضي على بذور الديموقراطيات الناشئة ووأدتها في مهادها، وبدأ الفساد والرشوة والمحسوبيات تنخر في مفاصل الدولة ومعها بدأ عصر تهميش دور الشعوب وإفقارها وتدمير ونهب أموالها بشكل منهجي ومنظم ولا أدل على ذلك مما أذيع عن ( ثروة عائلة الرئيس المصري حسني مبارك التي بلغت حسب الإحصاءات البنكية ما بين 40 – 70) مليار دولار. ومع الدولة السلطوية التي شمخ صرحها في الساحة السياسية العربية جرى تقزيم دور الشعب وإرباك الهامش السياسي، وظهور دعوات قومية متطرفة لاتجد سوى نفسها في الساحة الوطنية، دائبة على إلغاء الآخر المختلف وإنكار حتى ثقافته ووجوده.         
أي أن الكارثة هنا حاقت بأهم ركيزتين على صعيد الدولة السلطوية وهما الركيزة الاقتصادية والسياسية في آن واحد، ورغم أن الاقتصاد هو محرك التاريخ بما يشكله من بنية قاعدية ديناميكية يلعب الدور الرئيسي في حياة الشعوب المصيرية، ألا أن هناك من يرى أن الثقافة والسياسة وهما بنيتان فوقيتان - حسب مقولات الاشتراكية - تتمتعان اليوم وخاصة الثقافة منهما باستقلالية ليست نسبية فقط بل بأهمية لا تقل بل قد تفوق أهمية الجانب الاقتصادي نفسه، وهما يمتلكان اليوم إمكانية توجيه دفة هذا الحراك الإقتصادي المصيري الخطير، لكن وفي حالات التوجيه غير الحكيم أو حدوث ما يعرف بالتصنيم السياسي، أوانزلاق الدولة السلطوية في خطابها السياسي إلى حالة من الميتافيزيقية والبؤرة الكاريزمية الصارخة، والإصباح في حالة انقطاع تام عن إرادة الشعب، عندها تدخل الدولة في حالة من الاضطراب والتباطؤ أو التلكؤ عن مسيرة الحرية والانفتاح السياسي على شعوبها، والدولة التي لاتجيد لعبة الإنفتاح على شعوبها فلن تكون في منآى عن الاضطرابات الداخلية والمشاكل الاقتصادية والسياسية المستعصية وسيتقرر مصيرها وفق معادلة نيران البوعزيزي أوفي ميادين التحرير.
هكذا أسهم الاستهتار بإرادة الشعوب والتخبط السياسي على الخصوص في الدولة السلطوية، إلى تخلف هذه الدولة أشواطاً عن تلك التي تنتهج في سياساتها منهجيات عصرية متقدمة، كما هو الحال مع الدول الأوربية التي سبقتنا كثيراً في هذا المضمار فبينما تقدموا هم في جميع نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، تخلفنا نحن في العالم الثالث، لنعاني من الجهل والخوف من التجديد ومن محدودية الأفكار والارتهان على العقل التكتيكي دون الإستراتيجي، وانعدام القدرة على الإنفتاح على عصر مفرزات المعلوماتية والمخترعات الحديثة في الجانب التقني وعلى الديموقراطية والحريات العامة في الجانب السياسي. وهو ما يتوجب علينا – كعالم ثالثيين – السير بخطى عجلى نحوها واعتماد لغة الشفافية والتجديد والبعد عن المكرس وما هو قارسياسياً وزحزحة ما هو هامشي في مسيرتنا الديموقراطية والسياسية. وقد أثبتت الأحداث أن الشعب الذي لايتمتع بحريته واستقلاليته الاقتصادية وحريته السياسية سيبقى على الدوام عالة على غيره، بل سيفرخ جملة من المشاكل السياسية المستدامة والمؤدية إلى حالة من الهيجان والتفجير كما كان الحال في تونس واليوم في مصر التي تعالى صوت شيبها وشبابها ضد قيود الظلم والفقر والاستبداد ليفجروها ثورة الحرية والتغيير بشكل يدعو إلى الدهشة والإعجاب، وقد قال الكواكبي: (إن الأمة التي لايشعر كلها أو بعضها بالاستبداد هي أمة لا تستحق الحرية). لكن كلام الكواكبي تنقصه آليات الثورية والتغيير لأنه ليس للمرء أن يشعر المرء بالاستبداد فحسب بل مواجهته أيضاً.
واليوم ونحن على أعتاب ثورات الشعوب العربية والتي باتت أكثر زخماً وتأثيراً على الصعيد العربي والدولي من ثورات الطلاب الهادرة التي جرت في أوربا عام 1968م، لابد وأنها ستؤدي إلى تحولات هامة في مفاصل الدول العربية السلطوية عن طريق ما يمكن تسميته بالإصلاح الذاتي أو الإصلاح من الداخل.
وما نشاهده من صرخات الاحتجاج لدى الشعوب العربية للمطالبة بالتغيير والرحيل  ليس بسبب نضج الظروف الموضوعية من مثل الإستبداد والقهر والتجويع والترويع فحسب، بل كان إحدى نتائج النهوض الشعبي الشجاع ومفرزات ازدياد الوعي الوطني وكسر جدار الخوف المستديم، لتصبح هذه الاحتجاجات تعبيراً عن تحول سلسلة من التراكمات الكمية من القهر والكبت والقمع في نفوس الشباب المصري، إلى تراكمات نوعية في مظاهرات الشباب التي باتت تهدر الآن في ميدان التحرير بكل قوة وعنفوان، كما أنها نفي للنفي كون ثورة الشباب المطالبة بالرحيل والتغيير هو نفي للعقلية الطللية والترقيعية القديمة بكل وضوح وجلاء. هذا ومن جانب آخر فقد أثبتت أحداث الثورة المصرية أن المناداة بالدولة الوطنية هو الحل الأمثل للقضاء على المشاكل المستعصية في الدولة الحديثة، في وقت لا تخلو فيه سوى القليل من دول العالم من فسيفساء عرقية ساهمت في بناء أوطانها إلى جانب الأعراق الأخرى، فلا يجوز والحال هذه إقصاء الآخر كمكون وطني إلى جانب المكونات الوطنية الأخرى، وقد كنا جميعاً شهوداً على التلاحم الوطني وإقامة صلاة الغائب والقداس معاً على أرواح شهداء الشعب المصري، وعلى الهتافات الصادحة بأخوة الأديان وعناق الهلال والصليب وسط المظاهرات الحاشدة في ميدان التحرير بالقاهرة. كما شاهدنا كيف تعاملت الدولة السلطوية في مصر والتي أضحت رهينة في أيدي فروع أمنية أطلقت النار على المتظاهرين المسالمين في ميدان التحرير، وتعاملت مع شعبها معاملة المستعمر بل بأشد منه قساوة وأفظع، وما يحدث في الساحات المصرية والتونسية يمكن أن يحدث في أي مكان تكبت فيه الحريات وينتشر الفساد والمحسوبية وحالات إقصاء الجماهير الغفيرة من الفقراء والمهمشين، أو ممن هم تحت خط الفقر والذين إن ثاروا فلا يخسرون سوى قيودهم. والمطلوب اليوم من الدول ذات النزعة السلطوية إتخاذ إجراءات سياسية واقتصادية واجتماعية عاجلة، والعمل على ترسيخ قيم الحرية والعدالة الاجتماعية وإيجاد نوع من الثقة بالوعود المبذولة والانفتاح على التغيير والتطوير بما يتناسب مع متطلبات شعوبها لتنعم بالسلم الأهلي وتتجنب ما هو قادم من أعاصير الحرية وثورات الغضب وعنف الشعوب. وختاماً  نقول: أن كل المشاهدات من الثورتين التونسية والمصرية تعطينا الحق في أن نسمي ما حدث بعصر الثورة المعلوماتية بامتياز حيث تمكن المدون المصري خالد سعيد، من إشعال نيران الثورة الشعبية في في مصر أقوى وأكبر دولة عربية بحضه المتظاهرين من خلال وسائل الإعلام الحديثة منها الإنترنيت والفيسبوك، لتتكلل الثورة بتنحي الرئيس المصري حسني مبارك نزولاً عند إرادة الشعب في هذا المساء 11/2/2011م بعد مكابرته وعناده وتمسكه الغريب بالسلطة وليثبت بذلك الشعب المصري للعالم أجمع، بأن عصر ثورات الشعوب لم تنته بعد.








أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=7847