كنت في الحج وكانت المسرَّات والحسَرَات
التاريخ: الأربعاء 24 تشرين الثاني 2010
الموضوع: اخبار



د.علاء الدين جنكو
 
كانت تراودني بعض التساؤلات وأنا أقرأ وأدرِّس مواضيع الحج، أمن المعقول أن تكون أعمال ثلاثة أيام في مكة المكرمة ذهاباً وإياباً ركناً من أركان الإسلام مثل أعمال تلازم الإنسان طوال حياته كالصلاة المفروضة يومياً، وصوم شهر رمضان المبارك سنوياً، والزكاة المفروضة على المال إذا بلغ النصاب كلما حال عليه الحول ؟
إلا أن الأمر كان على غير ما كنت أتصوره، فالحج بمناسكه دورة تدريبية مكثفة، على الإنسان المسلم القادر والمستطيع المشاركة فيها وتجاوزها .


إنها اللحظات التي تذوب فيها كل الفوارق البشرية والحواجز المادية بين الناس ليقف الجميع في محراب العبودية بين يدي الله سبحانه وتعالى .
كانت اللحظات الأخيرة من نهار التاسع من ذي الحجة ونحن على جبل عرفات والشمس بمظهره الدائري الساطع يلوح برحيله التدريجي مودعاً جموع العباد وهم متوجهون إلى القبلة بقلوبهم الخاشعة رافعين أكف الضراعة لله الواحد الغفار، لعلهم يحظون برحمة الله تعالى في غفران ذنوبهم ، ويتقبل منهم حجَّهم والتجاءهم إليه جل جلاله .
كانت الابتهالات والأدعية والأذكار تُردَّد بلغات العالم المختلفة، حقاً كان موقفاً جديراً بأن يباهي الله تعالى به وبعباده المتضرعين إليه الملائكةَ في الملأ الأعلى .
كانت مشاعري تختلط بمشاعر الملايين الذين كنت أجدني ذائباً في جماعتهم، تجمعنا عقيدة واحدة ومكان واحد، وعددنا يتجاوز الملايين، والجميع متساوون في كل شيء ضاربين مقاييس التفاضل المادي والبشري عرض الحائط .
وتنطلق الجموع نحو مزدلفة للمبيت فيها في مشهد مهيب أشبه ما يكون بيوم الحشر وهو ما جعل العلماء يطلقون عليه اسم (الحشر الأصغر) ارتمى الحجاج في العراء يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ، ليأخذوا قسطاً من الراحة ولسان حالهم يقول : غداً تنتظرنا مهمة عظيمة .
وما أن صدح المؤذن بكلمة التوحيد في فجر يوم العيد حتى انطلق الحجاج من جديد في رحلة رمي الجمرات في إشارة لرفض الشر ورجمه مقتدين بأبي الأنبياء إبراهيم الخليل عندما رجم إبليس في هذا المكان .
ليقفوا في محطة يعلنون فيها البراءة من الذنوب والمعاصي بحلق رؤوسهم أو تقصير شعر رؤوسهم في صورة رمزية تغشاها مشاعر إيمانية تترقب رحمة الله تعالى لا تراودها في ذلك شكوك .
وبعد التحلل الأصغر كان التوجه إلى المسجد الحرام لأداء طواف الركن وهو طواف الإفاضة حيث الوعد الحق بالتزام الإيمان والسير على طريق الخير في صورة رائعة تجذب الكعبة الطائفين نحوها وكأنها مغناطيس تسحب قطع الحديد !!
وبعدها تتابعت المناسك الأخرى وهي رمي الجمرات والمبيت بمنى وطواف الوداع .
 
مسرات وحسرات !!
مشاعر الفرح كانت تسيطر على الحجاج بدون أدنى شك ، فتوفيق الله تعالى لهم بالوصول إلى هذه الأماكن المقدسة كاف لتلك السعادة التي لا توصف ، ورؤية الإنسان نفسه في جموع الحجاج وعددهم يتجاوز الملايين تبعث في النفس الإيمان واليقين المطلق أنه ينتمي إلى أمة حية لا تموت مادامت هذه المناسك قائمة بين المسلمين .
ومع ذلك ظهرت بعض التصرفات التي عكرت صفو تلك السعادة !!
اتصلت هاتفياً بأحد أصدقائي أشتكي إليه حالة المسلمين التي أراها أمامي فأجابني بعبارة هدأت من روعي قليلاً وهو يقول : يا أخي ليس هناك مكان يظهر فيه تخلف المسلمين بشكل جلي كما هو في الحج ، وذلك من خلال تصرفات الحجاج وسلوكياتهم السلبية !!
مع كل أسف كان صديقي وزميلي صادقاً في حكمه ذاك على الأقل لما رأته بأم عيني .
فالمظاهر السلبية كانت منتشرة على طول أيام وأماكن الحج ، ابتداء من النظافة المفقودة والتي دعا إليها الإسلام وجعلها شطر الإيمان، ومروراً بالاحتكاكات المزعجة أثناء الازدحامات من غير مراعاة لأحوال بعض الفئات، وانتهاءاً بالجهل بأحكام الحج ومناسكه .
أعجبني الحجاج الماليزيين والأتراك لالتزامهم بالهدوء والنظام وعند سؤالي عن حملاتهم أجاب الماليزيون بأنهم مدربون على أداء المناسك في ماليزيا قبل وصولهم للسعودية، أما الأتراك فيرافقهم أشخاص متخصصون بتنظيم الحجاج .
 
ومما زادني سروراً وفرحاً لقائي في أيام الحج بإخوتي الحجاج الأكراد القادمين من مناطق مختلفة في دول الخليج، وجددت اللقاء ببعضهم بعد فراق سنوات .
كما سعدت بلقاء حملة الحجاج الأكراد القادمين من كردستان العراق ، وسعدت أكثر عندما اخبروني بأن عددهم يتجاوز الأربعة آلاف حاج بإشراف رسمي من حكومة إقليم كردستان .
ومما لفت نظري أيضاً ما رأيته من حملة الأكراد القادمين من كردستان إيران حيث كانوا يسيرون مع جموع الحجاج تاركين السير خلف الحملة الرسمية الإيرانية !!
 
ودعنا مكة بعد أن قام الإخوة الحجاج الأكراد بحملة نظافة حول المسجد الذي كانوا مقيمين فيه  لعدة أيام في صورة حضارية، مما كان له الأثر البالغ على الحجاج الآخرين، وما أجملها من عبارة سمعتها من أحد الحجاج المصريين وهو يعبر عن سعادته لتلك الحملة قائلاً : هذا الأمر ليس بعجيب على أحفاد صلاح الدين !!
 
تذكرت وأنا عائد في طريقي إلى البيت ما قام به رئيس الوزراء البريطاني الاسبق (جلاد ستون) في أواخر القرن التاسع عشر في إحدى جلسات مجلس العموم البريطاني والتي خصصت لتدبيرات عدائية ضد الإسلام . فقام (جلادستون) ليعلن أمام أعضاء المجلس بأنه لا يمكن القضاء على الإسلام إلا إذا تم القضاء على القرآن، وعلى المسجد الحرام ( الكعبة ) وعلى صلاة الجمعة وعلى شعيرة الوقوف بعرفة في الحج .
وذلك لأن القرآن هو دستور المسلمين المقدس الذي لا يختلف عليه جميع المسلمين فهو الذي يوحدهم ويجمعهم على اختلاف جنسياتهم وقومياتهم وألوانهم ومذاهبهم ..
ولأن المسجد الحرام يجمع ملايين المسلمين في وقت واحد ...
ولأن صلاة الجمعة يناديهم إليها داعياً من الله في ساعة معينة لا يتخلفون عنها ....
ولأن الوقوف بعرفه هو الذي يجعل المسلمين يلبون داعي الحج وبه يتحقق الحج وهو يسبق عيد المسلمين الكبير ...







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=7609