إن الحداثة السياسية تؤسس للمواطنة، وتكفل سائر حقوق الفرد، بخلاف الدولة الشمولية التي تفكر رجالاتها بعقلية السلاطين ولا تنظر إلى سلطتها السياسية إلا بمعنى الولاية على البشر ولا ترى في الشعب إلا رعايا ومحكومين فما على السلطة إلا أن تصدر أحكاما وأوامر وليس أمام المحكومين سوى الطاعة والانقياد، ينقل لنا أحد الأثينيين على لسان حاكم جائر قوله: أليست الدولة لمن يحكمها؟! وأيضا في ظل دولة استبدادية، تتخلق بيئة مؤاتية لإنعاش العصبيات العرقية، والقبلية، والطائفية، والمذهبية ..الخ وتسبب لإنبات الضغائن، والأحقاد بين مختلف الجماعات، وتفضي بالتالي إلى إضعاف الوحدة الوطنية وتماسك أبنائها وإضاعة المواطنة حيث يضطر الفرد للبحث عن هويته من خلال تلك العصبيات.
لقد أصيبت الجماهير العربية بخيبة أمل كبيرة، على ما كانت تعقـده من آمال عريضة على القوى الراديكالية التي تسلمت السلطة ولم تف بما قطعته من وعود؛ وإلى اليوم ما تزال تلك القوى تتستر بعباءة القومية ، وتتسربل بشعارات ثورية ولو على درجة أقل من السابق، وهنا لا بد من القول ما الذي تغير في حياة المواطن العادي ؟ الذي تخلص من نير الأجنبي ليبتلي بنير ذوي القربى وهو ليس أقل وقعا ومضاضة! يقول فولتير : "ما هو الفرق بالنسبة إلى الرجل الفقير، سواء أكله سبع أم فئة من الجرذان؟" لقد برهنت تلك القوى عن عجزها من مجاراة روح العصر. فغالبا ما تشكلت الدول القومية ضمن ميول احتكار السلطة وروح معاداة الديمقراطية، فقد جرى اختزال السلطة فـي أجهزة أمنية حتى سميت بعض الأقطار بالدول الأمنية؛ فانشل المجتمع، وغيبت المواطنة وسرى الخوف والرعب بين المواطنين ، وانتفت معاني التضحية مع انتشار روح الأنانية والذاتية، وغاب نداء الواجب والإحساس بالمسؤولية، وغـدا جمع الثروة هو الذي يتحكم في سلوك الأفراد، ويحرك غرائزهم، وأصبح الافتراء والتزلف والنفاق والكذب سمة الإنسان المقهور والمنافق كوسيلة لنيل رضا السلطان.
قارنوا هذه الحالة بما كتبه رحالة فرنسي جاب روسيا القيصرية في النصف الأول من القرن التاسع عشر بحالة مشابهة من الخوف المطبق الذي عم أرجاء روسيا يقول:" الكذب هـو البرهنة عن مواطنة صالحة، وقول الحقيقة يعني التآمر ."
إن الدولة الحديثة، هي دولة المواطنة، هي دولة ترتكز على إرادة مواطنين أحرار، ترعى الدولة حقوقهم، وتكفل حرياتهم، وحتى تكون الدولة لجميع المواطنين فلا بد أن تكون ديمقراطية،تتمثل فيها سائر الحركات الاجتماعية والسياسية وتتمتع هذه الحركات بحرية الحركة والنشاط والتعبير والتنظيم.
الدولة الحديثة هي دولة المؤسسات دولة القانون ، يكون القانون سيد الجميع والشعب مطالب بأن يحارب من أجل سيادة القانون كما يحارب من أجل سور المدينة حسب تعبير هيراقليط، مثل هذه الدولة عصية على الاختراق من قبل أي عات، لأنها محصنة من الداخل بسياج المواطنة أما الدولة التي تستعبد مواطنيها، وتفقدهم حرياتهم، وترمقهم بنظرة استبدادية تمييزية؛ مثل هـذه الـدولة سهل اختراقها؛ لأن المستعبد يعجز عن حماية الأوطان كونه لا يملك شيئا يدافع عنه.
بـل الدولة لذاك الذي له دار وأرض وصوت بتعبير فولتير أي حق المشاركة في تسيير شؤون البلاد أجل! إن المستعبد لا يمكن له أن يقوم بحماية
الديار كونه يفتقد ميزتين من موجبات الحياة الحرة الكريمة هما الملك والحرية.. ألم يقل لعنترة كــرّ وأنت حــرْ ..!
الديار، كونه يفتقد ميزتين من موجبات الحياة الحرة الكريمة هما الحرية والملك؛ ألم يقل لعنترة كـرّ وأنت حــر ؟!