مذكرات برهم صالح: طالباني اختارني لرئاسة الحكومة في السليمانية.. وكثيرون نصبوا لي الفخاخ (الحلقة الرابعة)
التاريخ: الثلاثاء 28 ايلول 2010
الموضوع: اخبار



معد فياض

رئيس حكومة إقليم كردستان يروي مذكراته لـ«الشرق الأوسط»: كنت مع زيباري في واشنطن عندما وردتنا أنباء الاقتتال بين حزبينا لكن صداقتنا استمرت

عندما وصل برهم صالح إلى لندن، في أغسطس (آب) 1979، كانت الأحداث في بغداد تسير باتجاه تغييرات كبيرة، فقبل شهر تقريبا من ذلك التاريخ، أي في يوليو (تموز) 1979 كان صدام حسين قد استولى على السلطة في العراق مزيحا زعيمه في حزب البعث والقيادة، ومعلمه الرئيس أحمد حسن البكر وسط اعتراضات قادة الحزب الذين أعدم صدام غالبيتهم وشارك في تنفيذ أحكام الإعدام رميا بالرصاص ببعضهم، ناقلا البلد إلى مرحلة العسكرتارية، بينما كانت طبول الحرب العراقية الإيرانية تدق باطراد، ولو كان هذا الشاب اليافع قد تأخر في مغادرة العراق، ربما ما كان سيكتب له هذا المستقبل الذي يعيشه اليوم، إذ تم منع السفر، وسيق مئات الآلاف من الشباب إلى معسكرات الجيش.


يقول برهم «كان عمري 19 سنة عندما وصلت إلى بريطانيا، كانت ظروف جيلنا تختلف عن جيل اليوم، فأنا عشت تجارب سياسية وخضت تحديات خطيرة لأكثر الأنظمة قسوة، ومع ذلك درست وتفوقت وسافرت إلى أوروبا، وهي تجارب كانت وليدة فترة صراعات ومخاضات صقلتنا بقوة ومنحتنا رؤية عميقة للحياة ومهارات قيادية».
لم تكن الانتقالة بين السليمانية ولندن كبيرة جغرافيا فحسب، بل حضاريا وعلميا واجتماعيا، أيضا، فمن مدينة صغيرة (السليمانية) عند أطراف شمال العراق، إلى واحدة من أكبر مدن العالم المتطور، انتقل برهم، ويبدو أنه كان قد هيأ نفسه لاختصار هذه المسافات بكل أبعادها وظروفها، فلم تغره الحياة المشيعة بكل أسباب الإغراء بالنسبة لشاب في التاسعة عشرة من عمره، ولم يتصرف كسائح، أو يمنح نفسه القليل من الوقت لإهداره، بل تعامل بروحه الجدية مع الأمور واعتبر وجوده في بريطانيا هو امتداد لنضاله السياسي وبرهنة ذاته علميا كي يبرهن لذاته أولا ولأهله ورفاقه بأن اختيار السفر ومواصلة الدراسة كان صائبا تماما، لهذا ترك لندن بكل مباهجها وذهب إلى مدينة بعيدة عنها لمواصلة دراسته، حسبما يذكر «ذهبت إلى بريطانيا مع عائلة عمي كاك حمة، وبعد شهر ساعدني الأصدقاء في الحصول على قبول لدراسة (اي ليفيل) في كلية تقع في مدينة صغيرة غرب بريطانيا، ولم تعجبني المدينة كونها بعيدة ونائية فعدت بعد أشهر إلى لندن وأنهيت هذه المرحلة حيث اخترت الكيمياء والفيزياء».  
لم تكن الانتقالة بين السليمانية ولندن كبيرة جغرافيا فحسب، بل حضاريا وعلميا واجتماعيا، أيضا، فمن مدينة صغيرة (السليمانية) عند أطراف شمال العراق، إلى واحدة من أكبر مدن العالم المتطور، انتقل برهم، ويبدو أنه كان قد هيأ نفسه لاختصار هذه المسافات بكل أبعادها وظروفها، فلم تغره الحياة المشيعة بكل أسباب الإغراء بالنسبة لشاب في التاسعة عشرة من عمره، ولم يتصرف كسائح، أو يمنح نفسه القليل من الوقت لإهداره، بل تعامل بروحه الجدية مع الأمور واعتبر وجوده في بريطانيا هو امتداد لنضاله السياسي وبرهنة ذاته علميا كي يبرهن لذاته أولا ولأهله ورفاقه بأن اختيار السفر ومواصلة الدراسة كان صائبا تماما، لهذا ترك لندن بكل مباهجها وذهب إلى مدينة بعيدة عنها لمواصلة دراسته، حسبما يذكر «ذهبت إلى بريطانيا مع عائلة عمي كاك حمة، وبعد شهر ساعدني الأصدقاء في الحصول على قبول لدراسة (اي ليفيل) في كلية تقع في مدينة صغيرة غرب بريطانيا، ولم تعجبني المدينة كونها بعيدة ونائية فعدت بعد أشهر إلى لندن وأنهيت هذه المرحلة حيث اخترت الكيمياء والفيزياء».
هنا مفترق طرق جديد، هو الآخر سيقرر مصيره ومستقبله، مفترق يتصارع في داخله بين رغباته الشخصية ورغبة العائلة، إذ يختار هو إكمال دراسته الأكاديمية في أحد الفروع الإنسانية، على الرغم من تفوقه في المجال العلمي، لكن رياح إصرار عائلته تدفع به إلى عكس ما تشتهيه سفنه التي قادته إلى أن يرسو في مرافئ دراسة الهندسة، يقول «دخلت جامعة كاردف لأدرس الهندسة استجابة لضغوط من العائلة التي أرادتني أن أدرس الطب أو الهندسة، فأنا أردت دراسة القانون أو الاقتصاد أو أحد العلوم الإنسانية».
لا يفوت صالح أية فرصة لاستغلال الوقت، فيسابق الزمن من أجل إنجاز مهامه العلمية وبدون استراحة، حسبما يوضح «حصلت على شهادة البكالوريوس في الهندسة الإنشائية المدنية، ثم قررت الابتعاد عن الهندسة لأدرس الإحصاء وعملت لأربع سنوات كباحث في الإحصاء وتطبيقات الكمبيوتر في مجال الهندسة في جامعة ليفربول وهي أقرب إلى الرياضيات من الهندسة، وبعد حصولي على شهادة الدكتوراه في اختصاص نظرية الاحتمالات وتطبيقات الكمبيوتر في مجال الهندسة من جامعة ليفربول، وهذا الاختصاص أقرب إلى الرياضيات التجريبية وكان عندي اهتمام في هذا الموضوع، عملت كاستشاري في مجموعة من الشركات البريطانية في مجال الكمبيوتر ثم عملت مع شركة مقاولات بريطانية كبيرة في مجال الطرق».
لكن هل يعني انشغاله في الدراسة والعمل والحصول على شهادة الدكتوراه، وانخراطه في وظيفته، أن يبتعد عن السياسة التي شغف بها منذ فتوته؟ العمل السياسي لم يكن بالنسبة له ترفا، أو مغامرة، أو مرحلة، بل صار قضيته الأساسية، لأنها باختصار هي قضية شعبه وبلده. وإذا كان في العراق، في مدينته السليمانية قد نشط وتحمل الاعتقال والتعذيب وكاد يفقد حياته بسبب الملاحقات الأمنية القاسية، فكيف له أن يترك العمل السياسي في بريطانيا وفي ظل ظروف وأجواء الحرية والديمقراطية، فلقد وجد صالح الساحة هنا مفتوحة ومنفتحة بكل سعتها لنشاطه السياسي، لكن العمل السياسي في لندن سيأخذ أبعادا أكثر احترافية، وسيدفعه لتولي مهام أعمق بكثير من تلك التي كان يتحملها في بلده.
يقول «كنت أنهي عملي بعد الخامسة مساء لأذهب مباشرة وبشغف كبير إلى الاجتماعات السياسية ولقاء الأصدقاء، بينما زملائي في العمل كانوا يحرصون على العمل ساعات إضافية لتوفير دخل مادي إضافي. عملي بالنسبة لي كان يأتي من حيث الاهتمام بالمرتبة الثانية والعمل السياسي بالمرتبة الأولى».
مفترقات الطرق تبقى العلامة المميزة في حياة هذا الرجل، هنا مفترق طريق سياسي مهم هو الآخر، ففي عام 1981 «صرت عضوا في اللجنة القيادية للاتحاد الوطني الكردستاني وأنا في بريطانيا، وكان الاتحاد يضم عددا ليس كبيرا من الأعضاء، وكان مسؤولنا التنظيمي عمر الشيخ موس، مسؤول مكتب العلاقات في الاتحاد آنذاك وهو من مؤسسي الاتحاد وقد شجعني كثيرا وساعدني في تنمية قدراتي والعمل مع الصحافة وزجي في العمل الحزبي بقوة، وكنت ناشطا في تنظيم الاجتماعات كما أني من الناشطين اجتماعيا، لهذا تم انتخابي عام 1983 عضوا في اللجنة القيادية لتنظيمات أوروبا حيث كانت هناك تراتبية حزبية مررت بها وعشت تفاصيلها».
وسط كل هذه المشاغل الوظيفية والسياسية، يجد صالح فسحة حياتية ليعيش قصة حب سرعان ما ستقوده إلى حياته الزوجية، وإذا كان هذا الشاب قد وجد نفسه، وسيجدها، دائما عند مفترقات طرق صعبة، فإن الحدث الوحيد في حياته الذي وضعه على مستهل طريق واحد، كان على يقين كامل بأنه الطريق الأهم والأكثر وضوحا، ذلك هو طريق حياته العاطفية.
المناسبة كانت طبيعية، عيد نوروز الذي يحتفل به الأكراد في جميع أنحاء العالم، بل ويحتفل بحلوله العراقيون جميعا، والأكراد معروفون باستغلالهم للمناسبات السعيدة، فالنساء يرتدين أزياءهن التقليدية ذات الألوان البهيجة التي تعبر عن ألوان طبيعة كردستان، والرجال يتهيأون لأداء أحلى الدبكات الراقصة مع النساء، وهذه المناسبة هي أيضا فرصة للعزاب من كلا الجنسين للتعارف واختيار شريك الحياة، لكن برهم لم يذهب إلى الاحتفال الذي أقيم بعيد نوروز في لندن عام 1985 ليدبك فحسب، بل المناسبة كانت بالنسبة له اجتماعية وسياسية أيضا، بل الأكثر من هذا هو لم يفكر بأن هذا الاحتفال سيكون الإشارة الأكيدة لنقله من حياة عزوبيته.
كانت الفتاة سرباخ، والتي يعني اسمها باللغة الكردية (الزهرة الزاهية في الحديقة أو في الحقل)، قد وصلت توا من مدينة كويسنجق في السليمانية لتكمل تحصيلها الدراسي للحصول على شهادة الدكتوراه في علوم الزراعة، فتاة جميلة، تعبر عن معاني اسمها الكردي تماما، الابتسامة لا تغيب عن وجهها، طموحة ومثابرة، واجتماعيا تبعث الاطمئنان في نفوس الآخرين، وهي شقيقة صباح، الصديق الأقرب إلى برهم صالح ومحل ثقته.



يتصادف أن تكون سرباخ حاضرة احتفالات عيد نوروز في لندن، هي الأخرى لم تكن تفكر بأن حضورها إلى هذا الحفل سيقودها لاختيار شريك حياتها. يتذكر صالح «كان هناك حشد من الأصدقاء والصديقات الكرديات وغيرهم في حفل عيد نوروز بلندن عام 1985، فجأة يعرفني صديقي صباح على شقيقته سرباخ التي كانت قد وصلت توا إلى بريطانيا وانتسبت إلى جامعة باث البريطانية للحصول على شهادة الدكتوراه في علوم الزراعة، وتم التعارف بيننا ثم سرعان ما توطدت علاقتنا وخطبتها وتزوجنا في لندن».
يقول «في البداية لم تشجعني زوجتي على الاستمرار بالعمل السياسي وكانت تفضل أن أبقى في عملي المهني، لكنها في الوقت ذاته كانت تساندني في مهماتي السياسية، إذ كانت تساعدني في كتابة الرسائل إلى أعضاء البرلمان البريطاني وغيره، إذ لم يكن عندنا وقت ذاك موظفون أو سكرتارية، فهي كانت بمثابة سكرتارية لعملي، كنا هي وأنا ننجز في البيت مهمات وواجبات العمل الحزبي» معترفا بأن «زوجتي قد تحملتني كثيرا ولولا مؤازرتها لي وصبرها لما كنت قادرا على تحمل واجباتي وإنجاز مهامي السياسية والحياتية».
وبعد ثلاث سنوات على زواج برهم بسرباخ يرزقان بأول بنت «كالي ولدت سنة 1988 والتي ستكون الصديقة الأقرب إلى نفسي، ثم جاءنا ولد سميناه سوارة (يعني الفارس باللغة الكردية) سنة 1991، وكلاهما ولد في لندن».
لكن المفترق الأهم سيكون في عام 1987 عندما يلتقي وللمرة الأولى بزعيم حزبه، فهو (برهم صالح) وعلى الرغم من كل تلك السنوات من العمل الحزبي، والاعتقالات والتضحيات، لم يكن قد التقى بقائده ورمزه السياسي، وهذا اللقاء سيضعه على المحك، بل على خارطة من مفارق الطرق، أحدها يقوده إلى أن يترك عمله المهني ووظيفته، والآخر يقوده إلى غمرة العمل الحزبي، يتذكر أنه في هذا العام «جاء مام جلال (طالباني) إلى لندن وكان هذا أول لقائي به وطلب مني التفرغ للعمل الحزبي وكنت مترددا في هذا الموضوع، إذ كنت أفضل التوفيق بين عملي في اختصاصي العلمي والحزبي في آن واحد. فأنا درست طوال هذه السنوات وتفوقت وحققت إنجازات أكاديمية وعملية سباقة بالنسبة لأقراني، وكان علي أن أضحي بكل ذلك على صخرة العمل السياسي، مع أني كنت أعرف إمكانياتي الذاتية ومقدرتي على أن أمسك بتفاحتي السياسة والوظيفة في يد واحدة وأوفق بين الاثنتين في الوقت ذاته».
كان صالح وقتذاك قد بلغ درجات عالية في سلم التدرج الحزبي، يقول «وقتذاك كنت المتحدث الرسمي للاتحاد الوطني الكردستاني، ومسؤول العلاقات الخارجية في أوروبا بعد استقالة عمر الشيخ موس، وبلا شك أن مام جلال دعمني كثيرا لأنه كان يتلمس ويرصد نشاطي، فأنا لم أقفز في تدرجي الحزبي بل وصلت إلى ترتيبي الحزبي عن طريق الانتخابات. ومسيرتي مثلما تحدثت بدأت منذ عمر الفتوة في السليمانية في العمل الحزبي السري وما عانيته وقتذاك قياسا إلى سني».
اللقاء الأول لبرهم صالح مع قائده السياسي جلال طالباني كان حاسما، وزعيمه الحزبي الذي عرف بحنكته وخبرته لم يختره من باب المغامرة أو الرهان بل كان هذا الاختيار ذكيا ويعبر عن حكمة وقراءة مستقبلية واعية ستبرهنها الظروف والسنوات لاحقا، إذ استمر دعم طالباني لتلميذه برهم حتى اليوم. كانت المسؤوليات السياسية التي ألقاها حزبه على عاتقه في بريطانيا ووضعه كمسؤول للعلاقات الخارجية للاتحاد الوطني الكردستاني في أوروبا بمثابة التهيئة لاستلامه مهام أكبر وأكثر جسامة، إذ كان الزمن يخبئ له المزيد من الاختبارات الحياتية والسياسية.
في أغسطس (آب) 1990 يغامر الرئيس العراقي صدام حسين باجتياح الكويت، ويضع العراق والمنطقة برمتها، بل والعالم كله أمام مواجهة تاريخية، مواجهة غيرت كل سيناريوهات السياسة العربية والدولية، ذلك أن اجتياح دولة من قبل دولة أخرى سابقة في التاريخ الحديث، لم تتكرر منذ 20 أغسطس (آب) عام 1968 عندما اجتاحت قوات الاتحاد السوفياتي السابق براغ في عملية أطلق عليها (ربيع براغ)، والغريب أن يأتي موعد اجتياح القوات العراقية للكويت، في أغسطس (آب) وهو الشهر ذاته الذي اجتاحت فيه القوات السوفياتية براغ بفارق 22 عاما.
وبتدهور الأوضاع السياسية في العراق، إثر تحرير الكويت من قبل القوات الأميركية في فبراير (شباط) 1991، وانكسار الجيش العراقي، حدثت انتفاضة شعبية في مارس (آذار) 1991 ضد النظام الحاكم، وامتدت هذه الانتفاضة إلى كردستان العراق، وكان رد سلطات النظام قاسيا على الشعب العراقي خاصة في المدن الشيعية والكردية مما أدى إلى هجرة الملايين من الشيعة إلى داخل الأراضي السعودية، مجتازين الحدود الغربية، والأكراد إلى تركيا وإيران، عابرين الجبال الوعرة في ظل ظروف صعبة وقاسية للغاية، وسميت هذه الهجرة بـ «الهجرة المليونية».
أدت هذه الأحداث إلى أن يتم تكليف برهم صالح بمهمات جديدة، تتجاوز أوروبا إلى الولايات المتحدة اعتمادا على نجاحه في عمله السياسي في أوروبا وعلى العلاقات الجيدة التي بناها مع المسؤولين والسياسيين في بريطانيا وأميركا مستفيدا من قابلياته المتميزة في الإدارة والتي اكتسبها من خلال عمله المهني، يقول «في عام 1991 وبعد الانتفاضة والهجرة المليونية للكرد طلبت مني حكومة إقليم كردستان السفر إلى الولايات المتحدة وتمثيل وجهة نظر الأكراد العراقيين هناك، وكان هذا بأمر مباشر من مام جلال أيضا، وكان هذا مفصلا مهما في حياتي، إذ إن عائلتي وبعض أصدقائي كانوا يحثونني على الاستمرار في عملي المهني وترك العمل السياسي أو على الأقل تفضيل الأول على الثاني، وكانت تتنازعني مثل هذه الهواجس لا سيما أنني كنت ناجحا في عملي ومتقدما مهنيا، لكن ما تعرض له شعبنا الكردي عام 1991 حتم علي ترك عملي المهني والتفرغ للعمل السياسي كلية ولو لم أفعل ذلك لشعرت بالذنب والتقصير في خدمة شعبي».هناك مفترق طريق آخر مزروعا في داخل برهم صالح، يتمشى وينام وينهض معه ولا يفارقه، ذلك هو حبه للفيزياء، للعلم، على الرغم من انهماكه في العمل السياسي، يقول «لكن ما زال اهتمامي بالفيزياء وعندما أريد الهروب من الهموم السياسية أذهب إلى قراءة كتب الفيزياء الكونية والرياضيات»، من دون أن ينسى شغفه الأول بالعلوم الإنسانية وكتب السياسة والتاريخ، حسبما يكشف هو «هذا إلى جانب حماستي بالعلوم الإنسانية والسياسية، وأنا قارئ نهم للفلسفة وكتب التاريخ ومنذ 18 عاما لم أقرأ أية رواية، التاريخ بالنسبة لي هو الرواية، أقرأ كثيرا كتبا تاريخية وأتعلم منها دروسا كثيرة».
يصمت صالح قليلا، يتأمل مع ذاته وكأنه يتذكر فكرة لا يريدها أن تفر من ذهنه، يقول «العمل السياسي في العراق لم يكن في يوم من الأيام سهلا على الإطلاق، وهناك مواقف قد أعترض فيها على تصرفات سياسية أو حزبية وأخرى أتحمس لها، لكن بصورة عامة أعتقد أن قدرة التحمل والمجالدة نمت في داخلي منذ طفولتي وفتوتي»، كاشفا «أنا في طبيعتي ومنذ الدراسة الثانوية، كنت خجولا جدا ولا أفضل الظهور وهذا ربما كان سبب نجاحي في العمل الحزبي السري الذي استمر أربعة أعوام وبنجاح، وأيضا حرصي على التفوق الدراسي والتميز بين أقراني ساعدني في نجاحي في العمل السياسي، حتى إنني كنت أتبارى مع زملائي في السليمانية للتفوق دراسيا، وكانت هذه دوافع مشروعة، لكن في العمل السياسي السري كان المطلوب هو الكتمان الصارم وعدم الظهور، رافقها التفاني في خدمة القضية الكردية والناس والشعور العالي بالمسؤولية».
يستكمل صالح سرد تاريخه السياسي، فيقول «في عام 1991 ذهبت إلى الولايات المتحدة لكسب التأييد الأميركي لقضية الأكراد واللاجئين الكرد، ثم عدت إلى شقلاوة (قضاء ومصيف قرب أربيل) عن طريق إيران، وكانت المفاوضات بين الحزبين الكرديين من جهة والحكومة العراقية من جهة ثانية، قد بدأت بعد الانتفاضة، ثم طلب مني مام جلال العودة إلى الولايات المتحدة، وعدت بالفعل لأصبح ممثلا لحكومة كردستان والاتحاد الوطني الكردستاني في واشنطن، وخلال هذه الفترة كنت أتردد على كردستان».
المفترق القادم سيكون واحدا من المنعطفات الخطيرة، ليس في حياة وتاريخ برهم صالح وحسب، بل في حياة وتاريخ الأكراد عموما. كان الاتحاد الوطني الكردستاني يحكم إقليم كردستان من أربيل، وفي منتصف أغسطس (آب) من عام 1996 نشب قتال بين قواته وقوات الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان، في إطار الصراع على السلطة، وكان أن نزفت دماء كثير من رجال الحزبين الكرديين.
كان برهم صالح، وقتذاك، ممثل الاتحاد الوطني الكردستاني في واشنطن، بينما كان صديقه هوشيار زيباري، وزير الخارجية العراقي حاليا، ممثلا للحزب الديمقراطي الكردستاني في العاصمة الأميركية «كانت تربطنا علاقات متميزة، ليست علاقات سياسية وحسب، بل علاقات صداقة ومحبة»، يشرح صالح، مستطردا بقوله «عندما وردت أنباء اندلاع الاقتتال بين حزبينا، الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني، في منطقة (قلعة دزة) في كردستان، كنا أنا والأخ هوشيار زيباري في اجتماع، أو كنا نحضر سوية حفلا تأبينيا في واشنطن لمجموعة من الممثلين عن الحكومة الأميركية الذين قتلوا في منطقة الملاذ الآمن، حيث كان زيباري ممثل الديمقراطي الكردستاني هناك، فأخبرت الأخ هوشيار بالأخبار السيئة، ووقعت علينا أنباء هذا الاقتتال العبثي كالصاعقة»، معترفا «كان اقتتالا انتحاريا يمثل الصراع الخطير على السلطة، وكان وقعه علينا كلينا، مؤلما، مؤلما، مؤلما للغاية».
تتتابع مفترقات الطرق في تاريخ هذا الرجل، وهذه المرة لا تتعلق بحياته الشخصية أو بذاته، أو بمستقبله، بل بعلاقاته وبصداقته، وبمسيرة علاقة الحزبين الكرديين الرئيسيين، يقول «المشكلة الكبيرة التي واجهتها وقتذاك هي أن علاقتي بالأخ هوشيار كانت جيدة، وما زالت، وأنا أعتز بهذه العلاقة، فأنا كنت ممثل الاتحاد الوطني الكردستاني، وسياسة الحزب تقتضي بأن لا نلتقي، وهذه مشكلة عانى منها زيباري أيضا، إذ فجأة تحتم علينا أن نكون في اتجاهين متعاكسين تنفيذا لسياسات حزبية، لكن علاقتنا بقيت جيدة في أكثر الظروف تشابكا بين الحزبين، وكنا نتبادل الرسائل والهموم ونسعى لتطويق المشاكل وعدم اتساعها خاصة بين أنصار الحزبين في الخارج، بل كنا نعمل من أجل محاصرة هذا الاقتتال وعودة المياه إلى مجاريها بين حزبينا».
ويتذكر صالح واحدة من المشاكل التي واجهتهم خلال فترة الاقتتال بين الحزبين الكرديين، يقول «كان مام جلال خارج العراق، في إيطاليا، وكان علي أن أجد طريقة لعودته إلى كردستان وتوفير طائرة هليكوبتر تقله من سورية إلى السليمانية، إذ إن الطريق البري من دمشق إلى السليمانية يمر بأراض كانت تحت سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني»، منوها إلى أن «هذه الفترة العصيبة كانت مؤلمة جدا وتحمل ذكريات مُرة لن تعود إن شاء الله».
كان المعروف عن الرئيس العراقي صدام حسين، أنه يضمر الكثير من الحقد والكراهية لزعيم الاتحاد الوطني الكردستاني، جلال طالباني، حتى إنه (صدام حسين) كان كلما أصدر قرار عفو عن السياسيين العراقيين من العرب والأكراد الذين كانوا يعارضونه، يختتمه بلازمة تكررت في غالبية هذه القرارات، يستثني فيها من قرار العفو جلال طالباني، وهذا لا يعني أن صدام كان يضمر المحبة أو الصداقة لزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني، بل كانت مهمة أجهزته العسكرية والأمنية إذكاء الخلافات والاقتتال بين الحزبين في محاولة لإضعاف الثورة الكردية، ولن ينسى التاريخ أن أفظع الجرائم التي ارتكبها النظام السابق ضد الآلاف من البارزانيين من عشيرة وعائلة زعيم الحزب الديمقراطي كانت قد نفذت بقرار من الرئيس العراقي السابق (صدام حسين).
استغل الرئيس صدام حسين أحداث الاقتتال بين الحزبين الكرديين فأرسل في 31 أغسطس (آب) 1996 بقوات الحرس الجمهوري لاجتياح مدينة أربيل، ليس نصرة للحزب الديمقراطي الكردستاني، وإنما نكاية بالاتحاد الوطني الكردستاني وتنكيلا بالمعارضة العراقية التي كانت تنشط في أربيل، إذ تم قتل المئات منهم، شر قتلة، حتى إن طائرات الهليكوبتر التابعة لقوات الحرس الجمهوري حملت معارضين للنظام الحاكم وألقت بهم من الجو. وأدى دخول قوات الحرس الجمهوري إلى انسحاب قوات الاتحاد الوطني من أربيل، فدخلتها قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني لتتشكل بعد كل هذه الظروف المعقدة للغاية حكومتان، واحدة في أربيل بقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني، والثانية في السليمانية بقيادة الاتحاد الوطني الكردستاني.
كان على الحكومة التي تشكلت في السليمانية أن تواجه مصاعب مركبة وصعبة للغاية، فالاتحاد خرج توا، بل كان لا يزال في حالة اقتتال مع نده اللدود الحزب الديمقراطي، والخزينة خاوية تقريبا، والأجواء العامة تغلفها حالات من اليأس والشعور بالهزيمة والغضب، وكان لا بد من اختيار رئيس وزراء يتمتع بذكاء لامع، وحكمة وحصافة ينتشل الأوضاع من تدهورها ويضعها على الطريق الصحيح، ولم يجد زعيم الاتحاد الوطني أكثر شخصية ملائمة لهذه المهمة من برهم صالح، مع أنه كان قادما من تجربة غربية تماما، وهو لم يعش مع رجال البيشمركة حياتهم وتجربتهم في الجبل، مع أنه ابن مدينة السليمانية ويتحدر من واحدة من أكثر عوائلها عراقة.
إذن مفترق طريق آخر، طريق زلق، غير ممهد على الإطلاق للمسير، كان على صالح أن يمهده بنفسه ويسير به، ليس لوحده بل ومعه كل أهالي مدينته وشعبه وحزبه، والخسارة هنا ستقوده إلى هاوية واد سحيق، لكنه، واعتمادا على تجاربه العلمية والعملية، ورهانات حزبه وقائده، سينجح، يقول «عندما طلب مني مام جلال أن أترأس حكومة كردستان في إدارة السليمانية بعد الانفصال أو الاقتتال مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، كان الدكتور فؤاد معصوم رئيس أول حكومة في كردستان في أربيل، ثم حدث الاقتتال عام 1996 وانشقت الحكومة، واحدة في أربيل برئاسة روش شاويس، ثم الأخ نجيرفان بارزاني (عندما كانت أربيل تحت سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني)، والثانية في السليمانية برئاسة الأخ كوسرت رسول (تحت سيطرة الاتحاد الوطني الكردستاني)، ثم أنا، إذ بقيت ثلاث سنوات ونصف السنة في هذا المنصب».
ويعترف صالح بصعوبة المهمة التي ألقيت على كاهله، فيقول «كانت رئاستي للحكومة تجربة صعبة، فأنا جئت من العمل السياسي في الخارج إلى أوضاع صعبة، إذ الظروف المادية سيئة والاقتتال بين الحزبين لم ينته بعد، حتى اتفاقية واشنطن وبداية التطبيع بين الحزبين. كما كنا نعاني من حصارين؛ حصار الحكومة المركزية في بغداد، والحصار الدولي على العراق، وأنا العائد توا من أوروبا وأميركا وأحمل شهادات أكاديمية عليا، وأتمتع بعقلية مدنية ولست من القيادات التاريخية في الاتحاد، ووجدت نفسي في خضم صراعات داخل الاتحاد بين قياداته، والمناورة بين صراع مراكز القوى أو من كانوا يسمونهم بالعمالقة داخل الحزب لم تكن سهلة، وكانت هناك شخصيات قيادية معارضة لي وتشاكسني، بل وتعارضني وتنصب أمامي الفخاخ، وقد بذلت جهدي لأن لا أكون أداة طيعة بيد الحزب، مع احترامي للحزب على الرغم من أني كنت عضوا بارزا في الاتحاد الوطني، لكنني كنت وما زلت مؤمنا بأن الحكومة مهمتها خدمة الناس وهي للناس وليست للحزب ودخلت في صراعات طويلة وقوية من أجل تحقيق هذا المبدأ، وحاولت جهدي أن أنجح في عملي ببناء إدارة خدمية تتمتع بالكثير من الشفافية، وحرصنا على إنجاز مشاريع خدمية مهمة، وأعتقد أنني وفقت في تلك المهمة».

-------








أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=7437