قضية الأنفال أو ثالثة محاكمات العصر
التاريخ: الخميس 24 اب 2006
الموضوع: اخبار


صلاح بدرالدين
           
      بعد قضية الدجيل التي جسدت ممارسات الدكتاتورية في بعدها الطائفي – السياسي  انتقلت المحكمة الجنائية العراقية العليا الى الاستمرار في محاكمة الدكتاتور المخلوع وأعوانه والنظر في ملف جرائم الأنفال التي أودت بحياة عشرات الآلاف من أبناء وبنات الشعب الكردي دون أي ذنب اقترفوه سوى انتمائهم الى القومية الكردية ويعتبر الملف من الجرائم العنصرية في اطار ابادة الجنس المشابهة لجرائم النازية والفاشية والطورانية والصهيونية التي حدثت في التاريخ الحديث وشكلت وصمة عار على جبين الانسانية لن تزول آثارها على مر الأجيال .

ما أقترفه نظام البعث المخلوع في العراق وطوال عقود ضد الشعب الكردي الجار الصديق للعرب كان كبيرا وقاسيا تخطى حدود المعقول وشكل تحديا للفكر القومي العربي المعاصر واشكالية أخلاقية للمثقف العربي في كل مكان حول مفاهيم الحرية وحق الشعوب في تقرير المصير وحقوق الانسان والديموقراطية والتعايش القومي والتعددية الثقافية والوحدة الوطنية خاصة عندما كان النظام يخطط سرا وعلانية لأزالة الكرد كشعب من على خارطة العراق القومية والجغرافية عبر تغيير التركيب الديموغرافي بواسطة الابادة والقتل والتشريد والتهجير وتغيير الانتماء القومي عنوة وبواسطة التوقيع الاجباري على استمارات خاصة تنظمها الأجهزة الأمنية أو بعمليات القتل الجماعي كما حصل في جرائم الأنفال التي شملت جميع مناطق كردستان وتجاوز عدد الضحايا المائة وثمانين ألفا من الرجال والنساء والأطفال اضافة الى ثمانية آلاف من أبناء العائلة البارزانية الكريمة من أبناء وأحفاد وأقارب البارزاني الخالد والقبور الجماعية شاهدة على كل ذلك أو في ابادة خمسة آلاف من سكان حلبجة بالغازات الكيمياوية السامة  ماعدا آلاف الحالات الأخرى من اعدامات وتصفيات جسدية بالاغتيالات أو السموم التي طالت أبناء الكرد طوال سنوات حكم الطاغية .
        ان هول الجرائم المقترفة وشموليتها وطابعها العنصري البغيض تجعلنا أن نتجاوز النظر الى الموضوع كمسألة جنائية بحتة تخص فردا أو أفرادا أو عصابة رغم مسؤوليتهم الشخصية والاعتبارية بل كجريمة انسانية وانزلاق فكري وانحراف أخلاقي وارتداد سياسي وانتكاسة حضارية لحقبة بأكملها ومرحلة برمتها وآيديولوجية بعينها تقع مسؤولية تقييمها وادانتها ورفضها وفضحها على كل من تعز عليه الحرية والحق والعدل والسلام وعلى كل من يبحث عن القيم الانسانية ويعمل من أجل التغيير الديموقراطي والخلاص من الاستبداد وفي هذا المجال نعتقد أن المثقفين العرب ونخبهم السياسية ونشطائهم في المعارضات الوطنية في مختلف البلدان العربية وخاصة منهم اللذين تجاهلوا المأساة الكردية طوال عقود وكارثتهم الانسانية حين وقوعها هم أكثر الناس مسؤولية في عملية المراجعة والمساهمة الفكرية والثقافية في قراءة جديدة لما حصل ووضع الأسس والمبادىء البديلة والسليمة لأعادة الاعتبار للعلاقات العربية الكردية خاصة في مجال بناء وتعزيز الثقة وترسيخ صرح الصداقة بين الشعبين على قاعدة الاعتراف المتبادل بالوجود والحقوق والتعايش في ظل تعاقد عصري جديد تكفله الدساتير والقوانين وترعاه المبادىء والمواثيق الوطنية والقومية والانسانية .
      ما حصل للشعب الكردي في العراق في ظل سلطة النظام الشوفيني الدكتاتوري من اصرار وتصميم على القضاء على الكرد ووضع الخطط والمشاريع الكفيلة بابادة هذا الشعب أو التخلص من أكبر عدد ممكن بواسطة الحديد والنار لاطفاء جذوة التحرر القومي واضعاف ارادة الخلاص من الظلم والاضطهاد لدى الأغلبية من أبناء الكرد وبالتالي لتنفيذ الحل العسكري – الأمني لقضية الكرد القومية السياسية حسب المقاس الآيديولوجي للطغمة الحاكمة باسم حزب البعث والتخلص نهائيا من هذه المسألة التي لا تشكل ازعاجا واحراجا واستنزافا للحكومات المتعاقبة فحسب بل رافدا أساسيا لحركة المعارضة الوطنية والديموقراطية العراقية ولروح المقاومة ضد النظام الدكتاتوري خاصة وأن تاريخ العراق الحديث شهد على الدوام كيف أن الحركة التحررية القومية الكردية كانت بمثابة الرافعة الراسخة في استنهاض القوى الوطنية العراقية من أجل تحقيق أهدافها  في الديموقراطية والخلاص من الدكتاتورية واسقاط الحكومات المعادية لطموحات الشعب نقول ان ما عاناه الكرد في العراق يشكل جزء من قضية أوسع تجد آثارها في مختلف الدول متعددة القوميات والثقافات في الشرق الأوسط العربية منها وغير العربية والتي مازالت تنتظر الحلول والمعالجات بعد أن تفاقمت مآسيها وتعمقت تفاعلاتها في ظل السياسات الرسمية الشوفينية والاهمال المتعمد لحقائقها الموضوعية في وقت تبقى فيه القوى الديموقراطية ليست بعيدة فحسب عن مصادر القرار والحل والربط  بسب عجزها وضعفها بل بادمانها المزمن على حالة التجاهل والسكوت حيال أخطرالامور من وزن ابادة الجنس .
       وهكذا نجد أمامنا في بلدان المنطقة ومنذ عهود الاستقلال رزمة من قضايا الشعوب والقوميات دون حل اسوة بالقضايا الأخرى التي ترتبط ببعضها دون انفصام مثل الديموقراطية والتغيير وزوال الاستبداد والركون الى ارادة الشعب وصندوق الاقتراع وبناء الدولة الحديثة واطلاق الحريات واجتثاث جذور الارهاب والاصولية – العلمانية والدينية – تلك – الرزمة – التي تجسد حقيقة المسألة الوطنية العامة بمختلف جوانبها التي مازالت التحدي الأساسي أمام شعوبنا ويتوقف على انجازها مصير الجميع شعوبا ودولا في الحاضر والمستقبل .
     في التاريخ الحديث واكبت البشرية حالات عدة في – محاكمات العصر – ذات الطابع العنصري وابادة الجنس لأسباب قومية ومن أبرزها على الاطلاق  ما أجريت في القرن العشرين  للنازية – نسبة الى الحزب النازي الحاكم -  في ألمانيا والفاشية – نسبة الى الحزب الفاشي الحاكم - في ايطاليا مع حصول محاكمات شبيهة بهذا النوع بشكل أو بآخر في بلدان وقارات أخرى والابقاء الى جانب ذلك على ملفات في الدروج برسم الضمير العالمي بالاضافة الى حروب ابادة ذات طابع  ديني ومذهبي وهي ليس موضوع بحثنا الآن , ولاشك أن الحالة الثالثة ببعدها العنصري الكامل هي مانشهدها الآن في بداية القرن الحادي والعشرين في بغداد حيث تجري محاكمة البعثية – كنهج ورموز نسبة الى حزب البعث الذي كان حاكما في العراق خلال مرحلة محاولات ابادة الكرد وعمليات الأنفال وكارثة حلبجة مع التنويه هنا للأمانة الموضوعية بأن هناك أفراد من البعثيين عارضوا النهج العنصري هذا وخرجوا على النظام لهذا السبب ولأسباب وطنية أخرى ومنهم من انضم الى صفوف المعارضة الديموقراطية .
        في ألمانيا وايطاليا واليابان قامت القوى الديموقراطية والأغلبية الساحقة من نخبها الثقافية والشعبية باجراء مراجعات جادة بما فيها عقاب المذنبين وطوي صفحة الماضي البغيض وادانة ماحصل نهجا وممارسات ومواقف وأكثر من ذلك حرمت بقوة الدستور والقانون الأحزاب والمنظمات والمؤسسات والعقائد المدانة من حرية العمل والى الأبد مع اعادة الاعتبار للضحايا والتعويض عن ما لحق بالمتضررين من شعوب وقوميات وأجناس وأفراد وبناء ما هدمته العنصرية في أجواء السلم والاستقرار والتعايش السلمي مع النجاح بعد التكاتف العالمي على ادراج نصوص خاصة بالعنصرية وابادة الجنس واقتلاع السكان الأصليين وحق تقرير مصير الشعوب في ميثاق هيئة الأمم المتحدة والمؤسسات والمنظمات المنبثقة عنها مع انشاء محاكم وهيئات دولية من ذوي الخبرة القانونية ذات الصلاحية للنظر في قضايا الابادة العنصرية ,  فهل أن منطقتنا – الشرق أوسطية – المنكوبة بنار العنصرية مقبلة على المراجعة والتغيير كما حصل لشعوب من قبلنا وهل ستحظى برعاية وفعل وانجازات تلك الاجراءات ؟ نأمل ذلك .   







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=704