سوريا و غياب الوعي الوطني *
التاريخ: الأثنين 05 تشرين الاول 2009
الموضوع: اخبار



  آزاد برازي

   فتحت أفاق التغيير في الشرق الأوسط  بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى لعوالم جيوبوليتكية جديدة في المنطقة و خاصة بعد هزيمة الدول التي ساندت ألمانيا  و منها الدولة العثمانية أمام دول الحلفاء بريطانيا و فرنسا التي كانت تمثل الكولونيالية القديمة - و استمرت حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية  - فلجأت تلك الدول المنتصرة لتلبية استحقاقات لابد من القيام بها بحكم انتصارها ، فقامت بتقاسم منطقة الشرق الأوسط فيما بينها و ذلك تلبية لمصالحها الاقتصادية و السياسية بالدرجة الأولى التي كانت تكتب حلقاتها بسرية تامة منذ فترات سابقة على اندلاع الحرب  ، والتي تم الكشف عنها من قبل الروس بعد نجاح ثورة أكتوبر في القضاء على حكم القياصرة ، و التي عرفت باتفاقية سايكس بيكو و على ضوءها حجمت من بعض الدول الكبرى التي كانت سائدة في المنطقة و تقاسمت تركتها و على أنقاضها تم تشكيل دول مصطنعة.


والمطلع على تاريخ منطقة الشرق الأوسط في بدايات القرن المنصرم يرى تماماً اشتداد النزعة القومية بين مختلف المكونات الرئيسية لهذه المنطقة التي بدت واضحة من خلال الوفود التي ذهبت إلى مؤتمر الصلح في باريس للتعبير عن مصالح شعوبها بالدرجة الأولى كالوفد العربي الممثل من قبل الملك فيصل ابن الشريف حسين و الوفد الكردي الممثل من قبل شريف باشا ....الخ و قبل ذلك ظهور العديد من الجمعيات السياسية من لدن الشعوب الرازحة تحت الهيمنة العثمانية للتعبير عن حقوقها في الحرية و الاستقلال ، لكن بقت هذه المطالب أسيرة لرؤية القوى الاستعمارية و توازنات المصالح السياسية و النفوذ في المنطقة و في النهاية كانت الغلبة بطبيعة الحال لمشيئة القوى العظمى التي خرجت منتشية بعد الحرب مشرعنة لنظامها الاستعماري تحت مسمى نظام الانتداب حيث منحت الشرعية من قبل عصبة الأمم لإدارة المنطقة و تقسيمها كما تشاء بحجة إن شعوب المنطقة غير مؤهلة لإدارة شؤونها و هي بحاجة إلى الوصاية حتى فترة زمنية غير معينة .
 إذا بعد أربعمائة سنة تقريباً من سيطرة العثمانيين على المنطقة و شعوبها جاءت الفرصة السانحة لتنال شعوب المنطقة استقلالها من براثن الاحتلال العثماني و إن كان بمساعدة قوة خارجية فكان المطلوب تحديد كل جماعة موقفها من الحرب و إلى أي موقف سوف تنساق ففي تلك الظروف حسم السياسيون العرب خيارهم بالوقوف إلى جانب الحلفاء ضد الخلافة العثمانية ، حيث بدأت الاتصالات السرية بين الشريف حسين و السير مكماهون على أثر الثورة العربية الكبرى المدعومة انكليزياً ليتوصل الاثنان إلى وعود قدمها مكماهون لشريف حسين في إقامة دولة عربية تضم شبه الجزيرة و بلاد الشام والعراق العربي مقابل نصرة الحلفاء ضد الدولة العثمانية و طردهم من هذه المناطق و بالفعل اندلعت الثورة العربية الكبرى فاتجهت القوات العربية نحو دمشق ، و الظاهر أن النزعة الإمبراطورية و أمجاد الماضي وجدت طريقها إلى الانتعاش في الذهنية السياسية العربية لكن القوى المنتصرة رأت في تلك النزعة عائقاً أمام مصالحها الإستراتيجية و في النهاية تم تقاسم التركة العثمانية بين بريطانيا و فرنسا عملياً و التأكيد عليها و تنفيذها  في مؤتمر سان ريمو ، و هكذا دخلت المنطقة عموماً في مرحلة جديدة حيث ظهرت كيانات سياسية جديدة  خضعت مباشرة للاحتلال الفرنسي و الانكليزي . و قد شاءت الإرادة الاستعمارية في تشكيلها للكيانات المصطنعة ، في أن تصبح أجزاء من الأمة الكردية جزءاً من كيانين جديدين هما سوريا و العراق و بهما تشارك العرب و الأكراد للتصدي لاستحقاقات المرحلة الجديدة و هي مرحلة النضال الوطني ضد الاحتلال ، لكن رغم ذلك بقت الأحلام الإمبراطورية و الأمجاد السابقة تدغدغ المخيلة العربية و لم تنظر إلى واقعها إلا كمرحلة آنية مؤقتة وجسر للعبور إلى الحلم الأكبر ، بالمقابل رغب الحلم الكردي بالعودة إلى دائرة التاريخ من جديد كما كانوا في الماضي منذ قبل الميلاد أيام الإمبراطوريات الكردية القديمة و مروراً بالدويلات الكردية في العهد الإسلامي ، الأموي و العباسي و صولاً إلى العهد العثماني و الصفوي التي استمرت فيها هذه الدويلات حتى أواخر القرن التاسع عشر ، ليعبر عن نفسه بحلة جديدة ألا وهي الدولة القومية ذات الهوية الكردستانية و بين الحلمين غابت الهوية الوطنية ، و باعتبار أن العرب استطاعوا فرض أنفسهم نوعاً ما على الساحة الجيوبوليتكية لظروف موضوعية و لربما ذاتية و التقاء المصالح بينهم و بين القوى العظمى تم فرض الهيمنة العربية بمساعدة هذه القوى على تلك الكيانات المصطنعة و مكوناتها و على رأسهم الكرد بمختلف الوسائل السياسية تارة و العسكرية تارة أخرى و يمكن أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر الهجمات المشتركة التي كانت تشنها القوات العربية العراقية على القرى الكردستانية بمساعدة الطائرات الانكليزية و حالة التمييز التي كانت تمارسها الأحزاب العربية القومية ضد الشعب الكردي في سوريا انطلاقاً من إيديولوجيتها العروبية التي رُسمت ملامحها في مؤتمر قرنايل في لبنان و التي تبلورت بشكل أكثر وضوحاً في أواخر خمسينات و منتصف ستينات القرن الماضي و هكذا تحولت طبيعة العلاقة الطردية بين الخطابين الكردي و العربي إلى علاقة عكسية متناقضة .
و انطلاقاً من ذلك يمكن تشخيص الحالة السياسية للأمة الكردية في أجزائها بصيغ تعبر عن حقيقة واقع كل جزء بالاستناد إلى التاريخ ، فعند وصف الحالة الكردية في كل من تركيا و إيران فلا يمكن التعبير عنها إلا بحالة استعمارية من قبل الترك و الفرس باعتبار أن هذين الجزأين الكردستانيين هما بقايا الاستعمارين القديمين العثماني و الصفوي اللذان تقاسما كردستان في معركة جالديران 1514 م و تم رسم الحدود رسمياً في اتفاقية قصر شيرين 1639 م ، أما بالنسبة للجزء السوري و العراقي فلا يمكن وصفها بالحالة الاستعمارية  لغياب الإرادة العربية في تشكيل كلا الكيانين المصطنعين و ان تم ضم ما تبقى من الأراضي الكردستانية اليهما بعد اتفاقيات الحدود بين فرنسا و بريطانيا و تركيا و لكن ليس انطلاقاً من المشيئة العربية بل من الإرادة الانكليزية – الفرنسية و التركية التي ظهرت في توازن القوى في المنطقة بظهور شخصية كمال أتاتورك الذي استطاع وضع حد للقوى المنتصرة و تأسيس الجمهورية ( التركية ) في العام 1923 .
 و مع مرور الزمن ترسخت الحدود القائمة بتقسيماتها الحالية و خاصة في نهايات النصف الأول من القرن المنصرم  فحدود الدولة السورية خضعت للتغيير لأكثر من مرة و ذلك على إثر الاتفاقيات الحاصلة بين الجمهورية التركية و فرنسا التي كانت مستعمرة لسوريا في العشرينات من القرن الماضي ، بل حتى سوريا داخلياً لم تأخذ شكلها الحالي حتى عام 1943 بعد ضم جبل الدروز إليها و قبل ذلك ضم دولة العلويين إلى سوريا في العام 1936 و مع كل ذلك بقى العنوان الأبرز هو غياب الإرادة الجماهيرية عن كل ما جرى مما أبقى الوعي الوطني  غير متبلور بالإضافة إلى تعلق الذهنية العربية و الكردية بأحلامها في تحقيق دولتها الموحدة الكبرى ، الدولة العربية من المحيط إلى الخليج بالنسبة للقوى العربية و دولة كردستان الكبرى بالنسبة للقوى الكردية، فظهرت الكثير من القوى و الأحزاب السياسية العربية و الكردية  تنظر لكلا المشروعين و ذلك انطلاقا من رفض واقع التقسيم المفروض على المنطقة غير أبهين لكثير من الاعتبارات التي تفوق قدراتهم السياسية و العسكرية و هذا ما بدا واضحاً في الخطاب السياسي العربي ، فالعرب كانوا خاضعين مباشرة للحكم العثماني فالمتغيرات التي فرضتها الحرب العالمية الأولى جاءت لصالح العرب - و إن كانت القوى العربية تعبر عن عدم رضاها – فقد أنشأت كيانات مصطنعة ذات أغلبية عربية و فرضت هيمنتها على باقي مكوناتها وعندئذ استأثر العرب بالحكم مما أبقى الحلم العربي يدغدغ نفوسهم و قد تجلا ذلك في الكثير من المؤتمرات و ما نتج عنها من برامج سياسية تصل لدرجة العنصرية و الشوفينية بحق الشعوب الأخرى القاطنة في المنطقة و هو قيد التنفيذ حتى الوقت الحالي  على الرغم من التغيرات الحاصلة في المنطقة و خاصة بعد ثمانينات القرن الماضي ، فالذهنية السلطوية العربية السورية و المعارضة ما تزال متعلقة بأوهام الماضي غير قادرة على خلق نموذج سليم للدولة الوطنية لتسبح في فلك تشويه الوعي الذاتي للشارع العربي
لا تمت إلى الواقع و الحقيقة و تعميق الهوة بين كلا الخطابين السياسيين لتقتات عليه  و  يتجلى ذلك في الذهنية الأمنية في التعامل مع المسألة الكردية في سوريا  انطلاقا من عقلية تشكيكية و تخوينية لكل كردي في سوريا رافضة التعامل مع هذه المسألة بمستواها السياسي  ، بالمقابل لم يستطع الكرد التوفيق بين الحالة القومية و الحالة الوطنية مما خلق ارتباك شديدا في ممارساتهم النضالية ورؤيتهم الإستراتيجية للأفاق المستقبلية مما أدى إلى فرز خلل بنيوي على كافة الصعد و خاصة منها الاجتماعية فجاءت النتيجة على شكل قطيعة بين الحركة السياسية الكردية و حاملها الاجتماعي و ملامح هذه الأزمة بدأت تأخذ شكلاً أكثر وضوحاً للعيان و خاصة في العقد الأخير . و الآن بعد أكثر من تسعة عقود مازالت الدولة الوطنية بعيدة المنال و الوعي الوطني أسيراً في ظل السياسات القائمة و الممارسات الشوفينية بحق كافة مكونات الشعب السوري و في مقدمتهم الشعب الكردي في سوريا الذي يعتبر نفسه جزءاً جوهرياً من هذا الكيان و الذي جعل من الوطن خياراً استراتيجياً له و العمل من أجل الارتقاء بالوعي الوطني إلى أعلى مصافه  ، لكن السياسات السلطوية تقف حجر عثرة أمام تبلور هذا الوعي و تأبى الواقعية في التعامل مع باقي المكونات مما يخلق حالة من التوتر لتطغى على الشارع السوري عموماً و الكردي خصوصاً ، فغياب الرؤية لأفاق الحل للحاضر السوري سيعقد المشكلة أكثر فأكثر في المستقبل ، في تفتيت و تشتيت الداخل السوري لتفتح المجال لوقائع و سياقات يصعب التنبؤ بها و السيطرة عليها و للأسف مع مرور الزمن تزداد الهوة اتساعاً و عمقاً و يبقى العنوان الأبرز هو انعدام الثقة بين كافة مكونات شعبنا السوري من جهة و بين هذه المكونات و السلطة من جهة أخرى لانعدام سبل التفاهم حول قضايا مصيرية لا تتعلق بالسلطة فقط بل بالوطن أجمع ، فالمنطقة مقدمة على تغير في الكثير من المفردات السياسية الكلاسيكية التي كانت سائدة إبان الحرب الباردة سواء على المستوى العالمي أو على المستوى الإقليمي  ، فلا بد من طي صفحة الماضي و الانفتاح على الحاضر و الواقع السوري بأوسع أبوابه و الاعتراف بخصوصية كل مكون من مكوناته (الثقافية و الاجتماعية ......الخ ) و ذلك من خلال عقد اجتماعي وطني جديد يعبر عن رؤية جديدة لهذا الوطن على قاعدة إن سوريا لجميع السوريين .  

* عن جريدة دنكي كرد التي يصدرها الحزب الديمقراطي الكردي السوري (P.D.K.S  ) العدد 229 آب – أيلول 2009






أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=6151