الوضع الدولي والإقليمي
مع بداية الألفية الثالثة، كان قد بدا للجميع بأن الولايات المتحدة باتت المرشحة لقيادة النظام الدولي الجديد بلا منازع وذلك لما تملكه من تفوق عسكري واقتصادي وتكنولوجي، أقدمت إدارتها على استخدامه بعد أحداث 11 أيلول 2001 لتساهم في مكافحة الإرهاب، كحامل جديد من أجل دعم مكوّنات إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي استدعت إسقاط بعض الأنظمة الدكتاتورية التي انتعش في ظلها الإرهاب، لجملة عوامل من بينها غياب العدالة الاجتماعية، ومن أجل العمل على نشر الديمقراطية في إطار تجفيف منابعه، والقيام بحربين: في أفغانستان عام 2001 والعراق 2003 دون غطاء دولي في أغلب الأحيان ، مما دعا الحلفاء الأوربيين للمطالبة بعلاقات دولية أكثر إنصافاً تقوم على تعدد مراكز القوى وتقاسم النفوذ ، خاصة بعد أن تحررت أوربا الشرقية من هيمنة النفوذ السوفياتي السابق لتلتحق معظمها بالعالم الرأسمالي، وانتفت حاجة أوربا الغربية نفسها للدعم الأمريكي، وقد تجلى ذلك في طموح هذه الدول، وفي مقدمتها كل من فرنسا وألمانيا، بتشكيل كتلة أوربية تتمتع بالمزيد من الاستقلالية، مما رشح أوربا للتحول الى قطب آخـر، إضافة لروسيا الاتحادية والصين...
لكن الولايات المتحدة سارعت لخلق ظروف دولية تحول دون ذلك، من خلال السعي للتحكم بالموارد الإستراتيجية، وفي مقدمتها النفط واحتياطه في العالم، وقطع الطريق أمام تنامي دور أوربا وغيرها الى مستويات تؤهلها لمنافسة الولايات المتحدة الأمريكية على الصعد الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وعملت من أجل ذلك على إسقاط نظامي صدام في العراق وطالبان في أفغانستان بالتفاهم مع إيران. ودفعت حلف الأطلسي للتوسع باتجاه أوربا الشرقية لتنضم إليه الدول الواقعة على تخوم ما يسمى بالأمن القومي لروسيا، التي كانت قد رضخت بعد انهيار الإتحاد السوفياتي للسياسة الأمريكية, وذلك لأسباب عديدة منها ضعف وتفكك مؤسساتها الداخلية, وحاجتها للمساعدة المالية، وانشغالها ببناء الديمقراطية الوليدة ومعالجة اقتصادها المنهار، واهتمامها بتحسين أرقام الميزانية بدلاً من حجم ترسانتها الصاروخية.. لكن التطورات اللاحقة أدخلت عوامل عديدة على خط المنافسة الدولية، منها تعثّر السياسة الأمريكية في كل من العراق وأفغانستان والتكاليف الاقتصادية التي تكبّدتها في الحربين، وكذلك اصطدام شعار إشاعة الديمقراطية التي رفعتها الإدارة الأمريكية ، بعوائق جديدة سواءً في العراق الذي لا يزال يعيش تحديات ترسيخ النظام الديمقراطي البديل بسبب الفوضى التي ساهمت في خلقها الأنظمة الإقليمية ، وبالتالي تقدم أولويات الأمن والاستقرار على ضرورات الديمقراطية وحقوق الإنسان، أو في مناطق أخرى حيث لم يكن من شأن البديل السلمي عن طريق فرض الانتخابات تحقيق هذا الهدف.. ونتيجة لما تقدم بدت الولايات المتحدة غير معترضة في الفترة الأخيرة على القبول بشركاء جدد، بعد أن أدركت بأنها غير قادرة وحدها على فرض السيطرة العسكرية والأمنية على كل أنحاء العالم، ويتبين ذلك من تأهّب دول مثل ألمانيا واليابان للانضمام والمساعدة في مثل هذه المهمة، وكذلك من تزايد دور مجلس الأمن في حل النزاعات الدولية، كما هو الحال في دارفور التي تعرض فيها مئات الآلاف للقتل وعمليات التطهير العرقي والتهجير القسري على يد القوات غير النظامية
(الجانجويد) التي تقف وراءها حكومة الخرطوم، مما دعا محكمة الجنايات الدولية إلى توجيه أصابع الاتهام للرئيس
عمر حسن البشير بتشجيع وتوجيه تلك العمليات، وذلك سعياً لتطبيق العدالة الدولية التي طالت أيضاً زعيم صرب البوسنة
رادوفان كارادوفتش الذي يحاكم الآن أمام محكمة
لاهاي الدولية.
ونتيجة لتعثر الدور الأمريكي، من جهة، واستفحال الأزمة المالية التي ألحقت به الضرر ، ودخول إدارة بوش الابن مرحلة نقص الفعالية بسبب اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية, وما تسبب عنه من فراغ، من جهة ثانية، فقد سعت العديد من القوى الدولية الأخرى لسد ذلك الفراغ ، مثل روسيا الاتحادية التي اختارت القفقاس لتؤكد من خلال الهجوم على جورجيا بأن الظروف باتت مناسبة لكي تستعيد مكانتها في السياسة الدولية، وأن هناك مرحلة جديدة قد بدأت، أو على غرار ما قام به الرئيس
ساركوزي سواء في القفقاس أو في الشرق الأوسط، أو مثلما قام به رئيس الوزراء التركي فيهما أيضا من دور وسيط, نظراً لانعكاسات الأوضاع في المنطقتين على الوضع التركي، التي تتخوف من تحول جورجيا إلى قاعدة أطلسية متقدمة تقلل من أهمية الدور الإقليمي التركي، وكذلك ارتباط القفقاس بطموحاتها القومية في إتحاد الدول ذات النزعة التركية ، مثل
آذربيجان و
تركمانستان و
أوزبكستان، وكونها ممراً حيوياً لخط أنابيب
باكو- تبليسي– جيهان.. وتأتي المخاوف الروسية من مشروع الدرع الصاروخي في بولندا من كونها ترى فيه تهديداَ أمريكياً، ومحاولة لتوريط روسيا في سباق تسلح جديد قد يقودها إلى الإفلاس، وإلى تعطيل مشاريع التنمية فيها، ولذلك فهي، أي روسيا، تعمل ضمناً على استخدام إيران كورقة ضغط على الإدارة الأمريكية لحملها على التخلي عن هذا المشروع.
أما منطقة الشرق الأوسط التي كانت تعتبر المسرح الرئيسي للتفاعلات الإستراتيجية والأمنية أثناء الحرب الباردة وبعدها، فإنها تحولت الآن إلى إحدى الساحات الرئيسية للحرب على الإرهاب، الذي تعددت مواقعه، من أفغانستان إلى العراق، ومن لبنان إلى الصومال والسودان مروراً بالساحة الفلسطينية، التي لا تزال تحتل دوراً هاماً في تحريك أحداث المنطقة، ومثلما كانت هذه المنطقة تتعايش مع تطبيقات السياسة الدولية في مرحلة الحرب الباردة ، فإن بعض القوى والأنظمة فيها بدأت تعلق آمالاً على النهوض الروسي الذي يعني لها إعادة التوازن الدولي، ومن ضمن ما يعنينا من تلك القوى الموقف الرسمي السوري الذي وقف الى جانب روسيا في حربها على جورجيا، وذلك من منطلق عرض الخدمات والمراهنة على المحاور الدولية ، وكذلك لدعم الموقع التفاوضي للنظام في مساعي فك العزلة مع الغرب ومفاوضات السلام مع إسرائيل، التي تتعامل مع هذا الموضوع من باب الاشتراط على فك الارتباط مع إيران، وتعتبر التنازل عن الجولان رغم معارضة غالبية الاسرائيليين، أقل خسارة من إشعال حرب جديدة ضد حزب الله الذي تضاعفت قواته وقدراته عما كانت عليها في تموز 2006 ، ومن هنا فهي، أي إسرائيل، تسعى لقطع الدعم العسكري الإيراني، واللوجستي السوري عنه، من خلال اتفاقية سلام تخرج سوريا من الصراع، وتنهي دورها كممر للمساعدات الى حزب الله وحركة حماس، كما أن تحييد سوريا بنظرها سيكون ضرورياً إذا فكرت إسرائيل بتوجيه ضربة استباقية إلى المراكز النووية الإيرانية والمواقع الصاروخية.. أما الجانب السوري، فإن تلك المفاوضات لا تعني له مجرد استعادة الجولان، بل إنها قد تفتح أمامه الطريق الى الحوار مع الإدارة الأمريكية التي يعتبر مشاركتها شرطاً أساسياً للانتقال الى المفاوضات المباشرة وضماناً لنجاحها، إضافة الى أن النظام السوري يرمي من وراء ذلك للخروج من العزلة الدولية التي يعاني منها رغم ما تحقق له من انفتاح وإحياء للعلاقات مع فرنسا بعد الاستجابة لمبادرة الرئيس
ساركوزي في تسهيل انتخاب رئيس جمهورية لبنان في اتفاق الدوحة الذي حصلت سوريا بموجبه على تأشيرة التواصل مع أوربا عبر فرنسا التي أراد رئيسها إنجاح المؤتمر الأورو- متوسطي – . وتواصلت تلك العلاقات حتى توجّت مؤخراً بالقمة الرباعية السورية الفرنسية التركية القطرية في دمشق، التي سهّلت على الرئيس الفرنسي مهمة التحرك على المسارات الثلاثة المرسومة، وهي مفاوضات السلام والموضوع اللبناني والملف النووي الإيراني، الذي يسعى
ساركوزي، بضوء أخضر من الإدارة الأمريكية لتحقق ما عجزت هذه الإدارة عن تحقيقه بأساليب أخرى، وتحويل النظام السوري من حليف داعم لإيران إلى وسيط ساع لإقناعها بالتخلي عن تخصيب اليورانيوم، كما يراهن على تباين الموقفين السوري والإيراني، فالجانب السوري، الذي تجمعه مع نظيره الإيراني أوراق إقليمية مشتركة عديدة، يسعى الى استثمار تلك الأوراق في المساومة مع الغرب لفك العزلة وتمييع المحكمة الخاصة باغتيال الحريري والضغط على إسرائيل للتفاوض معها من موقع أقوى، وإقناع أوربا بإحياء مفاوضات الشراكة الأوربية المتوسطية، وكذلك للعودة الى دائرة الاهتمام العربي الرسمي، أما الجانب الإيراني فإنه يتعامل مع تلك الأوراق من موقع البحث عن دور إقليمي وحسم الملفات الخلافية لصالحه وخاصة الملف النووي 0
أما تركيا التي ترعى المفاوضات السورية الإسرائيلية غير المباشرة في استانبول، فإن ثقة الجانبين بها كوسيط تأتي من دورها كحلقة وصل بين الشرق والغرب، ومن محافظتها على عمق العلاقات مع الدول الأوربية وأمريكا، من جهة، باعتبارها عضو في حلف الأطلسي، مقابل تمتعها، من جهة ثانية، بعلاقات جيدة مع إيران، وارتباطها مع دول الخليج بمذكرة تفاهم، وكذلك من قدرتها على تذليل بعض العقبات، خاصة ما تتعلق منها بالمياه التي يمكن أن تعوضها تركيا من خلال مشروع أنابيب السلام العابرة من سوريا إلى الأردن وإسرائيل، ومنها قد تصل إلى الخليج، كما تأتي من عمق العلاقات السورية التركية التي تنمو باتجاهين: الأول إنعاش التجارة بين البلدين والتوصل الى العديد من الاتفاقات ومنها تشجيع الاستثمارات والتعاون الجمركي ومنع الازدواج الضريبي وتطبيق اتفاق التجارة الحرة والتوقيع على مذكرة تفاهم على قضايا سياسية واقتصادية وأمنية، وقضايا أخرى تتعلق بالطاقة والمياه. أما الاتجاه الآخر فهو التحرك الإقليمي المشترك مع إيران لمواجهة أي تطور مفاجئ في كردستان العراق لإفشال التجربة الديمقراطية المنبثقة عن الإقرار الدستوري للنظام الفيدرالي في العراق والتي تتخوف تلك الدول من اسقاطاتها على الوضع الكردي في بقية أجزاء كردستان، وعلى هذا الأساس بدأت بإحياء محورها الثلاثي (السوري التركي الإيراني)، القائم على التعاون لمواجهة الحركة الكردية، خاصة في كردستان العراق، والتأثير على القرار السياسي الكردي والتدخل في الشأن الداخلي العراقي، وتحويل مسألة كركوك إلى منطلق لتصارع قومجي يحل محل الفتنة الطائفية التي قد تقترب من نهاياتها خاصة بعد التفاهمات التي جمعت بعض الكتل السياسية مع النظامين الإيراني والتركي، والتي تجلت في إبقاء المادة 140 من الدستور العراقي قيد النظر والتي لم تجد طريقها للتطبيق حتى الآن.
ومن الجدير بالذكر أن قضية كركوك، وكذلك المناطق الأخرى المستقطعة مثل خانقين وسنجار ومخمور وغيرها خلقت أجواء ملبّدة بعدم الثقة ستكون لها آثاراً سلبية على التحالفات القائمة، خاصة في هذه المرحلة التي، يواجه فيها العراق تحديات أخرى تتمثل في مناقشة الاتفاق الأمني مع الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يسعى الجانبان لإقراره، وتجاوز الخلاف على بعض القضايا العالقة، ومنها وضع جدول زمني للانسحاب، وكذلك موضوع الحصانة المطلقة التي يفترض أن يتمتع بها الجنود الأمريكيون في العراق. لكن ومهما تكن صيغة تلك الاتفاقية، فإن الجانب العراقي لا يخفي استمرار حاجته للدعم العسكري الأمريكي من أجل الحفاظ على الأمن غير المستقر في ظل المصالحة الوطنية الهشة في هذا البلد الذي يشكل استقراره وتجربته الديمقراطية هاجساً لدول الجوار الاقليمي، ومنها إيران التي تعارض تلك الاتفاقية مدّعية بأن الولايات المتحدة الأمريكية تحاول بها تثبيت تواجدها.. ورغم أن بعض المراقبين العراقيين يرون في الموقف الإيراني من الإتفاق تدخلاً في شأن سيادي داخلي يخص العراق، فقد صعّدت إيران معارضتها، ونجحت في فرض وجهة نظرها على الكثير من المسؤولين العراقيين الذين برّروا اعتراضاتهم عليها بأن التوقيع من شأنه أن يفاقم الصراع الأمريكي الإيراني حول تقاسم النفوذ في العراق الذي تتخذ إيران منه مسرحاً أساسياً لصراعها مع أمريكا وتستخدم حلفاءها فيه لتهديد الجيش الأمريكي في حال تعرضها لأي هجوم، مثلما تتعامل مع حزب الله في جنوب لبنان باعتباره قاعدة متقدمة للرد على إسرائيل بعد أن زوّدته بإمكانات كبيرة وسلاح متطور يشكل الآن نقطة خلافية رئيسية في طريق الحوار الوطني اللبناني الذي يمر بمرحلة اختبار عملي لمصداقية إتفاق الدوحة وشروطها. ورغم إنجاز مهمة انتخاب رئيس الجمهورية والاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية وما يعنيه ذلك من التأسيس لمرحلة جديدة، فإن التحديات لا تزال قائمة، ومن بينها موضوع سلاح حزب الله الذي يدخل كعامل مؤثر في الصراع الداخلي، ويلغي مبدأ تكافؤ الفرص، خاصة في الانتخابات البرلمانية المقبلة، ومن التحديات الأخرى التي تواجهها الحكومة الجديدة صياغة العلاقات السورية اللبنانية على أسس منصفة، ومدى قدرة رئيس الجمهورية على تصحيحها، وتنفيذ القرارات الدولية المنظّمة لها، وسد المنافذ أمام التدخلات الإقليمية.
لقد شهدت الساحة الفلسطينية ظروفاً صعبة ومعقدة، خاصة بعد أن شهدت خلال العام الماضي تطورات دراماتيكية ألقت بظلالها على مستقبل قضية الشعب الفلسطيني، ومنها سيطرة حماس على قطاع غزة في 14 حزيران 2007 ، ودخول القضية الفلسطينية منذ ذلك الوقت في دوامة مجهولة حيث أصبح للشعب الفلسطيني حكومتان إحداهما في غزة تقودها حماس، والأخرى في الضفة الغربية بقيادة فتح، واتخذت إسرائيل من هذا الانقسام فرصة لتعميقه بغية تكريسه، وأحكمت حصارها على غزة التي اعتبرتها كياناً معادياً وصولاً إلى إغلاق المعابر وقطع الكهرباء والوقود، لكنها بالمقابل تعمل على عدم السماح لأحد الطرفين بحسم الصراع لصالحه في محاولة لاستمرار النزيف الفلسطيني.
الوضع الكردستاني
كان لإسقاط نظام البعث الدموي في العراق في نيسان 2003 تأثيراً كبيراً على المنطقة عموماً، وعلى الجوار الكردي بشكل خاص، ومن أجل ذلك كان همّ الأنظمة التي تقاسمت كردستان وتضطهد الشعب الكردي في كل من إيران وتركيا وسوريا، ولا يزال، هو الحيلولة دون استقرار العراق خوفاً من انتقال عدوى الديمقراطية إلى الجوار الإقليمي، كما كان همّها أيضاً التآمر على التجربة الفيدرالية. ومن هنا جاءت الاعتداءات العسكرية التركية والإيرانية على كردستان وتدخلاتها السافرة في شؤونه الداخلية، في محاولة لإجهاض تلك التجربة، التي– رغم أهميتها – لا تزال تعاني العديد من التحديات والإشكالات ، منها ما هي داخلية تتعلق بالتعامل الديمقراطي في البيت الكردي الداخلي وعملية تقاسم السلطة بين الحزبين الرئيسيين
PDK – YNK في كردستان على قاعدة الرجل المناسب في المكان المناسب ونبذ المحسوبيات، وأخرى تخص العلاقة مع الحكومة المركزية، حيث لا تزال العديد من المشاكل العالقة، ومنها مسألة المناطق المقتطعة، مثل سنجار وخانقين ومندلي ومخمور وغيرها، لكن تبقى أكثرها حساسية قضية كركوك التي من المفترض أن تخضع للمادة 140 من الدستور التي تتضمن تصحيح عمليات التعريب أي التطبيع ، ثم الإحصاء تمهيداً للاستفتاء ومن ثم اتخاذ القرار النهائي بخصوص مصير كركوك، لكن تطبيق هذه المادة وغيرها يلقى المعارضة من جانب بعض الكتل السياسية، التي تعمل بإيحاءات إيرانية وتركية، أو بوحي الفكر الشوفيني المترسب، والتنكر للدستور تحت غطاء إعادة صياغة بعض مواده من جديد، مثلما تنكرت للعهود التي قطعتها مع الكرد قبل سقوط النظام تحت غطاء خطر إقامة دولة كردية في حال ضم كركوك لإقليم كردستان.
أما في كردستان تركيا، فقد كان لاعتقال السيد
أوجلان عام 1999 وتطبيقات اتفاقية أضنه (السورية – التركية) أثراً كبيراً في تراجع الحركة المسلحة التي قادها حزب العمال الكردستاني، الذي اضطر لإعلان هدنة من جانب واحد نتيجة للضغوط السياسية والعسكرية والأمنية التي مارسها النظام التركي إثر سلسلة من التفاهمات والمساومات الإقليمية، واستمر وقف إطلاق النار حتى عام 2004 حيث تغيّرت الظروف السياسية بعد حرب العراق وانتشار حالة الفوضى فيه، مما جعل منه ملجأً سهلاً لبعض الحركات المسلحة ، ومنها
PKK الذي تمكن من زيادة عدد مقراته في الجبال الوعرة من الشريط الحدودي لكردستان العراق، وليتخذ الجيش التركي من هذا التواجد ذريعة لشن العديد من الحملات العسكرية البرية الفاشلة والغارات الجوية، التي أكدت بأن الحلول العسكرية وصلت إلى طريق مسدود، وأن الحوار الديمقراطي مع الممثلين المنتخبين للشعب الكردي في كردستان تركيا هو الكفيل بإيجاد حل عادل للقضية الكردية هناك.
وعلى صعيد السياسة الرسمية ، وعلى الرغم من إلغاء الأحكام العرفية في كردستان تركيا ومنح الأكراد حق التعلم بلغتهم في المدارس الخاصة، وبث إحدى القنوات الفضائية التركية برامجها باللغة الكردية، وصدور بعض الصحف الكردية المرخصة تحت ضغط الاتحاد الأوربي الذي يعارض انضمامها للاتحاد بسبب سجلها السيئ في مجال حقوق الإنسان والتعامل مع القضية القومية الكردية، فإنها تحاول الالتفاف على هذه القضية التي تعجز عن حلها بالتهرب من استحقاقاتها، وهي تمارس على أرض الواقع سياسة التتريك والغطرسة القومية التركية من خلال التقليل من شأن كل ما هو غير تركي، مما ينعكس سلباً على التطور الطبيعي للغة والثقافة الكردية وخطط التنمية في مناطق كردستان.
أما بالنسبة للحراك السياسي الكردي، فقد نشط حزب المجتمع الديمقراطي
DTP بين أوساط المجتمع الكردي، وتمكن من إيصال ممثليه إلى رئاسة ومجالس العشرات من البلديات في المناطق الكردية وإلى البرلمان التركي، كما تنشط أحزاب كردية أخرى مثل الحزب الاشتراكي الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني(باكور) وH
AK-PAR ومستقلون نشطاء .
من جانب آخر، بدأت بعض الجمعيات والمؤسسات الثقافية والشخصيات الكردية الوطنية الغيورة في الفترة الأخيرة، بالانتظام العلني في تنظيم سياسي كردي جديد يعتمد النضال السياسي الديمقراطي السلمي والأسلوب العلني، سمي بـ
TEV-KURD(حركة الكرد). وعقدت هذه الحركة مؤتمرها الثالث مؤخراً في آمَد(ديار بكر) بشكل علني، وأكدت أن أسلوب النضال السلمي الديمقراطي هو الأمثل من أجل تحقيق أهدافها. وأكدت ضرورة الحفاظ على المكاسب التي تحققت في إقليم كردستان العراق ودعمها بكل الإمكانات المتاحة.
أما في كردستان إيران: فإن نظام الجمهورية الإسلامية المتخلف يعاني من أزمة سياسية اقتصادية اجتماعية خانقة، وتئنّ الشعوب الإيرانية بكافة شرائحها وأطيافها من وطأة الظلم والإجحاف اللاحق بها من جراء سيطرة نظام الملالي على زمام الأمور في إيران.
ورغم أن الكرد كانوا قد تمكنوا من إنشاء بعض المؤسسات المدنية في عهد خاتمي مثل إصدار بعض الصحف وتشكيل مراكز ثقافية واتحاد الطلبة الكرد وإنشاء رابطة الجالية الكردية في طهران، وكذلك المعهد الثقافي الكردي فيها وجمعية حقوق الإنسان في كردستان، بالإضافة إلى تغاضي النظام عن تشكيل ما تسمى بـ(جبهة التحالف الكردي- جبهة متحد كرد)التي ضمت عدة جمعيات ومؤسسات مدنية وثقافية تعمل في طهران والمناطق الكردية .. غير أن أجهزة النظام في عهد الرئيس أحمدي نجاد أغلقت العديد منها وأحالت الكثير من الصحفيين والناشطين الأكراد إلى محاكم غير نزيهة وأصدرت بحقهم أحكاماً جائرة تندى لها الجبين.
واليوم فإن الجماهير الكردية هناك تقف خلف الحزب الديمقراطي الكردستاني- إيران الذي يقود النضال القومي التحرري لشعبنا في كردستان إيران بهدف انتزاع الحقوق القومية المشروعة في إطار إيران ديمقراطي فيدرالي، بالإضافة إلى تنظيمات كردية أخرى مثل
كومله وحزب
أزادي كردستان. وتلتقي الحركة الكردية هناك مع القوى الديمقراطية في إيران والمنطقة في تقييم طبيعة نظام طهران الذي يمارس سياسة إرهاب الدولة وتصديرها ، وكذلك تعصبه الطائفي والقومي الشوفيني، ورغم التحذيرات المستمرة والعقوبات الاقتصادية المتكررة التي فرضت عليه بسبب برنامجه النووي من جانب مجلس الأمن ، والتي فشلت جميعها عن ردعه ، فإنه لا يبالي بما قد ينجم عن تمرده على قرارات الشرعية الدولية من تبعاتٍ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الحركة الكردية في إيران ترى أن هناك ضرورة تاريخية ومسؤولية أخلاقية لتأطير نضال جميع القوى الديمقراطية والتقدمية في إيران وكردستان لتشكيل جبهة نضالية مشتركة تضمّ كافة القوى الإيرانية الخيرة، لتوحيد طاقاتها النضالية من أجل إسقاط النظام الإسلامي الحاكم بالوسائل والطرق الديمقراطية، وتعمل يداً بيد من أجل بناء حكومة وطنية فيدرالية، تلتزم بالديمقراطية قولاً وعملاً وتصون حقوق المواطنة، وتتمتع فيها كافة القوميات الموجودة في إيران بحقوقها القومية ضمن إطار وحدة البلاد، خاصة بعد أن باتت جميع القوى السياسية في إيران على قناعة تامة اليوم بأنها لا تستطيع تحقيق أهدافها طالما بقي هذا النظام حاكماً للبلاد، لأنه لا يتنكر فحسب لحقوق الشعوب الإيرانية ، بل أنه يسعى جاهداً من أجل صهر هذه القوميات انطلاقاً من فهمه بأن الشعور القومي يضعف إيديولوجية الإسلام، وأنه يرى، وفقاً لمنظوره أحادي الجانب هذا، ضرورة التفاف جميع البشر حول هذه الإيديولوجية، بغضّ النظر عن قومياتهم، في حين يناضل فيه الحزب الديمقراطي الكردستاني- إيران من أجل تأمين الحقوق القومية الكردية في إطار إيران موحد، والشعار المعتمد لديه حالياً هو: (إقامة حكومة ديمقراطية فيدرالية تصون هوية الكرد وباقي الشعوب الإيرانية، وتحترم الديمقراطية والقانون وحقوق الإنسان)، ويدعو الحزب إلى تعزيز الوحدة الوطنية على أساس احترام حقوق الجميع ومبدأ الشراكة الوطنية والتساوي في الحقوق والواجبات.
أواخر تشرين الثاني 2008 الهيئة القيادة
لحزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا(يكيتي)