الحل السلمي للمسألة الكردية في تركيا هو الخيار الأفضل والوحيد
التاريخ: الأربعاء 04 شباط 2009
الموضوع: اخبار



 د. إسماعيل حصاف

لقد عجزت الآلة العسكرية في حل المسألة القومية في اطار مفهوم العسكرتاريا، فالعنف لن يجدي نفعاً في اخضاع حركات التحرر، قد يطول من عمر السلطة أو يسبب في اضعاف وتشتيت حركات التحرر لفترة معينة وفي زمن محدد، الا أن ذلك الأسلوب في التعامل مع قضايا الشعوب لن يزيدها الا اصراراً وتحدياً وتأطيراً لانطلاقات جديدة متى ما سنحت الظروف والأجواء المناسبة. فقد تمكنت قوات الفيتكونج من الحاق الهزيمة باقوى ترسانة عسكرية في حينها. والثوار الفيتناميون في منتصف عام 1954 الحقوا اكبر هزيمة بالجيش الفرنسي في معركة ديان بيان فو بالقرب من حدود لاوس، ووضعت هذه الهزيمة حداً للامبراطورية الفرنسية في جنوب شرق آسيا.


كما واضطرت الولايات المتحدة الأمريكية الى سحب قواتها من هذا البلد والاعتراف بمطالب شعب فيتنام في أوائل عام الأنظمة الدكتاتورية والشوفينية التي توالت على دست الحكم في حل القضية القومية الكوردية عن طريق العنف، هذا بالرغم من أن تلك الأنظمة قد لجأت الى استخدام ج1973 بعد ان فشلت طوال تسع سنوات في استخدام العنف والعدوان.
وفي العراق عجزت جميع ميع صنوف الأسلحة المحرمة دولياً بدءاً من النابالم ووصولاً الى الأسلحة الكيمياوية التي استخدمت ضد حلبجة الشهيدة، هذه الجريمة الشنيعة التي لم يشهد التأريخ مثيلاً لها، راح ضحيتها آلاف مؤلفة من ابناء الكورد اطفالاً وشيوخاً، رجالاً ونساء لا لشيء سوى لأنهم ابناء القومية الكوردية. ولكن بدأت حلبجة تجدد حياتها، محتضنة شهداءها، محتفظة بزيها القومي، متمسكة بمبادئها أكثر من الأول بينما راحت الأنظمة الى الجحيم وهي تدفع فواتير جرائمها المشينة اللاانسانية المدمرة.

يتجاوز اليوم عمر القضية الكوردية في تركيا تسعة عقود، وذلك منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وسقوط الامبراطورية العثمانية وتفككها، الأمر الذي جعل من المسألة الكوردية قضية سياسية دولية، لا بل حتى في سنوات الحرب شكل الرئيس الأمريكي آنذاك وودرو ولسن لجنة تحقيق برئاسة الكولونيل هاوس الذي لخص رأيه في الربع الأخير من عام 1917 بعدم تقسيم تركيا من قبل الدول المنتصرة بل أن تنقسم وفق خطوط اثنية ووافق ولسن على ذلك. وفي هذا الأطار جاء مبادئ ولسن الأربعة عشر التي لخصها في خطابه في الثامن من كانون الثاني عام 1918. وكان البند (12) يتعلق بالامبراطورية العثمانية، مؤكداً على ضمان حقوق القوميات اللاتركية واعطائها المجال للتطور الحر من أجل نيل حقوقها القومية، بما في ذلك حق تقرير المصير، وفي هذا الاطار جاء عقد مؤتمر الصلح بباريس 1919.

وفي العام ذاته قدمت لجنة كنك- كراين تقريرها مقترحة اقامة كوردستان كدولة مستقلة في الشرق الأوسط. وكان ذاك المقترح يتطابق مع السياسة الأمريكية والبريطانية في المنطقة، حيث مكامن النفط الغنية في ولاية الموصل الكوردية، ناهيك عن الموقع الجيو- بوليتيكي على تخوم الدولة الشيوعية السوفياتية في الشمال والطريق نحو مستعمراتها الهندية في الجنوب، فضلاً عن أنها ستكون المرصد المحصن والحلقة الأقوى في الصراعات القادمة لاسيما وانها تشرف على قارات وشعوب ومناطق استراتيجية في العالم، حيث القفقاس في الشمال والمتوسط بوابة أوربا في الغرب والطريق الى امبراطورية الصين العظيمة عبر ايران ونحو الهند والعالم العربي في الجنوب.

وفي عام 1920 أكدت المادة (64) من معاهدة سيفر والتي وقعت عليها الدولة العثمانية (اذا قام الكورد القاطنون في المناطق المحددة في المادة (62) بمراجعة مجلس عصبة الأمم في غضون سنة واحدة من دخول هذه المعاهدة حيز التنفيذ، مبينين أن اكثرية سكان هذه المناطق يرغبون في الاستقلال عن تركيا، واذا ارتأى المجلس حينئذ ان هؤلاء مؤهلون لمثل هذا الاستقلال واوصى بمنحهم اياه؛ فأن على تركيا ان تتعهد بموجب ذلك بتنفيذ مثل تلك التوصية، وأن تتخلى عن كل حقوقها وحججها في هذه المناطق)، وكان القصد بالمناطق المحددة في المادة (62) هي ذات الأغلبية الكوردية والتي تقع الى الشرق من نهر الفرات وجنوب أرمينيا والى الشمال من حدود تركيا مع سوريا وميسوبوتاميا...) الا أن تغير الأوضاع السياسية آنذاك لصالح الكمالية الجديدة اثر الغاء السلطة العثمانية عام 1922، وحنكة كمال أتاتورك، قد افرغا معاهدة لوزان الموقعة في 24 تموز من عام 1923 من أي مضمون يتعلق بالالتزامات الدولية في سيفر وما قبلها تجاه القضية الكوردية. ويعود انتصار تركيا وفشل الكورد في تحقيق مطالبهم برأينا الى جملة من الأسباب. لابد هنا من تحمل الدول الكبرى التي تراجعت عن تعهداتها والتزاماتها المسؤولية امام المجتمع الدولي، وفي هذا الاطار فأن بريطانيا وفرنسا تتحملان المسؤولية المباشرة منذ ان حبكتا مشروع اتفاقية سايكس- بيكو حول تقسيم ممتلكات الدولة العثمانية المهزومة، ان هذا المشروع الأنكلو- فرنسي لم يقسم فقط الجزء العثماني من كوردستان الى ثلاثة اجزاء وتمزيقه بين دول حديثة العهد، لابل وحرم الكورد مستقبلاً من دعم وتضامن أي شعب من الشعوب الكبرى المجاورة الثلاثة: الفرس والترك والعرب، مادامت القضية الكوردية اصبحت تمس الجميع، وبالتالي ووفقاً لهذا المخطط اصبح الكورد معزولين اقليمياً ودولياً.

الى ذلك، جاء توقيت إندلاع ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى في وقت اضرت بالنتيجة بالقضية الكوردية، هذه الثورة التي غيرت موازين القوى الدولية والنظام السياسي العالمي، فمن جهة تعاملت روسيا الجديدة مع تركيا الكمالية حماية لنفسها، ومن ناحية أخرى اعتقدت بريطانيا أن الدولة الكوردية القادمة قد تكون أداة بيد موسكو، مما يهدد المصالح البريطانية في الشرقين الأوسط والأدنى.

وأما بالنسبة لأمريكا فقد عادت الى سياسة العزلة والى مبدأ مونرو لعام 1823، وبهذا الشكل هاجرت القيادة الأمريكية مشروعها الوارد في مبادئ وبنود الرئيس الأمريكي الأربعة عشر، ولم تعترف بمعاهدة لوزان، بالرغم من حضورها كمراقب، وقد ارسلت الدبلوماسية الأمريكية مذكرة رسمية الى دول الحلفاء في 30 تشرين الأول عام 1922 وردت فيها بان (الولايات المتحدة لم تكن في حالة حرب مع تركيا، ولا طرفاً في هدنة 1918، ولا ترغب في الأشتراك في مفاوضات الصلح النهائية، أو تحمل مسؤولية التعديلات السياسية والاقليمية التي تحصل) وبالتالي نرى أنها لن توافق مبدئياً على تغيير السياسة الجديدة نحو الكورد في اطار التعديلات الدولية.

ولا يغيب عن بالنا هنا العامل الكوردي، لاسيما فيما يتعلق بغياب الدبلوماسية الكوردية وضعفها وعدم تماسكها في المحافل الدولية وعلى أرض الواقع، فالشيخ محمود الحفيد ملك كوردستان كان يراسل قائد ثورة اكتوبر في روسيا فلاديميير لينين مطالباً اياه بدعم تشكيل دولة كوردية حليفة لروسيا الجديدة ضد البريطانيين، هذا في الوقت الذي كان الجنرال احسان نوري باشا يرأس الوفد الكوردي في معاهدة الصلح بباريس وتحت ادارة دول الحلفاء، حيث كان الدور الأساسي للبريطانيين والفرنسيين، في حين كانت مجموعة من الشباب الكورد في استانبول تقف مع الدولة العثمانية ضد المشاريع الخارجية، ناهيك عن التصورات الفردية والآراء الشخصية للقادة والزعماء الكورد هنا وهناك مما ألحق الضرر البالغ بمصير القضية الكوردية، حيث ادرك الكبار بأن الكورد غير مؤهلين لادارة دولتهم، علماً ان الأرشيف البريطاني يؤكد عزم بريطانيا على تشكيل دولة قومية كوردية آنذاك.

أما العامل الآخر حينذاك في فشل المشروع الكوردي، فهو حنكة كمال أتاتورك وتمكنه من المناورة السياسية دولياً وداخلياً ونجاحه في ضرب الوحدة الكوردية وتشتيت رأيهم وبروز الانشقاق في التصورات المستقبلية، ونجاح مصطفى كمال في استمالة الزعماء وقادة العشائر الكوردية الى جانب مشروعه الوطني لقتال (الجيوش المسيحية الكافرة). ولتهيئة الأجواء نحو لوزان، جاء مشروع الحكم الذاتي الكوردستاني- تركيا 1922 والذي ورد فيه (انطلاقاً من الحرص على ضمان تقدم الشعب التركي ونهضته واستناداً الى المبادئ الحضارية التي نؤمن بها، يقترح المجلس الوطني تشكيل ادارة الحكم الذاتي للشعب الكوردي بما يلائم عاداتهم وتقاليدهم... ينتخب المجلس الوطني الكوردستاني من قبل سكان الولايات الشرقية عن طريق الانتخاب العام المباشر وتكون ولايته لمدة (3) سنوات... لحين يتم تحديد حدود المنطقة الكوردية من قبل لجنة مشتركة من الكورد والترك يكون المجلس الوطني الكوردستاني ممثلاً للولايات الآتية: وان، بدليس، ديار بكر، درسيم، وبعض الأقضية والنواحي الأخرى... يتم تأسيس نظام قضائي خاص للمنطقة الكوردية ويكون هذا النظام منسجماً مع العادات والعرف المتبع في المنطقة مع امكانية تدريس اللغة الكوردية في المدارس وتأسيس جامعة في المنطقة- هذا القانون المقترح للحكم الذاتي في المجلس الوطني التركي جوبه بمعارضة النواب الكورد بشدة اذ بلغ عدد المناوئين لهذا المشروع (64) عضواً، فقد رأى النواب الكورد في البرلمان التركي ان المسألة الكوردية لا يمكن ان تحل بهذه الاجراءات السطحية المذكورة في المشروع المقترح.

فبعد أن حققت القيادة التركية الجديدة اهدافها في طرد القوات الأجنبية من الأراضي التركية وبعد ان عزلت المسالة الكوردية دولياً بجر الكورد الى صفها وبعد ان وعدتهم بحل المسألة الكوردية عقب الانتصار على اليونانيين والفرنسيين وغيرهم، لكنها اعطتهم ظهر المجن وبدأت بمحاولة تصفية الحركة الكوردية عبر مشاريع تفريغ المنطقة الكوردية في الثلاثينيات من القرن الماضي، وشهدت كوردستان تركيا العديد من الانتفاضات والثورات في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، لحماية الشعب الكوردي من الانصهار وتأمين حقوقه القومية.

وفي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ولاسيما بعد سقوط الملكية في العراق وعودة القائد الكوردي مصطفى البارزاني ومن ثم اندلاع ثورة ايلول التحررية في أيلول عام 1961، تمحورت سياسة الدول المقسمة لكوردستان حول هدف واحد وهو محاربة الكورد والالتقاء في خطة تصفية التطلعات الكوردية في الشرق الأوسط وقامت تلك الدول برسم استراتيجياتها على هذا الأساس، ومن هنا جاءت على سبيل المثال لا الحصر عملية النمر عام 1963 من قبل حلف السنتو (بغداد سابقاً) التي شاركت فيها القوات التركية والايرانية فضلاً عن ارسال سورية لاحدى فرقها حينذاك.

كانت تركيا تحتل موقعاً مهماً في الاستراتيجية الدولية للغرب في اطار الحرب الباردة، فهي عضو وللآن في الناتو وتبنت حلف السنتو بعد خروج العراق من حلف بغداد في اطار مشروع دول الحزام الشمالي لمواجهة المد الشيوعي السوفياتي من جهة ولضرب حركة التحرر الوطنية الكوردية من جهة ثانية.

وبعد عرض هذا الموجز السريع جداً لمرحلة مليئة بالأحداث والتناقضات والصراعات رأينا بان العنف لن يصبح يوماً بديلاً لحل القضية الكوردية، اذ خرج الكورد من كل تلك الظروف المؤلمة والصعبة اكثر قوة وايماناً بعدالة قضيتهم والتمسك بها.

لاشك أننا جميعاً أمام تغيرات سريعة حصلت في العالم منذ عقدين من الزمن، فانهيار المعسكر الاشتراكي وانتهاء الحرب الباردة في التسعينيات من القرن الماضي قد غير الكثير من التوازنات والرؤى. فقد سقط الحكم الشاهنشاهي الذي كان يحتل جيشه المرتبة السادسة في العالم، وجاءت حرب الخليج الأولى والثانية لتغير الكثير من المعادلات السياسية كان ذروتها سقوط أعتى الدكتاتوريات في العالم المتمثل في النظام البعثي البائد. ولم يعد لجدار برلين وجود، اذ عادت الوحدة الى المانيا، وظهرت كيانات جديدة في العالم، مؤكداً على أن الخريطة السياسية ليست وحياً الهياً وانما تتغير وفقاً للتوازنات الدولية ولمصالح الكبار، ولم يعد لتركيا ذاك الدور الذي كان أيام الحرب الباردة، مادام السبب ذاته قد اختفى من المعادلة الجيو- استراتيجية، وبالنسبة للكورد فقد صدر في عام 1991 القرار الأممي رقم 688 الذي يذكر الكورد بالاسم لأول مرة في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، وتتمتع الجارة الجنوبية لتركيا- العراق اليوم بقيام نظام ديمقراطي تعددي فيدرالي، ويعتبر اقليم كوردستان العراق اليوم الحصن الأكبر للديمقراطية في الشرقين الأوسط والأدنى وأن من مصلحة دول المنطقة ومنها الدول المقسمة لكوردستان ليس فقط دعم هذه التجربة مادامت تخدم السلام والاستقرار لابل وأخذها نموذجاً لحل القضية الكوردية عندها.

لقد اثبتت العشرون سنة الأخيرة من الحرب الدائرة بين حكومة انقرة وحزب العمال الكوردستاني p.k.k بان الآلة العسكرية لن تستطيع القضاء على الحركة القومية الكوردية مثلما فشلت في السابق. وأن من مصلحة الدولة التركية البحث عن الحل الديمقراطي الحقيقي للمسألة الكوردية في البلاد، لأن ذلك سيكون الخيار الأفضل لتوطيد العلاقات الكوردية- التركية وفي ازدهار تركيا اقتصادياً واجتماعياً وتقوية مكانتها الدولية والاقليمية وصولاً الى الدخول في الأتحاد الأوربي.

أن أي مشروع تكتيكي من قبل حكومة انقرة لخدمة مصالح آنية أو محددة لن يكون مصيرها الا الفشل، وان العنف لن يزيد الحركة الا تأزماً وتعقيداً وعنفواناً ومن مصلحة الشعبين دعم الاستقرار والأمن والسلام الذي بالتاكيد يمر عبر بوابة حل المسألة الكوردية حلاً سلمياً وديمقراطياً جذرياً كخطوة نحو ترسيخ الديمقراطية الحقيقية في البلاد واقامة العلاقة المتساوية مع حكومة اقليم كوردستان التي اصبحت De-Facto في المعادلة السياسية اقليمياً ودولياً والكف عن التدخلات والضغوطات، فالشعب الكوردي يرنو الى اقامة افضل العلاقات مع جميع الشعوب ومنها الشعب التركي في اطار العيش المشترك القائم على المساواة ونيل الحقوق القومية.







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=5071