على أمثالك .. يكون البكاء
التاريخ: الجمعة 26 كانون الأول 2008
الموضوع: اخبار



المحامي إبراهيم حسين

ليست المشاعر قطعاً نتاج إرادة .. بل هي قسر ندفع إليه بلا ترتيب .. تتدافع الدموع أو ينشرح القلب بلا تعمد .. صادقة هي المشاعر لأن يد الإنسان لا تستطيع أن تلونها أو تلوثها .. صادقة هي المشاعر و المرء إن أخفاها عن المحيطين به فهولا يمكن أن يخفيها عن نفسه أبداً ..
ولهذا فقد جاءت وفاة المرحوم الأستاذ محمد نذير مصطفى لتكشف ما يخبئه داخلي تجاه ذلك الإنسان الذي طالما وقفت أمام قامته المديدة وجلاً فهذا الرجل يجبرك أن تختار كلماتك وتتعامل بحذر في كل تصرف ، لا لأنه متكبر بل لأنه كان جبلاً شامخاً ومخزوناً من ثقافة عجنتها الأيام يقدمها بتواضع يأسرك ويغلفها مراراً بلطف قل نظيره . علمت وأنا أسمع أن روحه قد فاضت إلى بارئها أني أكن الكثير الكثير من الود له ..


هذا الرجل الذي قدم من رحم المعاناة بالغ في نكران الذات ليصبح أنموذجاً .. عركته الحياة فألان عنقها وامتطى صهوة الكرامة .. عاش في كل صغائر الأمور كبيراً وسار بخطوات ثابتة على سلم المجد فارتقاه .. مثل هذا الرجل ليس كثيراً عليه أن يغلف حبه فؤادك .. بل من (المرض ) أن يكون هناك من لا يحبه .. وقد قال فيه من رافقه في رحلته بالمحاماة أنه لم يتسبب بأي إزعاج لأي من زملائه أو أي من القضاة أو الموظفين فكان بحق محامياً فهم مهنته على أنها مهنة الفرسان ..
كنت أعرفه سابقاً لكني خبرته عن قرب حين خلفته عضواً في مجلس فرع نقابة المحامين بالحسكة  .. إذ كان مرجعاً لي في كل ما استشكل علي .. بل كان الموجه الأول لي فجاءت نصائحه الصادقة لتقربني من الإحسان أو لتبعدني عن الشطط .. تعلمت منه و أنا الذي منعتني ظروف مكتبه من التمرين فيه لأنه كان على الدوام مشغولاً بعدد من المتمرنين يفوق ما كانت أنظمة النقابة تسمح به .. تعلمت منه أكثر ربما مما تعلمه منه المتدربون لديه .. هم تعلموا منه صمتاً أبلغ من كل الكلام وتعلموا الأدب والقانون ورسالة المحاماة الحقيقية ..  وأنا تعلمت منه فوق ذلك الكثير عن العمل النقابي .. أذكر كلماته على الدوام حين قال لي وهو يهنئني بالنجاح في الانتخابات النقابية : عليك ألا تنغلق على نفسك فمنذ اليوم أنت أصبحت ممثلاً لكل المحامين عربهم قبل كردهم ومسيحييهم قبل مسلميهم .. فهو رحمه الله كان مثالاً يحتذى في تنمية روح التآخي بين مختلف المكونات البشرية  في الجزيرة .. وكان يدافع بشراسه وشجاعة عن حقوق الشعب الكردي دون أن ينسى الشركاء الآخرين في الوطن فهو يتمنى الخير لهم مثلما يتمناه لشعبه وأذكر أنه وجهني إبان أحداث القامشلي إلى إصدار بيان باسم المحامين الأكراد للتنديد بأي محاولة لتصوير تلك الأحداث وكأنها صراع بين العرب والأكراد وبعد أن كتبته تفضل رحمه الله بتشذيبه وأضاف عليه المزيد من العبارات التي تخدم الغاية من إصدار ذلك البيان والذي لقي فيما بعد صدى إيجابياً رائعاً لدى كل المحامين الذين اطلعوا عليه من إخواننا العرب ..

لكل هذا لم يكن غريباً أبداً أن تنهمر دموع أخينا العربي المحامي محمد نديم في قاعة المحامين بالقامشلي وهو يقرأ خبر نعي الراحل الكبير فبكى وأبكانا معه .. ولم يكن غريباً أن يدخل معلمي الأستاذ منير حنا ( الكاثوليكي ) في حالة من الارتباك وهو يقرأ النعوة عدة مرات غير مصدق ويجلس جامداً وعيناه معلقتان في المدى الذي يقف عند ذاكرة طويلة  جمعته مع الراحل وجعلتهما أخوين حقيقيين.. ليس غريباً أن تضيق مقابر قدوربك في القامشلي بحشد هائل من خليط اجتماعي جاء ليودعه إلى مثواه الأخير وليس غريباً أبداً أن يأتي شيوخ العشائر العربية إلى خيمة العزاء أو يتقدم المطران الجليل متى روهم العشرات من رعايا كنيسته ليقدموا التعازي فهم مثلهم مثل إخوانهم الأكراد عرفوا أنهم يودعون رجلاً وطنياً من طينة الكبار ..

رحمك الله يا معلمي وحبيبي فقد جمعت بوفاتك كل محبيك وكل المؤمنين مثلك بقضايا الوطن وكل الذين يأملون مثلك أن تعود الأخوة بين مكونات الشعب السوري إلى سابق عهدها بعد أن تنفض عنها غباراً غريباً لن يؤثر على أصالة الجزيرة وشعبها ..

أدعو لك بالرحمة وأنا الذي تمنيت مراراً أن أضع بين يديك قرآناً لتحتمي به في رحلة علاجك من المرض الخبيث ولتتقرب به إلى بارئك .. والآن وأنت بين يديه أسأله عز وجل أن يغفر لنا ولك ويبدلك داراً خيراً من دارك وأهلاً خيراً من أهلك .. وعالماً أساسه العدل والرحمة خيراً من عالمنا الذي تحرفه المظالم عن سكة الخير وتكويه النعرات ويملؤه جور أهل الأرض ..

أبكيك اليوم ونحن ننهي مراسم تقبل العزاء وعلى أمثالك حقاً يكون البكاء ..







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=4923