الحقيقة التي »نحبُّها« ونخافها ونعافها في الشرق الأوسط
التاريخ: السبت 19 تموز 2008
الموضوع: اخبار



  هوشنك اوسي

دأبَ كلُّ دينٍ سماويّ أو وضعيّ على تقديم نفسه، على أنَّه الحقيقة، أو أنَّه السبيل الأمثل لبلوغها. وتالياً، هو المنافيستو الأزلي الأشمل والأعمّ والأدقّ والأصدق... الذي يقدِّم إجابات كافية ووافية لكلِّ أسئلة البشر، حول خفايا التكوين والوجود، وأحوال الدنيا والآخرة...! وما عدا هذا الدين، هو الباطل والزَّيف والدَّجل... لا غيره، الذي سيؤدِّي بالمرء للكُفر والشِّرك والشَّرِّ والهلاك في الدنيا، والعقاب الشَّديد في الآخرة! وكلُّ دينٍ، لديه المقدرة على الإقناع، بأنَّ سواه من الأديان أو الفلسفات الأخرى، لا ولن تجدي نفعاً في تطمين قلق البحث عن الحقيقة لدى البشر! وصحيح أن في الاختلاف غنى وثراء للحياة، بشرط ألاَّ يكون الاختلاف مدخلاً للخلاف والقطيعة والصراع والاحتراب، تحت يافطة: امتلاك الحقيقة!


والتاريخ يخبرنا عن مآسي الخلافات بين الأديان السماويَّة، وعن الخلافات الناشبة بين اشتقاقات وانشقاقات الدين الواحد، وكلٌّ يبيح دمَ الآخر، نافياً عنه امتلاك الحقيقة، واسماً إيَّاه بالضَّلال والباطل والكفر، الذي ينبغي أن يُجتثَّ! وفي اجتثاثه، ثوابٌ وأجرٌ عظيم!
في مسار معاكس لمنهج الأديان القائم على إعطاء الإجابات المطلقة، وسدِّ كلِّ المنافذ أمام السؤال، الذي قد يربك سكينة الوعي والنفس البشريَّة »المطمئنَّة«، بإثارته للشكِّ، وصولاً لتأطير العقل ضمن قناعات مطلقةٍ مغلقة، حاولت الفلسفة الاشتغال على العقل، عبر تنشيط وتحفيز حقول الوعي والإدراك، من خلال إطلاق سراح الفكر من قيود الدين، سعياً وراء الحقيقة. وهنا، كانت ومازالت البشريَّة، أمام حقلين متزاحمين، في مضمار السعي نحو الحقيقة. الأوَّل؛ يدِّعي امتلاكها، ويشتغل على الإقرار والإيمان والتسليم والإذعان بذلك. والثاني؛ ينفي عن الآخر، وعن نفسه امتلاكها، ويشتغل على العقل، لإنتاج الفكر والمعرفة.
ولئنَّ السؤال هو روح الفلسفة، والإيمان هو روح الدين، فإنْ خلتِ الفلسفة من الأسئلة، أضحت ديناً. وإن اكتظَّ الدين بالأسئلة، صار أقرب إلى الفلسفة، وابتعد عن الإقرار والإذعان والتسليم والإيمان. وعليه، قد يكون المشترك الجامع بين الدين والفلسفة، هو الحكمة. لكن، السؤال المفتوح على مداه، المنتج لسؤالٍ آخر، يتجاوزه في طلب الحقيقة، هو الذي يبقي الفلسفة حيَّة. وتالياً، يحافظ على بقاء الأديان أيضاً. فمن ضرورات وجود الدين، وجود الفلسفة، والعكس صحيح. فالدين، أكثر اشتغالاً على الروح والنفس، وتعزيز وتدعيم دور مكارم الأخلاق، من الفلسفة. في حين، أنَّ الفلسفة تشتغل على العقل والوعي وإنتاج الفكر والمعرفة، أكثر من الدين. ورغم مساوئ ومحاسن الدين والفلسفة، كيف يمكننا أن نتصوَّر الحياة بدونهما!؟
ربما تكون مآسي البشريَّة، هي في سعي البشر للوصول إلى الحقيقة، إمَّا عبر الدين أو الفلسفة؟ أو تكون هذه المآسي، ناجمة عن تشاجر وتصارع المتدينين والمتفلسفين، وليس لكون المُشكِل في الدين أو الفلسفة؟ لكن، حين تكون الحقيقة مدعاةً للخلاف والصراع والاحتراب، ألا يغدو السعي لبلوغها ضرباً من التهافت على امتلاك الخراب، والسير نحو الفناء؟ حينها، ألا يحقُّ لنا القول: هل العالم بحاجة لهذه »الحقيقة« التي تنتج الكوارث، وتغذِّي الأحقاد والعداوات بين البشر؟ أوليست الحياة أهدأ وأجمل، دون السعي لإدراكها؟! أوليس إدراك الحقيقة، هو إتلاف لها ولمدركيها في آن؟ أليس بقاء الحقيقة طاهرةً، وبعيدة عن شرور البشر، هو في بقائها غامضة؟ أليس السعي النبيل والسلمي لبلوغ الحقيقة، هو أجمل من الحقيقة ذاتها؟ لكن ثمَّة رأي آخر يقول: ليست بالضرورة أن تكون الحقيقة دوماً جيّدة أو جميلة. وحتَّى لو كانت سيئة أو قبيحة، تبقى الحقيقة دوماً مفيدة.
رحم الله ألبرت آينشتاين (١٤/٣/١٨٧٩ ـ ١٩٥٥٤١٨) الذي أوجد لنا النسبيَّة، حتّى نقيس بها الأمور والأشياء والأفكار، أثناء دراستها أو مناقشتها، دون إضفاء الإطلاق على النتائج التي نخلص إليها في نهاية المطاف. بمعنى، لم تقتصر نسبيَّة آينشتاين على العلوم التطبيقيَّة، وبل صارت من معايير العلوم الإنسانيَّة الأخرى. فحتى الزَّمن، بتحولاته وديمومة سيره نحو الأمام، والمكان، بتبدُّلاته وتحوّلاته، وقوانين العلم والكون، ونظم السياسة وعلم الاجتماع، وذائقة الفرد في السمع والقراءة والمشاهدة...، لهي خاضعة للنسبيَّة، وفق تباين خلفيات الرؤى التي تتناولها، واختلاف مستويات القراءة وزواياها، الآتية من اختلاف منسوب الوعي والتراكم المعرفي. وعليه، جاز لنا القول: إن الحقيقة، قد تكون مركِّبة. وباعتقادي، الإطلاق في الحقيقة، هو كونها نسبيَّة. ومما لا شكَّ فيه، إنه، وأثناء إخضاع ما نظنُّه حقائق للدرس، ووضعها على محكِّ البحث والتنقيب والمحاججة، هنا، تظهر متانة البنية المعرفيَّة، وقوَّة القرائن والأدلَّة المتجادلة للعلن. وحين يتدخَّل الحقد والنوازع الشخصيَّة والنَفَس العدواني على خطِّ المعالجات العقليَّة والمقاربات النقديَّة، هنا، يتنحَّى العقل جانباً. ولَكم ذهب البعض، ضحيَّة أفكارهم، أثناء الصراع في سبيل الحقيقة، نتيجة الردِّ عليهم بمنطق الحقد والضغينة، الذي هو منطق العاجزين. وليس بخافٍ، إن النهضة الأوروبيَّة التي أسَّست لراهن أوروبا، تأتَّت من الصراع المرير والدموي بين الأفكار والأحقاد، وبين النسبي والمطلق، وبين العقل والتحجُّر، وبين الوعي النقلي والوعي النقدي، وبين سلطة المجتمع وسلطة الكنيسة. وبالنتيجة، خرجت أوروبا من ظلمات التزمُّت والانغلاق إلى مشارف التمدُّن والتحضُّر وصناعة المستقبل. وما بقي من أحقاد وضغائن متوارثة، دفنته تحت ركام حربين كونيتين. وبدأت عملية التصالح مع ذاتها، بنقد ذاتها، والتأسيس لعقد اجتماعي أوروبي جديد، بدأ باتفاقيَّة روما، منتصف الخمسينيات، التي مهَّدت للاتحاد الأوروبي الحالي.
أمَّا نحن، شعوب الشرق الأوسط، فمهووسون بتجاهل حقائق الماضي، والتغافل عن حقائق الحاضر. نحن مسكونون برعب نقذ الذات، وإرجاء المراجعات النقديَّة الجادَّة والجريئة والحازمة والصارمة لتجاربنا السياسيَّة، ومنظوماتنا الفكريَّة، ونتفاخر ببؤسنا وخراب حالنا.
فالكرديُّ يقول: حذاري من نقد الذات الكرديَّة ونواقصها ومثالبها وآثامها وقبائحها...، أمام العربي أو التركي أو الفارسي...، لئلا يستفيد »الأعداء« من نقاط ضعفنا، وافتضاح أمرنا أمامهم! فالحقيقة التي نحبُّها ونسعى إليها، هي التي تستر عجزنا، ودجلنا ونفاقنا، ورعبنا من الحقيقة.
والعربي يقول: حذاري من نقد الذات العربيَّة، وفضح نظمها الاستبداديَّة، ومنْ لفَّ هذه النظم من النخب الفاسدة والمفسدة...، لئلا يستفيد العدو الصهيوني والأميركي والمرِّيخي والعفريتي...، من نقاط ضعفنا وعيوبنا، ويفشل مسعانا الرامي لـ»اقتلاع« إسرائيل من الوجود، ورميها في البحر، وردِّ الغزاة الأميركيين، و»أذنابهم الخونة« من الأكراد والشيعة! فالحقيقة التي ننشدها ونحبُّها ونطالب بها، هي التي لا تطالبنا بالنقد الذاتي والمراجعة النقديَّة، والتصالح مع حقائق الماضي والحاضر!
والفارسيُّ يقول: حذاري من نقد الذات الفارسيَّة! إنَّ ذاتنا القوميَّة، هي ذاتنا الطائفيَّة ـ الدينيَّة في آن! وعليه، فهي فوق النقد، لأنَّها موجَّهة من لدن »ولاية الفقيه«، المعصومة عن الخطأ! وأيُّ نقد للذات الإيرانيَّة، هو »كُفر«، وشراكة مع »الشيطان الأكبر«! إنْ انتقدتْ الذات الإيرانيَّة نفسها، جهاراً وعلانيَّة، وبشكل حزام وواضح، فهذا يعني أن العدو صار بيننا! وبقدر ما نتكتَّم على عيوبنا، بقدر ما يخشانا العرب والأكراد والأتراك، وقوى »الاستكبار العالمي« و»الشرِّ المستطير«! فالحقيقة التي نخافها ونعافها، هي التي تعرِّينا!
ويقول التركيّ: حذاري من نقد الأتراك لذاتهم الطورانيَّة ـ الأتاتوركيَّة، فهي ذات مقدَّسة! ذاتنا القوميَّة، فتحت القسطنطينيَّة، وحوّلتها إلى الأستانة، ثمَّ اسطنبول. ذاتنا القوميَّة، حكمت العرب ٤٠٠ سنة تجهيلاً وتتريكاً، ودمَّرت الصفويين الفرس، وأبادت الأرمن، ولا زالت تحكم الأكراد بالحديد والنار...! فلماذا ننتقد ذاتنا وماضينا، إذا كان العالم المتحضر، يتعامى عن قبائحنا الراهنة! إنْ انتقادنا لذاتنا، هذا يعني بأننا نعتذر من العرب والفرس والأكراد والأرمن...، وباقي الأقليَّات التي هضمنا حقوقها، وصهرناها في بوتقتنا! إنَّ انتقادنا لذاتنا القوميَّة أمام هذه القوميَّات والشعوب، هذا يعني بأننا نفتح لها الأبواب على مصارعها كي تطالبنا بحقوقها! فالحقيقة التي نحبّها، هي التي تنجينا من كشف تلك الحقائق الأخرى!
إذن، أكثر من يتحدَّث عن التاريخ، ويتفاخر بأمجاده الموهومة، هو نحن، لكن، نحن لا نقرأ التاريخ بعين الناقد! وإنْ قرأناه، فلا نفهمه! وإنْ فهمناه، فلا نستخلص منه العِبر! نحن مهووسون في التحايل على الذات. فقد اعتبر العرب هزيمة ١٩٤٨ نكبة! واعتبروا هزيمة ١٩٦٧ نكسة! في حين يعتبر بعض الأكراد ما جرى سنة ١٩٧٥ من إلقاء السلاح وهرب وفرار، على خليفة اتفاقيَّة الجزائر بين شاه إيران والنظام العراقي السابق، البعض يعتبره ـ كالعرب ـ نسكة، والبعض الآخر، يعتبره هزيمة. وفي واقع الأمر، هو استسلام مريع، لأن الكثير من مقوِّمات المقاومة كانت لا زالت موجودة! أمَّا الغرب وأميركا، وحتَّى إسرائيل، ففي نقدٍ ذاتيٍّ دائم، ومصارحة ذاتيَّة دائمة. ففضائح بوش، وقبله كلينتون، وفضائح أولمرت، وقبله شارون، كانت مادة النقد الذاتي الأميركي والإسرائيلي. لقد اعتبر العرب هزيمة ثلاث دولة عربيَّة، خلال ثلاثة أيام سنة ١٩٦٧ »نكسة«، في حين اعتبرت إسرائيل حرب تموز ٢٠٠٦ أمام حزب الله هزيمة لها، وأقالت وزير دفاعها! العرب تحايلوا على ذاتهم، بإنكار الحقيقة، والصهاينة صارحوا ذاتهم، بذكر الحقيقة، وتجرُّع علقمها، ودفع ضرائبها!
وتأسيساً على ما سلف: يبقى الشرق الأوسط على بؤس حاله، بِركاً من الدماء، ومستنقعاتٍ آسنة من الأحقاد القوميَّة والدينيَّة والطائفيَّة، وزاخراً بمشاريع حروب أهليَّة وإقليميَّة، ومتحفاً للأفكار والأقوال البائدة التي تناشد الحقيقة، وتتغنِّى بالسعي لبلوغها، وترتعب من الوصول إليها! سيبقى الحال على هذه، ما لم ينبعث النقد الذاتي الصريح والجاد، من تحت ركام وردم هذا الخراب الذي يترعرع في كنفه الشرق الأوسط. وآن لنا أن نعي، أنَّ أوَّل الإصلاح هو النقد، وأوَّل النهضة، هو النقد، وأوَّل البناء، هو الهدم.
([) كاتب سوري
------
عن جريدة السفير







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=4183