قولٌ في غزوات الدولة الطورانية
التاريخ: الأثنين 25 شباط 2008
الموضوع: اخبار



د. سربست نبي
 
عمدت الدولة التركية الأتاتوركية, منذ ما يقارب القرن, وبكل الوسائل طمّس ثقافة الشعب الكوردي وتقويض هويته وتحطيم مقومات وجوده الإنسانية، واستبدّت بمصيره واستعبدته قهراً. حيث منعت اللغة الكوردية، واغتالت المثقفين والمتنورين من أبنائه بكل عنجهية وبربرية ، واستباحت, أمام أنظار الرأي العام العالمي, الذي لم يحرّك ساكناً في وجه وحشيّة الطورانية التركية, كل أنماط الحياة الاجتماعية للكورد, منتهكة شروط الحياة الإنسانية ذاتها, التي تضمن بقاء هويتهم وديمومتها.


وكلما سعى هذا الشعب (في شمال كوردستان) إلى إيجاد فسحة لحريته، عمد الجنرالات الترك إلى سياسة الحديد والنار في مواجهة تطلعاهم السامية والمشروعة, وذلك بتوجيه قنابلهم وآلتهم العسكرية الفاشية إلى صدور أبنائه والفتك بالمئات, بل الآلاف من المدنيين العزل. ومنذ عقود ثلاثة مضت تواصل الطغمة الفاشية في أنقرة حرباً قذرة ضد الشعب الكوردي، فأحرقت القرى، وجرفت الأراضي الزراعية، ولم تسلم من أعمالهم البربرية حتى الطبيعة الحيّة. كل ذلك بغرض حرمانه من أية إمكانية لنيل حريته الطبيعية.
ولم تزل الجندرمة التركية الفاشية, منذ أيام, تهاجم القرى والقصبات الكوردية في  كوردستان العراق، بذريعة مقاتلة حزب العمال الكوردستاني وملاحقتهم, بدعم لوجستي إسرائيلي غير معلن. وهي تبدو, في هذا السياق, مدعوة إلى الخداع وإلى صوغ أكاذيب معدة لإخفاء مراميها الحقيقية, التي في الواقع تستهدف تدمير البنى التحتية والمرافق الحيوية, التي بناها أبناء الإقليم الكوردستاني في الجنوب بتضحياتهم وتفانيهم, وبهدف تقويض كيانهم القومي. كل ذلك يتمّ اليوم أمام صمت عربي مريب ومشين يهيمن على موقف المثقفين العرب وعلى سلوك ساستهم وتواطؤ دولي شبه كامل موحى به في سلوك الإدارة الأمريكية, التي منحت آلة القمع التركية الذرائع للتمادي في همجيتها وانتهاك حرمة وسيادة دولة تزعم ألسنة الساسة الترك إنها جارة عزيزة على قلوبهم. لكن في أسوأ الأحوال كان الموقف الدولي أمتن وأكثر مدعاة للشرف والشجاعة مقارنة مع الموقف العربي.
ولعل ما يثير الخيبة والسخط معاً هو الاستهتار الظاهر في سلوك الحكومة العراقية, التي أبدت موقفاً هزيلاً وهشّاً إزاء ما يجري في كوردستان من قتل وتدمير على أيدي جنود الفاشية الطورانية، أقلّه أن يقال عنه بأنه موقف مخزي. يفتقر إلى أدنى حسّ بالمسؤولية الوطنية, من جانب الحكومة ورئيسها المالكي, الذي سجل سابقة في تاريخ السلطة وأنظمة الحكم, بأن ولّى خارجاً بدعوى مرضه, وأدار ظهره للمسؤوليات الملقاة على عاتقه في ظلّ المحنة التي يتعرض لها بلاده. إنها المرة الأولى في تاريخ طبقات الحكام ومقاماتهم أن نجد رئيساً للحكومة يدفن رأسه في الرمل بهذه الطريقة للتنصل من مواجهة التحديات التي تواجه بلده.
 وسواء أكان هذا الصمت من جانب البرلمان العراقي ورئاسته, الذي لا يزال ثاوٍ في سباته الشتوي. وفي كل الأحوال فإن وفرة الذرائع هذه لدى الحكومة القائمة وبرلمانه تعكس تعرّ سياسي وأخلاقي تامّ لدى الجميع, وهذه الميزة تسجل لهم فقط دون الآخرين في تاريخ ممارسة السياسة والسلطة السياسية.  
بل إن ما يثير أشدّ الازدراء هو ما شرعت تتداوله وسائل الإعلام من أن الهجمة التركية هذه تأتي بمباركة غير معلنة وحضّ من قبل حكومة الدولة العراقية ذاتها وفي أعلى مستوياتها، في سياق تحجيم الدور الكوردي ولجم مطالب قواه السياسية بتنفيذ الاستحقاقات الدستورية المعطلة لحّد الآن, وبمباركة واضحة ومعلنة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية المعنية مباشرة بأمن العراق وحماية حدوده. وإذا ما تحقق هذا الظنّ, فإنه يعكس جبناً وتهاوناً في الأخلاق السياسية يتعذر إثباته لدى أي كان, سوى تلك الطغمة  اللئيمة, التي تنوي خلق صدع تاريخي عميق في الوحدة الوطنية للعراقيين. إنها طغمة بائعي الدم والضمير للغزاة بعبارات موجزة.
ولعل الحكمة السياسية تقتضي أن يرفض الرئيس العراقي جلال الطالباني في هذا الوقت ومن موقع مسؤوليته القومية والوطنية, دعوة رئيس الدولة الطورانية لزيارة الدولة, لأنها تنطوي على إهانة لمقامه وانتمائه, ولاتخلو, برأينا, من خبث وإذلال لا نرجوه. ومن الوقار الكفّ من جانبه عن الإطراء بحق زعامتهم  وما يحمل من طلاوة اللسان بحق قادتهم  طالما أن نعمة السماء التي قصد بها الطالباني أجير الطغمة العسكرية أردوغان  تحمل كل هذا الدمار والنقمة والكراهية. إذ ماتزال صفير قذائف الحقد والموت تمزق سكون جبال العراق وتبدد الطمأنينة في نفوس أبنائه, وتجوس في الظلماء طائراتهم لترجم روابي كوردستان بالنار والخراب وتستبيح مقومات الحياة فيها لتستحيل جحيماً. كما يستدعي الموقف في حدّه الأدنى مقاطعة جميع مبعوثي وموفدي الدولة المعتدية, فلا مبرر للمداهنات السياسية الخفية أو المعلنة بعد الآن.
إن الاحتلال التركي لكوردستان, التي تعتبر دستورياً جزءاً من الدولة العراقية, أظهر وبكل وضوح النفاق العروبي الذي يتشدّق به القوميون العروبيون كلما تعلق الأمر بهوية العراق القومية، فهؤلاء الذين نراهم يتباكون من المنابر العروبية على مصير العراق، وينوحون على وحدته, نجدهم اليوم وقد أخرستهم مدافع الترك الفاشيين، وخفت نحيبهم, بل و أبكمتهم. ويظهر لنا أن عروبة العراق وسيادته لاتساوي لديهم شيئاً طالما أن الأمر يتعلق بقمع الطموح الكوردي المشروع وقتله, وكأني بعروبة العراق لديهم تكفّ عن أن تكون ذا قيمة, مادامت المطرقة التركية تهشّم رؤوس الكورد الأبرياء.   
 إنّا على يقين بأن  أي انتصار للجيش التركي في هذه المعركة إنما هو بمثابة هزيمة لكل القيم الإنسانية والعدالة والمساواة بين الأمم , وفي الوقت ذاته سيعدّ انتصاراً لكل الفاشيين والعنصريين في المحيط الكوردي, ولهذا فإن هذه المعركة هي معركة مصير ووجود بالنسبة للشعب الكوردي. إذ تشكل حدّاً فاصلاً بين موقفين تاريخيين هو إما أن يكون المشروع القومي الكوردي ممكناً ومشروعاً, معترفاً به بذاته بعد الآن أو لا. ليعود أخيراً موضوعاً للاعتباطية وخاضعاً للمصادفات التاريخية والإرادات العسفية.إن انتصار الترك الطورانيين في هذه المعركة يعادل سقوط الكورد سياسياً و وقومياً, ويماثل إلى حدّ كبير نزعَ الشرعية التاريخية والسياسية عن المشروع القومي الكردي, وهو ما تستهدفه الآلة العسكرية التركية راهناً. لذلك يتعين على المثقفين من أبناء شعوب الشرق الأوسط قاطبة أن يرفعوا صوتهم عالياً بوجه العدوانية الطورانية التي تحاول فرض هيمنتها على كافة دول المشرق وليس على الكورد أو حزب العمال الكوردستاني فحسب.
تبرز بقوة وشجاعة, في هذا السياق, الأصوات الكوردية التي تدعو لمواجهة المدّ الطوراني الفاشي، و تستدعي دعماً مطلقاً من الجميع لقيادة إقليم كوردستان التي دعت للمواجهة الشعبية في وجه الجيش التركي, لحماية مكتسبات القومية والديموقراطية للكورد في العراق. بإزاء القبول الخفي والضمني للحكومة العراقية التي ارتضت لنفسها أن تكون تابعاً مهاناً. فلم يكن بدعاً من رئيسها أن يحثّ الخطى ويولّي الأدبار خارج البلاد في هذا الوقت العصيب, وسمح لنفسه أن يتخطى بيسر حدود الالتزام السياسي والوطني.
وحريٌّ بقيادة حزب العمال الكوردستاني نقل الحرب فعلاً إلى العمق التركي، والدعوة إلى انتفاضة شعبية شاملة في كوردستان الشمالية, لإسقاط جميع المزاعم الزائفة والأكاذيب التي تتذرع بها الدولة الطورانية في اعتداءاتها المتكررة. ونستطيع هنا أن ننوّه بقوة بدعوة قيادة الحزب بهذا الصدد، انطلاقاً من القناعة بأن هذه الحرب يجب أن تكون, الآن وفي جميع الأوقات, في مواجهة كل الآلة العسكرية الفاشية والمؤسسات التي تدعمها في العمق التركي تحديداً, ومن داخله.
لايبدو لنا أن الحلّ الأخير هو الأمثل  بالنسبة لجميع المعضلات القومية, وفي كل الأوقات, وبوجه خاص المسألة الكوردية في كوردستان الشمالية, فلا يكون الحلّ أبداَ بالعنف والعنف المضاد, وإنما بالاعتراف المتبادل والحوار على قاعدة المساواة بين الجميع, وهذا هو السبيل الوحيد والأجدى. إن من شأن تواصل العنف أن يولّد عنفاً مضاداً أشدّ قوة, مما يزيد من تعقيد الموقف, مثلما يعمق من استمرار الأزمة ويبدد احتمالات الخروج منها. إن الدخول في ملكوت السلام والطمأنينة, يمضي عبر بوابة التسامح والحوار الندّي فحسب. ودون ذلك تنتصب أسوار الكراهية والعداء وصلبة وقاسية بوجه التواصل الإنساني.
وتبدو دول الاتحاد الأوربي والرأي العام العالمي مدعوةفي هذا الوقت, بصورة ملحةوفاعلة, إلى تحمل مسؤولياتها الأخلاقية، والإنسانية والسياسية لردع همجية إرهاب الدولة المنظم الذي تمارسه تركيا في هذا الوقت. وحملها على وقف القمع والإنكار وسياسة القهر القومي التي تمارسها بحق الكورد في كوردستان تركيا, حتى يترسخ لديها الوعي بضرورة الحوار لحلّ المسألة الكوردية. وتعترف علانية بأن سياسات الهيمنة القومية والتمييز العنصري والتعسف ماعادت نافعة ومجدية بالنسبة لكل الأطراف.
إن الدولة التركية تثبت بإصرارها على هذه الممارسات عدم أهليتها السياسية والأخلاقية في أن تكون عضواً محترماً في المجتمع الإنساني المدني, وهي تفصح من خلال ذلك عن بربرية العقل السياسي التركي المستحكم وعنصريته, وتكشف عن حقيقة مراميه ومقاصده اللا إنسانية. وطالما أنها تتكئ على العنف والقهر والاستعباد, كأسلوب وحيد لإثبات ذاتها ووجودها دولة قومية طورانية , فإنها تنفصل تماماً عن مسار التاريخ المعاصر للمدنية الإنسانية, ولهذا السبب بالذات ستظل سلطة سياسية منبوذة وفاقدة لتقدير المجتمعات السياسية واحترامها...







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=3400