القراءة السياسية للأحداث : بين العقل والعاطفة - التوتر التركي - الكردي نموذجا
التاريخ: الثلاثاء 13 تشرين الثاني 2007
الموضوع: اخبار



 جوان ديبو
 
طغت النبرة العاطفية على كتابات معظم الكتاب الاكراد في التاويل السياسي للمشهد المضطرب والمقلق الراهن بين تركيا من جهة والاكراد المتمثلين بحزب العمال الكردستاني وكردستان العراق من جهة ثانية وافضت تلك النبرة الى قراءة سياسية خاطئة للمشهد الدراماتيكي العبثي الحالي وكانه يتناول بمعزل عن الاسباب والظروف التي هياته او النتائج الكارثية المدمرة التي قد تفضي اليه .
ويعود اسباب الوقوع في هذا الشرك الى الالتباس والخلط بين ما هو سياسي وواقعي متعلق بموازين القوى الداخلية والاقليمية والدولية (الديبلوماسية (وبين ما هو تاريخي وفكري متعلق بمسالة الحقائق والمبادىء والمعتقدات والتي يمكن تصنيفها ضمن حلقة (الايديولوجيا) .


هذا الكمين الذي غالبا ما يقع فيه الكثير من اصحاب الاقلام الذين ينساقون وراء غرائزهم الطبيعية او المكتسبة سواء القومية او الحزبية او التحالفية الضيقة فتحجب عنهم نور الحقيقة وجلاء الموقف لاجل من الزمان .
وتتولد هذه المواقف الاعتباطية الطفولية نتيجة منظومة من الافكار والاراء المسبقة التي تغذيها وتنميها الغرائز الانسانية كعاطفة الانتماء الواحد والمصير المشترك والتي تكون بمثابة المحرك الذي يجعلها تطفو فوق السطح وتجعل من تلك الكتابات اقرب الى الادب والشعروالخطابات الهلامية والامنيات اكثر منه الى التحليل السياسي المقترن بالوقائع والمعطيات وحقائق وبواطن الامور لا ظاهرها او سحنتها الخارجية .
فمعظم التاويلات والتحليلات السياسية تنطلق من مسلمات ومنطلقات نظرية لها مرتكزاتها ومحدداتها التاريخية والفكرية والسياسية والفلسفية ضمن مفهوم الظالم والمظلوم او المضطهد (بكسر الهاء) و المضطهد (بفتح الهاء) مما يجعل من اصحاب تلك الدراسات والتحليلات اسرى تلك المسلمات وبالتالي تكون نتيجة مقاربة اية جزئيات تحصل في هذا الجزء او ذاك معروفة ومحسومة مسبقا فاذا كانت ايجابيات تنسب الى (الكردي) واذا كانت سلبيات تنسب الى الاخر الذي يعني (اللا كردي) بطبيعة الحال وبهذا نتقمص وننتهج سلوك الانظمة عندما تنتج هي الاخرى نخبا واقلاما تدافع عنها ظالما او مظلوما وتنطلق هي الاخرى من مسلمات ومحددات ضمن مصالحها القومية والوطنية او ما تعتبره كذلك . فالجزء هنا يتبع الكل حتى ضمن النطاق الفكري والسياسي او ما يسمى بالحيز الذهني والزماني وليس فقط بالحيز المكاني او الجغرافي . (والكل) يعني عند النخب السياسية الكردية المؤلفة من الاحزاب والمستقلين والمثقفين الشعب الكردي المضطهد والدول المضطهدة له اما (الجزء) فيشمل كل ما يصدر عن الاكراد وحركاتهم السياسية او عن الدول المضطهدة للاكراد بالجزئيات والتفاصيل المتشعبة والدقيقة المملة .
وضمن حدود هذه الدوائر المغلقة والمفرغة تبنى المواقف وتعلن الاراء وتدوي التصريحات ووفق هذا المنظور المرضي العليل ينشأ خطاب سياسي واخر مضاد مقولب وممنهج لا يرى في الاخر سوى شيطانا وعدوا مها بادر الى اظهار حسن النية او الى تغيير ملموس في السلوك والممارسة وكأن نصيب هذه المنطقة من العالم ان تبقى اسيرة رايات التطرف والغلواء والمغالاة التي جرفت معها رايات الاعتدال والتوازن الى مزابلها .
وتصاغ المواقف استنادا الى الايديولوجيا الهزيلة المستقاة من عدة ايديولوجيات على شكل شذرات ومذرات كحالة من حالات الضياع والتخبط الفكري وعادة ما تكون مدعومة بالقومية او (القوموية) على شاكلة ادعاءات وشعارات براقة لاطالة امد الظاهرة زمانيا واتساع رقعتها مكانيا .
وفي اطار السياق العام لتلك المحددات والمنطلقات النظرية والفلسفية ولدت ردة الفعل الكردية على المواقف الاخيرة للدولة التركية بشأن دخول اراضي كردستان (العراق) لملاحقة عناصر العمال الكردستاني واتسم الاعم الاغلب من ردود الفعل بالتسرع والمزايدات واللاواقعية سواء على مستوى التصريحات اوالبيانات او  المقالات وبات المشهد وكانه ماراثون والفائز من يشتم اكثر ويزايد اكثر ويتفوه با للا معقول او بالعبثية للولوج الى المرتبة الاولى , وساهم الجل الاعظم من تلك الاصوات عن قصد او عن غير قصد في تسخين المواقف وتاجيجها والتهديد والوعيد لتركيا في دعوة صريحة الى منازلتها بدلا من الركون الى العقل والواقعية السياسية ومؤداها ضبط النفس والهدوء والامتثال الى اصوات الاعتدال والحكمة لتجنب الوقوع في نفق مظلم لا يتراءى نهاية له او للوصول الى نتائج لا تحمد عقباها , وبذلك تم مسايرة نبض الشارع الكردي والتاثير به والسير وراءه بدلا من ضبطه والتاثير عليه وقيادته. 
عادة ما يستمد الانسان افكاره ومواقفه اما من عقله او من عواطفه واحاسيسه او من خلال التوافقية بين الجانبين مع طغيان احد على الاخر او تبعية الواحد للاخر.
النمط الاول يركز على جوهر ومضامين الامور والمواقف ويفكر بالنتائج بشكل متأن ومتريث قبل صياغة اي موقف ويلهث باحثا مناشدا عن مقدمات سليمة ليحصد نتائج سليمة , اما النمط الثاني فينبهر بالمظاهر ويتأثر بها ويسير خلفها ويتغيب العقل ويهمش وتقوده العواطف والاحاسيس الجياشة التي تولد ردات فعل غير سوية الى مطبات يصعب الخروج منها .
التهديد والوعيد والشجب والتنديد بالتهديدات التركية كان العنوان الصارخ للمواقف الكردية المختلفة – المتقاربة ضمن التطرق الى القضية الكردية في تركيا الى درجة الانغماس في الاشارة اليها ونسيان الحالة الراهنة المتأزمة والموقف الحرج الحالي دون الايماء الى دور حزب العمال الكردستاني في المشاركة في خلق الازمة (المأزق) الذي بات يهدد تجربة كردستان (العراق) الفتية في الفيدرالية بمخاطر جمة والتي هي محفوفة بها اصلا .
الجميع يعلم ان تركيا لا يروق لها ان ترى فيدرالية كردستان (العراق) تكبر وتتعاظم وهي ليست مرتاحة من التودد الامريكي – الكردي (العراقي) وتعض اصابعها ندما لرفضها مرور القوات الامريكية عبر اراضيها الى العراق ذلك الرفض الذي كلفها الكثير واحجم دورها نهائيا في عراق الحاضر والمستقبل وكم تتمنى ان يعود الزمن قليلا الى الوراء لتصحيح الخطأ .
 وتبحث تركيا دائما عن الذرائع والحجج للتدخل في الشأن الكردي  (العراقي) كمسألة كركوك وعدم جرأتها على التدخل السافر بأشكاله المتعددة ومن ضمنه التدخل العسكري يعود الى وجود الولايات المتحدة الامريكية في العراق .
ومن المفيد هنا الاشارة الى بعض النقاط والملاحظات الهامة :   
1 - ان شن عمليات  عسكرية من  اراضي  كردستان) العراق ) ضد الجيش التركي والتي حصدت حوالي اربعين قتيلا في غضون عدة اشهر امر مناف للقانون الدولي الذي تتبجح به انقرة وكأن الفاعل يمنح تركيا ذريعة على طبق من الالماس للدخول والاجتياح والوصول الى العمق للتصادم مع قوات الاقليم التي قد تؤدي الى حرب شاملة بين الجانبين تكون من نتائجها على الاقل تدمير البنية التحتية لكردستان (العراق) كالمطارات والجسور والسدود ومولدات الكهرباء وحتى مباني البرلمان والحكومة والرئاسة وهروب رؤوس الاموال والمستثمرين منها مما قد يرجعها الى الوراء عقودا من الزمان . علما ان الجانب التركي اوضح مرارا ان الاجتياح في حال حدوثه سيكون مقتصرا على مناطق تواجد عناصر العمال الكردستاني في المثلث الحدودي الصعب بين العراق وتركيا وايران دون المساس بالمناطق المأهولة بالسكان او التي تقع تحت السيطرة المباشرة لقوات الاقليم .
2 – حزب العمال الكردستاني تنازل عن مطلب استقلال كردستان (تركيا) او دولة كردية مستقلة ونزل الى سقف الحقوق الثقافية للاكراد في تركيا وهنا اتساءل : هل المطالبة بالحقوق الثقافية يقتضي ويتطلب حمل السلاح وخوض الكفاح المسلح , عادة ما يرفع السلاح في وجه الدول عند المطالبة بالاستقلال او بالحكم الذاتي على اقل تقدير .
3 – يوجد في البرلمان التركي 22 عضوا كرديا من حزب المجتمع الديمقراطي القريب جدا من حزب العمال والذي يعتبره المراقبون الجناح السياسي له والسؤال هنا : لماذا الانخراط في العملية السياسية والولوج الى البرلمان اي الايمان بالعملية السلمية الديمقراطية في النضال وممارسة العنف والاعمال المسلحة في نفس الوقت ؟ اليست هذه ازدواجية في المعايير ام ان حزب العمال اصبح عمليا عدة تيارات واجنحة لا جامع بينها سوى الولاء لزعيمه السجين عبدالله اوجلان .
4 – التوقيت المريب وغير السليم للعمليات العسكرية الاخيرة من قبل عناصر الكردستاني ضد الجنود الاتراك ! ماذا جنى الحزب من تلك العمليات التي تأتي خلافا لتوقعات الكثير من المختصين بالشأن الكردي (التركي) الذين املوا خيرا في استلام حزب العدالة والتنمية ذو الاصول الاسلامية زمام السلطات التشريعية والتنفيذية ورئاسة الجمهورية في انقرة والذي بادر الى اظهار نوع من المرونة والتفهم للخصوصية الكردية وذلك منذ زيارة رئيس الوزراء التركي اردوغان دياربكر العام الماضي واقراره بوجود مشكلة كردية في جنوب شرقي الاناضول وبذلك كان ثاني مسؤول تركي رفيع المستوى بعد تورغوت اوزال يعترف بالاكراد وخصوصيتهم الثقافية واللغوية , وزيارة عبدالله غل للمناطق الكردية بعد انتخابه رئيسا للجمهورية .
كان حريا بحزب العمال ان يعطي القيادة الاسلامية المعتدلة الجديدة في تركيا المزيد من الوقت والفرص للتعبيرو التغيير وان لا يبادر الى حشرها في موقف حرج لا يحسد عليه وفي مواجهة مع غلاة القوميين الاتراك والعلمانيين وثكنات الجيش التركي الذي لا يرحم ويعتقد المراقبين في هذا الصدد ان الوضع الراهن المأزوم لا يخدم سوى حفنة قليلة من المتشددين (صقور) في حزب العمال وغلاة القوميين الاتراك وجنرالات الجيش التركي .
5 – لا يزال معظم الدول المؤثرة في القرار الدولي  يعتبر حزب العمال منظمة ارهابية والسؤال هنا : متى سيبادر الحزب الى اتخاذ خطوات عملية وواقعية ملموسة لتغيير هذه النظرة السائدة السلبية حوله وفي طليعتها التخلي الصريح والعلني عن الماركسية اللينينية والكفاح المسلح وافساح المجال امام (حمائم) هذا الحزب وجناحه السياسي للانخراط اللامحدود في العملية السياسية السلمية الديمقراطية على علاتها في تركيا , لان الواقعية السياسية تقول ان طريق الكفاح المسلح والعنف مسدود ومحكم نظرا لعدم تكافؤ الطرفين من حيث موازين القوى وانخفاض مستوى شعبية الحزب لدى اكراد تركيا الذين صوتوا بالغالبية لحزب العدالة والتنمية في انتخابات البرلمان الاخيرة حيث تبين ان حوالي 50 عضوا من كتلة العدالة والتنمية ينحدرون من اصول كردية , ومحاصرة الحزب اقليميا بعد تجفيف منابع الدعم والامداد اثر خروجه من سورية واخيرا سمعة الحزب السيئة لدى الاوساط الرسمية في اوربا والولايات المتحدة وادراجه ضمن لائحة المنظمات الارهابية في العالم هذا الامر الذي لا يبدو ذي اهمية تذكر عند حزب العمال وكأنه يستطيع وحده حسم الامور وحل القضية الكردية في تركيا كما في بقية الاجزاء وفق نظرة سوريالية راديكالية متشربة بثورية غيفارية منقرضة .
6 – لماذا ينطلق عناصر العمال الكردستاني في شن هجماته على الجنود الاتراك من اراضي كردستان العراق ويسبب للاقليم الاحراج والمخاطر والمجازفة وربما التصادم مع دول شرسة مثل تركيا وايران وهم يعلمون ان كردستان العراق في مرحلة البناء والنهوض وليس من صالحها ولا من الحكمة ان تستعدي دولا قوية جارة حتى ولو كانت تحت الحماية الامريكية ويعرف الحزب جيدا ان دول الجوار التي تشترك في (العقدة) الكردية تتربص بفيدرالية اكراد العراق وتشتهي الانقضاض عليها في اية لحظة لولا ان الوجود الامريكي في العراق يصدها . واذا اصر حزب العمال على حمل السلاح في وجه الدولة التركية كوسيلة لتحقيق اهدافه فالافضل مغادرة جبال كردستان العراق لعدم تعريض اخوتهم واشقائهم للمهالك ولئلا يعود اقتتال الاخوة مرة اخرى تحت وطأة الضغوطات والخيارات الصعبة .
يستحسن بنا نحن الاكراد ان نعمد الى تغيير حقيقي جذري دون مواربة في الخطاب السياسي الراهن فما نزال في طور الادعاء بذلك والبون شاسع بين معرفة الشيء والادعاء بذلك من ناحية وبين الاحساس به وتطبيقه من ناحية اخرى والذي ينعكس اوتوماتيكيا على الفكر والممارسة , والافضل ان نسقط خيار الحروب والمواجهة مع الاخرين من حساباتنا وفي لغة خطابنا ولننسى قليلا مقولة " لا اصدقاء سوى الجبال " .







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=2973