مفهوم المشاركة السياسية في الدولة الحديثة
التاريخ: الأربعاء 31 تشرين الاول 2007
الموضوع: اخبار



  د.سربست نبي

النظريات العامة, التي تتحدث عن سبب اشتراك الناس في السياسة, تجعل الأحزاب السياسية بوصفها البؤر, التي تكمن فيها طاقة الوعي والفعل السياسيين, موضوعاً مركزياً لتحليلها. إن دراسة هذه الأحزاب, بنيتها الاجتماعية وطبيعتها الأيديولوجية, تتيح لنا إمكانية التنبؤ بالسلوك السياسي للمواطن إلى حدٍّ كبير, دوافعه ومقاصده. كما تتيح لنا إمكانية البحث عن البيئة السياسية - النموذجية للمشاركة السياسية.
هنالك نسق معرفي معتمد في الجامعات والمعاهد العالمية العليا, تحت  اسم علم الأحزاب السياسية المقارن, ينطلق الباحثون فيه من القناعة  بأن ازدياد حجم المشاركة السياسية وتطوير أساليبها من خلال الأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية والأطر المدنية, هو المدخل الصحيح اليوم إلى مواطنة صحيحة وإلى حياة وطنية أرقى وأشدّ تماسكاً.


 وخلاف ذلك يعني الحكم بالبؤس السياسي على المجتمع وتهميشه, وتردّي الشعور بالانتماء والمسؤولية لدى المواطن.
إن العديد من الأنظمة والشعوب صارت تأخذ اليوم مُثل التعددية والديموقراطية السياسية على محمل الجدّ, وباتت تراهن على حياة سياسية- إنسانية أرقى بكثير مما لو احتكر فرد أو حزب أو عرق أو طبقة الحياة في نفسه. وهذه النظرة أو الأسلوب غدا علامة صحيحة على تقدم المجتمعات سياسياً وحيويتها.
الأطروحة الشهيرة التي هيمنت على النظم السياسية في العالم العربي ودول العالم الثالث, ومنظومة الدول الاشتراكية في القرن العشرين على اختلاف أنماطها, كانت تقول: إن المصلحة الوطنية الحقيقية وسلامة النظام سياسياً واجتماعياً,تكمن في التماه بين الدولة والمجتمع وحزب وحيد يمنح نفسه احتكار الشرعية السياسية  والقانونية, وينطق باسم المجتمع وشرعيته, بعد أن استعار صوته ولغته. وقد شخص عالم الاجتماع الفرنسي ريمونآرون خمسة عناصر رئيسة مشتركة بين هذه الأنظمة:
 1- احتكار النشاط السياسي ليقتصر على حزب واحد.
2-  تحرك ذلك الحزب بفعل أيديولوجية تغدو الحقيقة الرسمية للدولة.
3- تمنح الدولة نفسها احتكار وسائل القوة والإقناع.
4 - معظم النشاطات الاقتصادية والمهنية مندمجة بالدولة وخاضعة للحقيقة الرسمية.
 5- الخطيئة الاقتصادية أو المهنية تغدو خطيئة أيديولوجية ,وعليه فينبغي أن تعاقب بإرهاب أيديولوجي وبوليسي في آن معاً.
واقع الحال أن هذه النظم عمدت انطلاقا من هذه القناعة الأيديولوجية إلى تقويض الحياة السياسية الحزبية داخلياً. وقلًصت الحراك الاجتماعي المدني إلى أدنى حدّ له, وحالت دون نشوء فاعلين سياسيين, وقضت على كل أشكال المشاركة أو المساهمة السياسية..
إن أحد أبرز معايير ضعف هذه الدول ومجتمعاتها ,كما يشير علماء الاجتماع السياسي,يتمثل في هبوط المساهمة السياسية, أو ما يسمونه بأزمة المشاركة السياسية. وهو يعدّ في الوقت ذاته سبباً في إحساس العديد من الأفراد في تلك المجتمعات أنهم هامشيون ومنبوذون في دول ومجتمعات لا يشعرون بأنهم يساهمون فيها. كل ذلك يدفعهم إلى الشعور المضاد للانتماء أي العزلة والاغتراب الاجتماعي ومن ثم إلى التطرف السياسي وإلى الفوضى والعنف.وهنا تكمن إحدى البؤر المولّدة للعنف والتطرف الأصولي, كما نلاحظ , في عالمنا.
من الواضح أن بوسع الدولة أن تكون دولة سلطة سياسية حاكمة, دون أن تكون دولة مواطنين إذا لم تعترف بأن مهمة النظام السياسي, هي الاهتمام بمصالح المحكومين ورعايتها وبتنمية الدور السياسي للمواطن, وضمان مساهمته الحرة بوصفه فاعلاً سياسياً. إذ ينبغي أن يشعر المواطنين أنهم يساهمون في بناء الحياة والمجتمع السياسيين, فإذا لم يتعمق لديهم هذا الشعور بالانتماء إلى المجتمع السياسي, وإنما إلى أسرة فقط, أو قرية, أو طائفة, أو عرق, أودين, فإن هذا الوعي بالانتماء الأخير يترسخ على حساب شعورهم بالمواطنة العمومية والمشتركة.
تقاس المساهمة السياسية للمواطن بمعايير واضحة تتعلق بقدرته السياسية على التعبير عن آرائه بحرية وبترجمة قناعاته السياسية وتجسيدها خلال العمل الفردي أو الجماعي المنظم, وبدرجة تأثيره على آليات عمل النظام السياسي وقراراته, و تحكمه بسلوك ممثليه. فبمقدار ما يمتلك المواطن الوعي السياسي والأدوات والوسائل التي تتيح له ترجمة هذا الوعي في سلوك حرّ بعيد عن الإكراه, تكون البيئة السياسية هي الأمثل. وقد وجد الفلاسفة السياسيون أمثال لوك Locke ومل Mill وتوكفيل Tocqueville وغيرهم أن هذه المعايير هي أساسية لنظام ديموقراطي ناجح قائم على التعددية وحرية التعبير وحقوق الأقليات.
المشاركة السياسية الحرة والطوعية للمواطنين, هي شرط أساس لأي نظام سياسي حديث كفَ عن أن يكون مستبداً وبالياً. وقد أظهرت التجربة التاريخية للعديد من المجتمعات أن حيوية الأخيرة وتماسكها واستقرارها رهن بدرجة الإسهام السياسي والمبادرة لدى المواطنين. بينما يفسّر هشاشة النظام السياسي وعدم استقراره وضعف المجتمع المدني بعزوف الأفراد أو منعهم عن المشاركة السياسية, وتحاشيهم المساهمة وليس العكس. لقد مثل النظام العراقي البائد نموذجاً حيّاً لهذا الموقف. إذ اعتقد أن من شأن القمع وسلطة الخوف وحدهما أن توحدا المجتمع, فحوله إلى عبد لقوته المتعسفة. وقد أفضى ذلك إلى تدمير روح الاجتماع الإنساني بالذات, فتحول المجتمع في أحسن أحواله إلى جمهرة قلقة وعدمية, محتقنة ومفككة, تسودها الكراهية وعدم الثقة. فقد تعلم المواطن في زمن الاستبداد والقهر أن يكون سلبياً إلى أقصى درجة, وخلق الرعب لديه نوعاً من العدمية السياسية واللامبالاة, التي كرست الاغتراب الداخلي وعمقت من تصدع الوحدة السياسية والاجتماعية المطلوبتان إزاء أيّ تحدّ خارجي. ومن هنا أخفقت جيوش صدام الجرارة في الإنابة عن المجتمع دفاعاً عن نظامه وعن سيادة البلاد. إن الدرس الرئيس, الذي يمكن استخلاصه من التجربة العراقية هو, أن أقدام الطغاة والمستبدين, هي التي تمهد الطريق أمام الغزاة, حينما تجعل من أعناق مواطنيهم موطأ لها وتروضهم على الخنوع والذل.
لا يستطيع النظام السياسي الدفاع عن المجتمع وحمايته من دون مواطنين أحرار يستشعرون حريتهم, مهما ادعى ذلك. فالنظام الذي يؤثر القمع يولّد الخوف في الأذهان ويخلق مقداراً كبيراً من عدم الثقة, ويؤدي كل ذلك, في نهاية المطاف, إلى القطيعة بينه وبين الأساس الاجتماعي لشرعيته وبقائه.
إن النظام السياسي الذي لا يثق بالوعي السياسي الوطني لمواطنيه, ليس له أن يفرض وعياً وطنياً مشتركاً بالقوة من دون أن يغامر بإثارة العداء والكراهية نحوه. إن عملية التعبئة الأيديولوجية التي تبدو مفروضة هنا, لاتخلق شعوراً وطنياً مشتركاً وفاعلاً, ومن ثم عوضاً من أن تحقق تواصلاً سياسياً محتملاً بين النظام السياسي والمجتمع المدني, فإنها تحدث صدعاً بين الطرفين. إنها في أحسن الأحوال تجعل المجتمع يتحرك ويتكلم بشعارات لا تخترق وعي أفراده وضمائرهم.
إن من شأن الكوابيس الأيديولوجية, التي تنجم عن تماهي المجتمع والدولة مع أيديولوجية حزب حاكم, أن تضعف الشعور بالمواطنة لدى الأفراد وتخنق لديهم كل ابتكار أو تنوع خصب في الرؤى, وتقيّد روح المبادرة. فالمجتمع الديموقراطي الحديث في أبرز تعريف له, هو المجتمع الذي يشرك أكبر تنوع ثقافي ممكن وتنوع في الآراء مع أوسع استخدام ممكن للعقل, مع ضمان أكبر قدر ممكن من الاحترام للتطلعات الفردية والجماعية, ودون اللجوء إلى أي شكل من أشكال العنف أو القهر أو الإقصاء..
من جانب آخر, فإن الاعتقاد بأن المصلحة الوطنية تقتضي هذا التماهي بين المصادر الثلاث, إنما يقوض كل أساس سياسي أو قانوني لمعارضة تعسف السلطة, ويطيح بكل إمكانية لتصحيح مثالبها وتعويضها, وبالتالي يعدّ العدة لشرْعنة أخطائها, بجعلها القاعدة الناظمة للحياة السياسية. فيصير لزاماً على الدولة إذا شاءت أن تكون وطنية وديموقراطية حقاً أن تعترف لمواطنيها بحقهم في   المعارضة ضم إطار القانون, بالأسلوب الفردي أو الجماعي. فلا تقوم الدولة فقط بتحديد سلطتها على هذا النحو, وإنما تفعل ذلك من موقع وعيها بأن شرعية نظامها السياسي واستمرار يته مرهونتان بدرجة تفاعلها وتواصلها مع المجتمع المدني, وبقوة الأخير ومقدار تأثيره. فإذا لم تفعل ذلك, فإن ادعائها بأن شرعيتها مستمدة من تمثيل مواطنيها يعد نفاقاً بلا طائل..
إن اجتماع المساهمة السياسة للمواطنين مع تحديد السلطة وتقييدها بوساطة الحقوق الأساسية, يعدّ الأساس الراسخ لأي مجتمع سياسي حديث, الذي بدونه لا تكون الدولة دولة مواطنين أحرار. لكن يتعين أن يتوج كل ذلك غياب مبدأ مركزة السلطة ونفي كل صفة جوهرية عنها, بوصفها حزب واحد, تنطق باسم الشرعية الأخلاقية والسياسية للمجتمع. الأمر الذي يمكن ترجمته بشكل ملموس في التداول السلمي للسلطة عبر انتخابات حرّة ونزيهة تعتمد رغبة الأغلبية قانوناً لها.
تحقق الأحزاب في هذا السياق تواصلاً بين المواطن والعملية السياسية وممارساتها. وهي تمثل هنا إطاراً مرجعياً لقيم سياسية وأهداف, عامة ومشتركة, ينبغي لها أن تستجيب لمصالح المجتمع الأكثر حيوية. هكذا تلعب هذه المؤسسات دوراً كبيراً في توجيه السلوك السياسي للمواطنين, فإذا كان غيابها الطبيعي مؤشراً على الجمود وبؤس الحراك السياسي, فإن حظرها ومنعها بقرار تعسفي من شأنه أن يخلق فراغاً سياسياً وأيديولوجياً يتعذر على الخطاب الأيديولوجي للنظام السياسي أن يشغله بمفرده. وعلينا ألا نقلل من مخاطر مثل هذا الموقف, إذ يخبرنا التاريخ القريب أن النظم السياسية,التي صادرت أسس المشاركة السياسية الحرّة والديموقراطية ووسائلها, وقاومت كل مساهمة, فردية أو جماعية, للمواطنين, مهدت بذلك الطريق لاكتساح أيديولوجيات في غاية التطرف سواء دينية كانت أو طائفية أو عرقية, ومن ثم عززت النزوع الارتدادي إلى انتماءات عصبوية متخلفة عمقت من تفكك المجتمع المدني وأسست بالتالي للتناحر الداخلي بين مكوناته, بعد أن أتلفت كل فضاء تواصلي بينها.
الخلاصة, إن الانتقال من المساهمة السياسية الفردية إلى الشكل الحزبي الجماعي لها, هو الأسلوب العقلاني الحديث للممارسة السياسية, الذي يلازم تحرر الفرد من أشكال الانتماء المجتمعي السابقة وتراتبيتها, التي كانت تقيّد الفرد وتلزمه بمكانة اجتماعية ووظيفة تحول دون اكتسابه صفة العمومية, بوصفه مواطناً في مجتمع سياسي حديث.
إن ظهور المجتمع السياسي الحديث يعدّ مؤشراً نهائياً على تحرر الفرد – الإنسان من النظم الاجتماعية السابقة, وعلى ارتقائه وتحوله إلى كائن سياسي عمومي مساهم, لا يكتفي بتموضعه في أطر جزئية محددة, وإنما يلتقي مع غيره في أشكال أسمى من الانتماء. إن الحزب السياسي, بوصفه هيئة منظمة وحديثة, يتخطى في بنيته الانتماءات الفردية السابقة ويتجاوزها في أهدافه ومقاصده العملية, إلى مستوى النشاط الجماعي الواعي القصدي للكل, الذي لا ينفي داخله كل اختلاف أو تعدد في الرؤى والانتماء.
----







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=2886