وجوه قامشلي التي لم تكنْها «في زيارتي السنوية إليها صيف 2019 » - 15
التاريخ: الأربعاء 04 ايلول 2019
الموضوع: اخبار



 ابراهيم محمود 
 
15- أمكنة مؤاساة وقتية
لا تنفصل الأمكنة عنا، بالعكس، نحن أمكنويون " إن جاز التعبير، فكل ما يعهَد إليه للتحدث فيه، كل تعبير يعنينا سلباً أو إيجاباً، يحمل في " جرابه " أمكنة فولكورية: أمكنة عادية، استثنائية طبعاً، معهودة أو مرغوبة، مقروءة بصيغ شتى. أحاديثنا، ظلال أفكارنا، حتى هواجسنا، آمالنا، آلامنا، مخاوفنا، سردية أجسادنا من المهد إلى اللحد، حضورنا وغيابنا...الخ، متواليات أمكنوية على أكثر من صعيد. والفنون، الآداب، الأفكار، والخيالات تخرج منها وترتد إليها. يا لبدعتها !


لقامشلي/ لقامشلو أيام زمان ومكان، أمكنتها، كما هي المدن الأخرى في مكوّنات ملوَّنة.
أن أسميها، ففي بعض منها،وأن أسمّي بعضاً، فلأن البعض كبير وكثير علي، حتى لو استرسلت في الكلام إلى لحظة انتهاء كل كلام. إن أصغر مكان، معجم مفارقات . أكتفي بالمتمكن منه هنا، حيث يسهل النظر فيها، وكيفية تداخل الأمكنة في المكان الواحد، كيفية تغير المكان الواحد، من حالة إلى أخرى، ليكون لدينا المكان الطليق، والمكان المقيَّد، والمكان، المقصقص، والمكان الممسوخ، والمكان المشبوه، والمكان المقاوِم، والمكان الضطرب، والمكان الأنيس، والمكان المرهوب الجانب، والمكان الملهِم، والمكان المثير للسخرية... تبعاً للمعنيين بها :
شارع عامودا، ذخائر أمكنة، وما أكثرها من مفارقات، في المساحة " الطريقية/ الشارعية " الواصلة بين جامع قاسمو ودوار قرطميني. شارع / طريق عامودا هنا، يستوقف المعني بالكم الهائل من أمكنته. يستوقفني. ثمة مكابدات، ولادات مجهضة، كرد ودون كرد، أحلام تتجاوز حدود قامشلي، ودون محل موطىء قدم جهة المحقَّق .
أسمّي محل خياطة " بافي هفال الشاعر " الذي انتقل إلى العالم الآخر. يا لمأساته.ماذا حل بمكانه، بمحل خياطته، وهو المأخوذ بكردية شديدة الحمية .
أسمّي بقالية آمد، ولمة الأصدقاء الذين كانوا يلتقون فيها. صارت أثراً بعد عين. ولمحمد رفيق بافي شيار ذاكرة منجرحة وهو الآن خارج حدود قامشلي. ماالذي ينزفه على وقع مكانه هذا؟
مثله، بجواره، بافي أحمد، الأستاذ خليل، الذي يتنقل بين درس ودرس، ليسند عمره المتبقي .
أسمّي الشارع الفرعي الذي يؤدي شمالاً إلى بيت الصديق الشاعر الكاتب ابراهيم يوسف، أكثر من بيت، أكثر من مكان في زحمة المسافة المكتظة بالخيالات ذات الصلة بالمكان، وجوه من تنفسوا في بيته، صلات قربى ذات صلة بالأحلام المشروعة، والتنكبات، وتواريخ ساخنة تتعدى حدود الشارع، وقامشلي وسوريا. أي حِداد يعيشه بيته المأخوذ بذهول الجاري مكانياً ؟
أسمّي الشارع الفرعي الذي يمضي جنوباً، حيث يكون بيت بافي رشيد: الكاتب محمد سيد حسين، حين كان بيته ملتقى لأكثر من وجه، أكثر من رغبة مشروعة: أن نصبح كسوانا في عهدة تاريخ يعنينا كردياً، حين كان مصحصحاً، وها هو الآن يترنح تحت وطأة أوجاع وآلام المكان.
أسمّي بيت الصديق الكاتب الدكتور ولاة محمد، بيت يتنفس وحدة مأساوية، وهو البعيد عنه صحبة عائلته. بيت كان له إسهامه في منحنا لأوقات متفرقة بعضاً مما يثرينا في لقاءات وقتية .
أسمّي " دوَّار قرطميني " أي خيالات تناثرت في الدائرة نصف الترابية، المتآكلة، حيث الذاكرة منقسمة على نفسها أشد انقسام كردياً. حيث شهد الدوار هذا تدفقات كردية، وطموحات كردية، وانخسافات كردية، ومن رُفعِوا على الأكتاف ، في الأمس القريب، ليرفعوا من شأنهم، حيث واتتهم فرصتهم، ومن أرادوا الارتقاء بظلالهم، بدمائهم، ودفعوا الثمن المقدَّر: لأذكّر ببافي فارس، مشعل تمو، متعدد الأمكنة، والمتكىء طويلاً على عمر مختلَف عليه. شهيداً مكانياً.
أسمّي الشارع الفرعي: منير حبيب، حيث لا حبيب ولا منير، إنما إحباطات وانكسارات.
أسمّي الشارع الفرعي القصير، شمالاً لبعض مسافة، حيث يكون بيت الصديق الراحل الكاتب المسرحي جمال جمعة، حيث يكون في الجوار بيت الصديق المتنكب صحة: جمعة جمعة، والذي يقاوم المتبقي من عمره، بجسده المثقَل بالآلام. أبعد منه، البيت/ المكان الذي أعيق بناؤه كثيراً، بين الصديق أمير عبدالكريم، والذي يجالس ذكرياته المكانية، رثّاء المكان المنقسم.
أسمّي " محل " الصديق الفنان أسعد فرسو الذي ينتظر من ينتشله من هامش طال أمده، ويمنحه جرعة من الأمل، ليُطمئن روحه، عن أن الكرد أوفياء لفنانيهم وكتابهم، وهو يقيم صداقات مع آلآته الموسيقية، ونفسه المنكسرة والتي تراهن على عمر تال، لا يعد بالمأمول.
أسمّي بيت الصديق الفنان فرزند درويش، وهو " يزرع " ألواناً، ويحصد آمالاً مستقبلية، وينشغل بالزراعة، وغرابة الصلات القائمة، ومفارقة الإقامة في اللحظتين، أي بيت مكان، يضمه، وهو في انشغالاته، وعذاباته التي يعهدها إلى لوحته، لتكون المكان المؤرّخ له ؟
أسمّي في الجهة الشمالية، الصديق عدنان عجيل وهو في طابقه الرابع، آخذاً بمكان، مؤثّر فيه، كي يتمكن من الاستمرار، وقد خلّف سويسرا وعائلته وراءه، مفضّلاً مكاناً من نوع آخر، راضياً مرتضياً بالمستجد، وما يمكنه نَوله، مع أصدقائه، ومعارفه، ليبرهن أن الحياة رهانات.
أسمّي كورنيش، ومتداعيات أمكنة هذا الحي، حيث شارع " الكاريز " وبيت الأهل الذي يعد للأهل، وأخي برهان الموجوع من داخله في وحدة معذّبة، وبيتي المستحم في صمت وحدته المزمنة، وأمكنة متلاصقة في عهدة هذا الشارع، وقد استحالت أبنية طوابقية، ووجوه من رحلوا كلياً، ومن استنزفهم المكان الواحد، وهو أمكنة. أي وحشة نابتة في جنباته ؟
أسمّي السوق " العرصة " والوجوه الطارئة، ووجوه من كانوا وتواروا عن الأنظار.
أسمّي مكتبة أنيس مديواية " أبو نضال " حيث سأتحدث عنه لاحقاً، مكتبة أكثر من عنوان، وشخص أكثر من وجه ثقافي واجتماعي في البلد، وفي الجوار مكتبة ملكي وكرم السلام، وأكثر عقود من الزمن، حيث متواليات الزمن، وتلونات المكان جامعة إيانا . 
أسمّي عيادات تبكي أسماءها: الدكتور فارس كره بيت الذي كانت حياته فاجعة في مختتمها ألمانياً، وقد خلّف عيادته القامشلاوية وراءه، حباً بالمختلف. أسمي عيادة الدكتور الراحل حديثاً يعقوب جلّو. يا لمأساته في طريقة موته، وتقضقض ِأحلامه . أسمّي عيادة الدكتور ماروكي ملكي، حيث ينثر سنّي عمره بينها وأهله في السويد، وبيته الجميل، والحزين في آن، وهو وحيده.
أسمي عيادة الدكتور مصطفى عبدالكريم، وحلاوة اللقاء معه، ومتعة اللحظة بحضوره.
أسمّي عيادة الدكتور أنطوان أبرط، والواجهة الكثيبة كما لو أنها تبكيه وقد حل بعيداً في السويد، وفي مقابل العيادة صيدلية الكلمة لـ" أبو جيرو " وقد أصبحت محل باليه، فيا للمفارقة . أسمّي عيادة الدكتور محمد شفيق علواني، ووطأة عذابات روحه، وهو المأخوذ بعنف الغربة وآلامها.
أسمي مشفى السلام، والوجه الوسيم للدكتور فرات مقدسي وسخاء يده وقلبه، لكم أسهم مشفاه وروحه في منحنا عائلياًما يشدنا إلى أمكنة تتقاسم قامشلي.
أسمّي صيدلية الصديق صلاح رمو، وهو المتنقل بينها وبيته، وأهله في مكان أبعد: ألمانيا، وهو يقاوم المكان المتشظي، مأخوذاً بأمل لا يطمأن إليه طبعاً .
أسمّي الصديق سيف الدين داود، الفنان والكاتب، وبيته الجميل والمستند إلى وحدة مؤلمة بدوره. لكم تجاذبنا أطراف المعاناة، إرهاصات اللحظة في هذا الصيف، حيث كان الصديق زيور حاجو الذي  لا يُشك في حنينه المأسويوالمتواصل إلى مكان يرثى له كثيراً.
أسمّي مطعم " كلاس كافيه: كان زمان حديثاً " والاسم مفارقة، لها دلالتها. لكم التقينا في هذا المكان، وقد أبصرتُ وجوهاً غير معهودة حتى الأمس القريب. هنا، أوجه شكري للأستاذ ذي الكرم محمد شريف، وقد أضفي على المكان: مطعمه بعداً جميلاً، في أكثر من سهرة، رغم دخان الأركيلة من شباب وشابات في يفاعة عمرهم، ورغم أنه هو نفسه لم يسلم من عذابات الأمكنة، وتشتتها، وتنوعها، ومخاوفها، لكنه، كغيره، يواصل مسيرة عمره حباً ببقاء ما، ربما يغيّر في المكان نفسه .
أسمّي شارع العنترية، ويا للاسم المفارقة، هو الآخر. من أين جاءنا عنتر، ليعنتر الشارع، كما هو اسم قناة السويس، كما هو اسم الهلالية: أسماء أمكنة مستعارة إيديولوجياً بقوة .
يا للأمكنة المتدفقة في هذا الشارع. يا للذكريات التي تصل ما بين طفولة وشبوبية وعمر متبقّ في عهدة مجهول مؤلم. أي تدفقات بشر من لغات، بشر كرد في مسيراتهم، حشوداتهم، مظاهراتهم، جنائزياتهم، شعاراتهم...الخ. حيث تقع مقبرة قدور بك شمالاً، وما فيها من أسماء مقدَّرة، أسماء مضت على عجل، أسماء أضحيات، أسماء تجددها ذاكرة محلية وغيرها، المقبرة الآهلة بألسنة ووجوه شتى. ثمة أهل لي، ثمة أمي التي تألمت طويلاً، ورحلت بألم .
أمكنة لا يمكن تجاهلها لوجوه تفرض علي ظلال ذكرتها المشتركة، زملاءدراسة وأصدقاء تالين لاحقاً: نعمان، فؤاد، حسن، يوسف..أسمي أهلاً لي في هذا الشارع وانكساراتهم.
إنما ما يشد على الذاكرة لتسمّي مكان مركَّباً في الشارع هذا: حيث كان الراحل مجيد حاجو آغا، كان صديقاً، وقد ضم بيته وجوهاً في سهرات وأحاديث دافئة. ووجه كاميران الصديق، ابنه، والصديق الذي لطالما تنقلنا معاً بين أمكنة وأمكنة، ولمكانه: بيته الفضل اللافت. بيته الآن الذي ينكفىء على وحدة معلومة، وهو يسرد في صمت، لمن له شأن به، فجائع المكان والجوار.
أسمي شارع " الحزام " حيث ينادي بيت الصديق الدكتور فرزند حمزة علي. المأخوذ هو الآخر بألم الجاري، والمنتظر للحظة تخرج المكان من توتره. أسمّيه في بيته الصغير مساحة، الواسع معنى، حيث تصله بأمكنة تترى، ليحسن البقاء بسوية نفسية أكثر.
أسمّي في الطرف الآخر بيت الصديق محمود خفيف الدم،الفنان بالفطرة طبعاً، المدهش في صوته، وهو ببيته الجميل، إنما المعزّز بحضور خفة دمه، وكرم زوجته.
في الجوار بيت الصديق شكري حمزة، والعمر المشترك بيننا، عقود من الزمن جمعتنا، وتبقينا حتى الآن، كي نمتلىء بأمكنة أخرى أكثر إشعاراً لنا بحياة مستحقة .
ثمة أمكنة لم آت على ذكرها، لأهلي، أقربائي، حيث كانت، ومازالت بيوتهم ملاذات آمنة لي وللعائلة، موزعة في جهات قامشلي كاملة، بيوت هي أمكنة بطعم آخر طبعاً .
قامشلي، بما استجد من التذكر في لائحة أمكنة، في عبارات موجزة، تبقى المكان الأرحب، المكان الذي يشغل القلب والروح، الوعي واللاوعي، وتبقى أمكنته وقد ألمحت إلى بعض منها، قد سمّيت وجوها فيها، هي بدورها تعيش نزيف ما كان، وتتخوف مما يأتي، فلا يكون هناك وجه مما كان يُستقَر إليه، ويعرَف به، كما لو أنها أمكنة رحالة، ولها أعمارها..و: انطفاءاتها !
......... يتبع
16- بورتريهات وجوه 1-وجه بافي رشيد







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=25206