لغة السّطوة لدى العَسَس في سوريا
التاريخ: الخميس 28 شباط 2019
الموضوع: اخبار



ماجد ع  محمد

إذا قلنا بأنّ النقيض كثيراً ما لا يُعرف إلاَّ من خلال معرفة نقيضه، فإن هذه الجدلية لا تنطبق على بعض الأشياء والعلوم فحسب، إنما تنسحب كذلك على القيم الاجتماعية وعلى وجه التحديد تنطبق على أخلاقيات فئة كبيرة من المجتمع السوري؛  كما أنه بالرغم من أهمية المعادلة تلك من باب يُسر المعاينة وسهولة القياس، إلا أنها تغدو إشكالية ههنا في الموضوع الذي نطرحه في هذه المادة القصيرة، باعتبار أن النقائض الشكلية التي سنقاربها ليست متضادة في حقيقة مكنونها، بل متشابهة جداً من ناحية ما يرشح عنها من سلوكيات، وحيث أن الوقائع تشير إلى أن أخلاقيات التسلط والسطوة والعنجهية والفساد لم تختلف البتة بين هذه الأطراف التي تبدو للناظر بأنها جد مخالفة، ذلك سواء في المناطق السورية التي خرجت عن سيطرة النظام، أم في تلك التي ما تزال تحت سيطرته،


 لأن المواطن السوري يرى بأن كل القتل والدمار والخراب التهجير والنزوح الذي حصل ويحصل منذ ثماني سنوات لم يغير شيء من طباع المتحكمين برقاب الناس في عموم البلد المنقسم إلى مقاطعات وأقاليم، بل وكما كانت العَسَس وأوباش المجتمع يتحكمون برقاب البرية طوال حكم البعث، فها هي نفس الفئة البشرية تتحكم برقاب البرية بنفس الآلية والاسلوب التعسفي القميء في الشمال السوري برمته.
وبعيداً عن التنظير ففي هذا الخصوص سأورد حالتين توضحان المناخ المشترك في سورية فيما يتعلق بالتعاطي والتعامل مع المواطن الأعزل قبل الثورة وبعدها، والمثالين الحييّن اللذيّن سأوردهما وقعا في منطقتنا أي في منطقة عفرين، والمثالان يشيران معاً إلى أن لا فرق البتة بالنسبة للمواطن السوري المقيم في الداخل بين زمن خضوعه لسلطة مخابرات النظام وزمن خضوعه لسلطة مخابرات دول الجوار، حيثُ أن المثال الأوّل جرى قبل الثورة السورية، أي إبان السيطرة الأمنية الكاملة على كل سورية، والثاني جرى في ظل سيطرة المخابرات التركية التي تتحكم بمصائر مناطق الشمال السوري عبر أدواتها من السوريين، الأوّل حدثت وقائعه في قرية جقلي جوم والثاني في بلدة شيخ الحديد.
إذ يذكر السيد (أ ـ ع) أنه قبيل الثورة بفترة وجيزة كان في زيارة لأقربائه في قرية جقلي جوم التابعة لناحية جنديريس، ولم يكن الرجل قد وصل إلى بيت أقربائه في تلك القرية إلا وكانت سيارة أمن الدولة قد اعترضت سبيله على مشارف القرية، على مقربة خطواتٍ قليلة من مدرستها الابتدائية، فاستجوب عناصر الدورية الرجل، وأمطروه بالأسئلة الاعتيادية: من أين أنت؟ إلى بيت مَن ذاهب؟ من أي حزب أنت؟ ماذا تريد من الزيارة؟ من هم أقرباؤك؟ ومن ثم انتقلوا من صياغة الأسئلة إلى حقل الاتهام، فمرة يتهمونه بأنه يساري ومرة يميني، مرةً بارتي ومرةً شيوعي، وأخرى بأنه من حزب العمال الكردستاني، وكانت تتلى الأسئلة والاتهامات مع نبرة الاستعلاء والفوقية والتوبيخ ومن ثم الانتقال إلى الشتم مع التلويح بالضرب، وما إلى ذلك من الممارسات التعسفية المعروفة لدى أجهزة أمن النظم الاستبدادية، ورغم كل شيء ظل صاحبنا المواطن الزائر يجيب على أسئلتهم وهو ككل مواطني سوريا غير قادر على الرد أو الاعتراض أو حتى إبداء الإنزعاج من كل البذاءات التي يتفوهون بها، ولكن المفارقة المفيدة في أمر الواقعة أنه أثناء الاستجواب المقرف للرجل صودف أن كان أحد أساتذة القرية جالساً أمام المدرسة بالضبط وهو يراقب الوضع، يسمع ما يتفوهون به، ويستمع إلى أجوبة الرجل العابر، ويلاحظ الاسلوب الحقير في التعامل مع الشخص المستجوَب في الشارع العام من قِبل عناصر الدورية الأمنية، ويظهر أن الرجل لم يتمالك نفسه أمام هذا الاعتداء السافر عياناً جهاراً وبغير وجه حق، وحيث أن المشهد القميء برمته دفعه الى التدرج نزولاً صوب عربة الأمن وهو محمول بأرطال الغضب على ما يرى ويسمع، ومن فوره عند الوصول بدأ بشتم دورية الأمن وتهديدهم حتى بوظائفهم، وطبعاً استاذ المدرسة يتكلم بلهجة أهل الساحل السوري، عندها لم يكن من عناصر الأمن إلا تقديم الاعتذار على ما بدر منهم، بل وارتجاء استاذ المدرسة وطلب العفو منه على ما كانوا يقترفونه منذ لحظات بحق رجل بريء لا حول له ولا قوة، وكلما رفع معلّم المدرسة الابتدائية من لغته التهديدية  لهم ازدادوا توسلاً إليه لكي يعفو عنهم، وراح المعلِّم يهينهم واحداً تلو الآخر وهم لابدين صاغرين، ويتحملون كل الإهانات منه ليس لأنه مسؤول، ولا لأنه من عائلة معروفة، ولا لأنه في موقع كبير، ولا لأنه قريب من الأسرة الحاكمة، إنما فقط لأنه كان يتكلم معهم بلهجة أهل الجبل (جبل العلويين)، وحيث كانت  تلك اللهجة هي لغة السطوة التي يلجأ إلى استخدامها أي حلبي (حلب) أو شامي(الشام) أو ديري (دير الزور) أو حموي(حماة) أو شاوي يريد أن يبرز نفسه كصاحب شأن وسلطة، أو يثبت بأنه محسوب على الأجهزة الأمنية على مختلف فروعها، وحيث كانت لهجة أهل الجبل هي لغة أهل الحكم والسلطة والعسف آنذاك لدى كل المهووسين بممارسة الجور والتسلط والتحكم برقاب الناس في كل سورية!.
بينما الحادثة الثانية فقد وقعت في ناحية شيخ الحديد بعد الثورة وتحديداً عندما صارت المنطقة تحت رحمة أناس سلّطتهم تركيا على أهالي المنطقة بدعوى محاربة PYD ، وحيث كانت إحدى الفصائل بعد سلبها ونهبها ممتلكات المدنيين في الناحية ككل قد تمادت في السلب والنهب، فاستولت من بين ما سطت عليه بالإكراه سيارة اسعاف تابعة لمنظمة الدفاع المدني السوري المعروفة باسم الخوذ البيضاء، وموظفو المؤسسة لم يقدروا على إرجاع السيارة بالطرق الإنسانية والقانونية والحضارية من فصيل السلطان سليمان شاه المعروف باسم (العمشات) والتي يتزعمها في بلدة شيخ الحديد، بمنطقة عفرين، الحاج محمد الجاسم الملقب بأبو عمشة، المتّهم باغتصاب نساء عناصره، وفصيل أبو عمشة اشتهر بالسلب والنهب والسطو المسلح في كل الناحية طالما أن ما من قوة تردعه، باعتبار أنهم يستمدون سلطتهم المباشرة من المخابرات التركية التي أطلقت يد الفصائل في عموم منطقة عفرين ليعيثوا في المنطقة الفساد من دون أي رادع قانوني أو أخلاقي، وأمام هؤلاء الذين يستمدون سطوتهم من مخابرات دول الجوار لم يعد أمام الأخوة العاملين في المنظمة إلاّ الاستعانة بموظّف من مؤسسة آفاد (AFAD) التركية، وذهبوا برفقة الموظف التركي إلى البلدة، والمفاجأة أن المتزعم أبو عمشة الذي يمارس سطوته كحاكم مطلق في البلدة جاء راكضاً كالخفير الذي يحوم حول العمدة لمجرد سماعه بأن تركياً يريده، فارتعدت فرائص النفر العمشاوي، وصار يوبّخ عناصره أمام الموظف التركي على اقترابهم من سيارة الإسعاف، وأمر بجلب السيارة خلال لحظات، وبدأ يتودّد إلى الموظّف التركي كقطٍ يتمسح برداء صاحبه باحثاً عن رضاه، علماً أن الشخص التركي لم يكن مسؤولاً كبيراً في الدولة! ولا كان ذا شأن عسكري أو أمني! ولا جاء بورقةٍ أو صك من إحدى الجهات العليا في الدولة! ولا هو قريب من رأس السلطة، إنما كل ما في الأمر أنه كان يتحدث باللغة التركية، اللغة التي يستمد أبو عمشة ومن هم على شاكلته في الشمال السوري سطوتهم من أصحابها! اللغة التي غدت منبع السلطوية، مخيفة، آمرة، ناهية، تدفع المَرضى للتباهي بها وممارسة السطوة من خلال قربهم من ذويها أو معرفتهم بالناطقين بها في عموم المنطقة، كما كانت بالضبط لهجة أهل الجبل هي العصا السحرية لأجهزة أمن نظام الأسد وشبيحته والمدخل المَرضي لكل الأوباش الدائرون في فلك المخابرات.
ولأن أهل التمجيد والوصوليين في مجتمعاتنا دائماً مع الفائز أو المنتصر أو القوي، وهم الجنود الجاهزون في كل زمان ومكان في حضرة صاحب السلطان، لذا تراهم يلوّنون قشورهم ويغيّرون راياتهم من حينٍ لآخر مع تغيير الحكام والزعماء وأصحاب النفوذ، إلاّ أن مكنوناتهم القميئة وأمراضهم النفسية وتطرفهم في التقرب من صاحب السطوة أياً كان يبقى هو الثابت الوحيد لديهم، لذا بقيَ المتعطشون لممارسة العسف على حالهم في زمن حكم الأسد وأوان خضوغهم لحكم غيره، وحيال هذه العلة الأخلاقية يطيب لي ذكر فقرة للشيخ علي الطنطاوي كان قد أوردها في سياق قصة جابر عثرات الكرام حيث قال:" إن دأب العامة في كل عصر وفي كل مِصر، أسرعهم هتافاً للملك عند تتويجه، وأسرعهم لعناً له عند خلعه" وتأكيداً لكلام الشيخ فإن نفس الذين كانوا يتسابقون إلى التقريظ المنظّم للخاقان، ويمارسون السطوة والابتزاز والتدليس والخداع باسم القائد الرمز ابان الخضوع لسلطته، غدوا أنفسهم الذين يشتمونه ويلعنونه ويمجّدون غيره ويمارسون السلب والنهب والسطوَ المسّلح باسم قائدهم الجديد في المناطق التي خرجت عن سيطرة قائدهم السابق. 







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=24665