لماذا قرر ترامب الانسحاب من شرق الفرات؟
التاريخ: الخميس 20 كانون الأول 2018
الموضوع: اخبار



د. ولات ح محمد

    حتى الأمس القريب كانت الصورة مختلفة تماماً، وكانت كل المؤشرات تشير إلى أن واشنطن تبحث عبر موفدها جيمس جيفري عن حل وسط ينزع فتيل الأزمة بين حليفيها تركيا وقوات سوريا الديمقراطية حفاظاً عليهما وعلى مصالحها في المنطقة بالدرجة الأولى؛ فقد أعلنت واشنطن قبل أيام أنها ستدرب أكثر من ثلاثين ألفاً من قوات حفظ الأمن، كما تحدث جيفري عن سيناريو قد يطبق على شرق الفرات مشابه لما حدث لشمال العراق (إقليم كوردستان) قبل أكثر من ربع قرن، أي فرض حظر جوي. أما الدوريات الأمريكية فكانت حتى أمس تجوب الحدود وشوارع المدن لحفظ الأمن وطمـأنة الناس، وكانت نقاط المراقبة كذلك ما تزال تقام الواحدة تلو الأخرى، كما قدمت واشنطن قبل أيام مبادرة بإدخال بيشمركة (روج) وقوات عربية لحفظ الحدود والفصل بين القوات التركية وقوات ق س د، ناهيك عن الدعم العسكري الذي لم يتوقف حتى قبل أيام. كل ذلك ليس فيه أية إشارة من قريب أو من بعيد إلى وجود نية لدى الإدارة الأمريكية بسحب قواتها من المنطقة.



    إضافة إلى كل ذلك ما زالت الأسباب التي أعلنتها واشنطن للبقاء في شرق الفرات قائمة: فداعش لم ينته بعد، (وإذا انتهى عسكرياً فقد يعود من جديد)، وتحجيم إيران ما زال أحد الأهداف الأمريكية المعلنة في المنطقة، وإطلاق عملية سياسية حقيقية في سوريا تنتهي بإنشاء دستور جديد وإطلاق عملية إعادة البناء في كل البلد لم يتم بعد. كل هذه الأسباب ما زالت قائمة ومع ذلك صحا ترمب أمس، وبعد أن احتسى قهوة الصباح أصدر قراراً بسحب قواته كاملة وبأسرع وقت من سوريا. فما الذي دفع الرئيس الأمريكي إلى مثل هذا القرار وبمثل هذه الصورة المفاجئة؟.
    بدايةً هذه الخطوة الأمريكية المفاجئة وبهذه السرعة ومن دون إشارات استباقية أو مقدمات تبين أنها غالباً فردية من طرف الرئيس وحده، وليست نتيجة رؤية فريق عمل شاملة للتواجد الأمريكي في المنطقة (هذا ما دفع قيادات مهمة في فريق ترامب إلى تسجيل اعتراضها على القرار مثل وزير الدفاع جيمس ماتيس ووزير الخارجية مايك بومبيو ومبعوث ترامب للملف السوري جيمس جيفري)، وهذا وحده كافٍ ليكون سبباً لاتخذ هكذا قرار. 
    إذا قطعنا القرار عن أسبابه الخارج - سورية (كالرغبة في شن حرب على إيران) واقتصرنا على ربطه بالداخل السوري فقط، فيمكن النظر إليه على أنه قد يكون استراتيجياً نهائياً لا رجعة عنه وقد يكون تكتيكياً قابلاً للتغيير أو الإلغاء في أي وقت؛ فإذا كان نهائياً فإن أحد أبرز أسباب اتخاذ مثل هذا القرار المفاجئ قد يكون خضوع ترامب لابتزازات أردوغان وضغوطاته التي مارسها عليه في الأسابيع الأخيرة مستغلاً قضية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، إذ بدا واضحاً أن صوت أنقرة قد ارتفع في وجه واشنطن بعد ذلك الحادث، وباتت تلوح غير مرة بأنها ستمضي في حملتها على شرق الفرات حتى وإن لم تكن واشنطن راضية. لذلك ربما جاء قرار ترامب هذا لإرضاء الأتراك مقابل حفظهم ملف خاشقجي وإخفاء ما لديهم من معلومات ووثائق قد يسبب الكشف عنها إحراجاً لأمريكا وحلفائها وسياستها في المنطقة. 
    الدافع الآخر لهذا القرار قد يكون تجنب التصادم مع الأتراك في شرق الفرات؛ إذ ربما رأى ترامب أنه ما دام أردوغان مصراً على عمليته العسكرية هناك فمن الأفضل له سحب قواته لتجنب الاصطدام مع حليفه في الأطلسي (لا يكمن لأمريكا السكوت عن هجوم تركيا ولا محاربتها)، ولكي لا يدفع به أكثر إلى الحضن الروسي الإيراني (بل قد يدفع القرار إلى فك ارتباط تركيا بالمعسكر الروسي). إضافة إلى ذلك ربما خشي ترامب تعرض قواته لهجوم أو أحد جنوده لإصابة ولو بالخطأ، الأمر الذي سيضعه في موقف صعب أمام جمهوره قبل موعد الانتخابات. ولذلك وجد أنه من الأفضل أن يقدم استقالته من الأرض السورية في مثل هذا الوقت. 
    الاحتمال الثاني لهذا القرار المفاجئ هو أن يكون تكتيكياً بقصد المناورة وممارسة الضغوط وإرسال رسائل إلى الأطراف المعنية لتغيير سلوكها أو للحصول منها على تنازلات كما فعل ترامب نفسه قبل أكثر من ستة شهور عندما أعلن عن انسحاب سريع لقواته من تلك المنطقة وتبيّن فيما بعد أن الهدف منه كان الحصول على تمويل خليجي للمعركة ضد داعش. (هذه المرة أيضاً قال: حان الوقت لكي يحارب الآخرون ويدفعوا).
    إذا كان القرار تكتيكياً فسيكون الطرف الأول الذي عليه تلقي الرسالة هو قوات سوريا الديمقراطية؛ فقد بدت تلك القوات في الأسابيع الأخيرة من خلال عدة محطات وكأنها تتعارض مع حليفها الكبير؛ فعندما أعلنت واشنطن عن تخصيص جوائز مالية لمن يدلي بمعلومات عن ثلاثة من قادة حزب العمال الكوردستاني بغية تهدئة الحليف التركي والفصل بين قوات سوريا الديمقراطية وقنديل، أعلنت ق س د تأييدها للحزب ولأولئك القادة، كما أوقفت عملياتها ضد داعش احتجاجاً على قصف الجيش التركي لبعض مواقعها. في محطة أخرى وللسبب ذاته قدمت واشنطن مقترحاً بإدخال قوات كوردية وعربية لتقوم بالانتشار على الحدود السورية التركية لتبديد مخاوف الأتراك وسحب الذريعة منهم لمنعهم من شن حرب على شرق الفرات، فكان موقف سوريا الديمقراطية (وكذلك الأتراك) أنها رفضت المقترح بل أنكرت دخول قوات (روج) إلى غرب كوردستان بقصد التفاوض معها حول الموضوع، وأعلنت أنها فقط تستقبل الأفراد الذين يودون المشاركة في الدفاع عن شرق الفرات.
    هذه المحطات ربما أوصلت واشنطن إلى قناعة بأن استمرارها بهذه الطريقة مع قوات سوريا الديمقراطية (في ظل إصرار الأتراك على محاربتها وعدم استعداد الطرفين لتقديم أو تقبل أية مبادرة) سيؤدي إلى صدام حتمي بينها وبين الحليف التركي، وسيكون لهذا تبعات كبيرة ومكلفة. لذلك أرادت واشنطن وضع ق س د أمام قرار مفاجئ وإرسال رسالة تقول إنها لا يمكن أن تتصرف كما تريد، وأنها إذا استمرت بهذه الطريقة فستكون أمام أحد هذه الخيارات: مواجهة الأتراك عسكرياً بمفردها أو مواجهة قوات النظام أو تسليم مناطق إدارتها لدمشق سلمياً. وربما كان تقدم داعش في ثلاث بلدات (هجين وغيرها) قبل أسابيع نوعاً من السماح الأمريكي بذلك لإيصال ذات الرسالة إلى قوات سوريا الديمقراطية منذ ذلك الوقت. وقد تكون واشنطن من خلال مواقف ق س د السابقة استشعرت بأن تلك القوات بدأت تبتعد عنها مع انتهاء داعش وتتجه باتجاه دمشق، أي روسيا وإيران، فأرادت أولاً أن تحفظ ماء وجهها وأن تضع ق س د أمام واقع صعب في مواجهة الأتراك ثانياً.
    أما من جهة الأتراك الذين التحقوا بالروس والإيرانيين وزعلوا من الأمريكان ولاموهم وطالبوهم مراراً بضرورة تخليهم عن مساندة قوات سوريا الديمقراطية، فربما أراد ترامب بقراره هذا أن يقول لهم: ها نحن سنترك المنطقة وسنسحب دعمنا لتلك القوات كما طلبتم، وسنرى ما ستفعلون مع الروس والإيرانيين والإرهاب في سوريا. وبذلك تكون واشنطن بهذا القرار قد وضعت حليفيها المتصارعين اللذين لم يستجيبا لمبادراتها وللحلول الوسط حسب رؤيتها أمام امتحان صعب.
    بما أنه لم يحدث ما يدفع ترامب لاتخاذ هكذا قرار مهم بشكل مفاجئ (كتعرض قواته للهجوم أو لخسارات متتالية كما حدث في العراق قبل عشرة أعوام) وبما أنه جاء فردياً من طرف الرئيس وحده، فإنه ربما جاء نتيجة تعرض ترامب لضغوط وتهديدات تركية في ملف الخاشقجي تحديداً، وربما هو قرار تكتيكي مؤقت لإرسال رسائل إلى كل من الحليفين التركي والقسدي لإجبارهما على اتخاذ خطوات عملية وتنازلات من أجل التوصل إلى حل يرضي الطرفين ويحافظ في الوقت ذاته على المصالح الأمريكية في المنطقة. بهذا المعنى فإن الذي صحا صباحاً وأصدر قراره وهو يشرب قهوة الصباح يمكن أن يصحو مرة أخرى ويصدر قراراً معاكساً إذا حقق قراره الأول الأهداف التي أراد لها أن تتحقق. وقد تكون مدة 60 – 90 يوماً لسحب قواته فرصة كافية لحدوث تغيرات والعودة عن القرار، أو لفتح الطريق أمام قوة أخرى حليفة تحل محلها وتأخذ دورها كفرنسا مثلاً.
    كل الأسباب السابقة (إذا كانت صائبة) غير كافية لاتخاذ قرار خطير كهذا لأنه لا يتعلق فقط بوجود ألفي جندي أمريكي في سوريا أو سحبهم، بل يخل بالتوازنات في المنطقة عموماً وعلى طاولة الحل السورية خصوصاً، وكذلك بسمعة أمريكا (غير النظيفة أصلاً) لدى حلفائها في العالم برمته وبمصداقيتها في الأهداف التي تعلن عنها وتروج لها وبمدى جديتها في السعي لتحقيق تلك الأهداف كالحد من التمدد الإيراني في المنطقة ومنع عودة داعش والمساهمة في الحل في سوريا وإطلاق عملية إعادة الإعمار فيها بعد استقرارها.
    ترامب بقراره ذاك ترك كل تلك الأهداف وراءه ومضى، بعد أن أعلن "انتصاره" على داعش كما فعل حيدر العبادي في مثل هذا الوقت من العام الماضي في العراق لمجرد أهداف سياسية وحسابات شخصية خاطئة، إذ يبدو أن أبرز المستفيدين من قرار الرئيس الأمريكي الأخير هي الأطراف ذاتها التي أعلن أنه جاء لمحاربتها في المنطقة وعلى رأسها داعش نفسه. 







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=24431