الليلة السوداء.. إلى د. فارس كره بيت
التاريخ: الثلاثاء 07 اب 2018
الموضوع: اخبار



إبراهيم اليوسف

نظرت إلى الساعة، كانت تشير إلى الثالثة والنصف، فحسب، عندما نهضت من نومي، وأنا أمسك بصدري نتيجة ألم عابر، استيقظت بسببه،  لأتأكد فيما بعد أن لا علاقة له بالقلب، قلت في نفسي: إذاً، لم يمض على نومي أكثر من حوالي عشرين دقيقة لا أكثر. حاولت أن أواصل النوم، بلا جدوى، فالحرارة العالية حولت العالم من حولي إلى جحيم دنيوي. مرت خمس دقائق أو أقل من القلق، حتى شعرت بحرقة لسعة أخرى على ذراعي اليسرى..!
-إنها حشرة سوداءغريبة
ألمها كان يبزُّ ألم لسعة عقرب


لجأت إلى بعض المطهرات، وأنا أحاول الثأر من الحشرة السوداء التي دخلت الغرفة، بعد أن فتحت النافذة والباب، بسبب موجة الحر التي تداهم ملجأنا الأوربي، منذ حوالي شهر، ولا أذكر أنني عانيت من  وطأة حر مشابه له، طوال حياتي، بالرغم من أنني ولدت في قرية، شبه صحراوية، ولم أتعرف حتى على المروحة الكهربائية في بيتي إلا بعد تجاوزي المرحلة الابتدائية- بسبب عدم تعرفنا على الكهرباء آنذاك- بل على الرغم من أنني عشت في الخليج نفسه بضع سنوات!
لجأت إلى -الأيباد- لأقرأ كتاباً مخزناً، فأحببت أن أتصفح الفيس بوك، قبل ذلك، وأنا أمهد للنوم، على أمل أن ينتهي الألم الذي تركته تلك الحشرة على ذراعي، وكان أول خبر ظهر لي  في الفضاء الأزرق عن رحيل د. فارس كره بيت..!
ماهذا يا إلهي..!؟
خفق قلبي بسرعة.....
لا هذا غيرمعقول
 هرولت إلى صفحته الفيسبوكية. صفحات بعض أهله، لم تكن هناك أية إشارة إلى ذلك.  قلت في نفسي:
 
يبدو أن صديق الشباب الأول، وابن الحي، وابن الأسرة الصديقة د. فهد أمين الذي نشر الخبر، التبس عليه أمر ذكرى رحيل فريد كره بيت الذي نشره الصديق الشاعر وليد حسني قبل يومين. كتبت إليه عسى ولعل أن ينفي الخبر، لكنه لم يرد علي حتى الصباح، وهكذا بالنسبة إلى الصديق وليد حسني، وصفحات عدد قليل جداً من الأصدقاء الذين نشروا الخبر.
رحت أتفحص حسابي د. فارس الواتسابيين، فلاحظت أنه كان متواجداً حتى الساعة الثامنة مساء. شعرت بشيء من الطمأنينة المطعونة. حاولت أن أكتب إليه، لكن قوة عظيمة منعتني من ذلك، فأنا أكاتبه، عادة، وقلة من الأصدقاء مهما كان الوقت متأخراً. كتبت للصديق سلام نعمان، فلم يرد، بحثت عن هاتف د.آحو يوسف الذي زرت معه بيت أهل فارس قبل ثلاثين سنة، ولفت نظري آنذاك أن ذويه يتكلمون كردية خالصة أكاد لم أشهد مثيلاً لها، إلا نادراً، وهو ما سيشرح لي د. آحو أسبابه آنذاك. بحثت عن رقم د. طانيوس أيو صديقنا المشترك، فلم أجده في تلك الليلة، نتيجة ارتباكي، حاولت أن أهدأ قليلاً، ممنياً نفسي أن الخبر غير صحيح، وإن كان ابن شقيقتي نوشين حفيظ الذي  لايزال ساهراً ويعمل على موقع إلكتروني سيقرأ منشوري ويقول: خالو، الخبر مؤكد، للأسف!
لا ضير ألا أنام الليلة، فقد حرمت من النوم نتيجة الحر منذ أسبوع، نتيجة هذا الطقس اللعين..!
صباحاً، استعنت ببعض وسائل التواصل، لأتأكد -بكل أسف- أن خبر رحيل د. فارس حقيقي، بحسب ما وردني من رسائل الأصدقاء، ولأتواصل والصديق الدكتور طانيوس الذي حذرني قبل أكثر من عشر سنوات، من فخ نصب لي، تواطأ فيه طبيب وسواه، نتيجة موقف لي، قال: الخبر مؤكد، وسرد لي تفاصيل سماعه به قبل ذويه في السويد وقامشلي وهولندا.
حقيقة، انتابني شعور كبير بالألم، وجدتني في أسوأ حال، لاسيما إن د. فارس كان أحد العناوين التي عولت عليها في مدينة إيسن-الألمانية التي نقيم فيها كلانا، وقد زارني في البيت وسهرنا أنا وهو والصديق سلام نعمان في سهرة تاريخية، بعد انقطاع سنوات طويلة-إذ إنه انتقل إلى حلب فيما بعد و قبل هجرتي من قامشلي بسنوات- لأدرك من جديد عمق إنسانيته التي شهدتها في بيته، ومن خلال شهادات من يعرفونه وأسرته في قامشلي، وآلمني أنه هو الآخر منكسر في منفاه، ويبحث عن ذريعة للاقتراب من قامشلي، وذلك عبر العمل وأطباء آخرين في أحد مشافي دهوك، ويبدو أن ذلك لم يتم.
ذلك الطقس الجحيمي الذي أحسست في لحظات كثيرة أني سأرفع يدي في مواجهته، هو نفسه قاد د. فارس في ظهيرة يوم 3-8-2018 إلى بحيرة مشؤومة في إيسن، ليخفف من وطأة الحر، عبر السباحة، إلا إنه سيدفع حياته في سبيل ذلك.
خلال سهرتنا، تلك، في بيتي، وحضرها أبنائي، تحدث د. فارس عن وسم، ابنه الطبيب عن جاد الصيدلاني عن كريمته المهندسة فيرا. عن زوجته. عن شقيقه الراحل فريد. عن الحزب الشيوعي الذي عمل فيه، بإخلاص، وغدا عضواً في اللجنة المركزية، قبل أن يغادر صفوفه، قبل سنوات طويلة. عن آحو يوسف قريبه. عن عشيرة غرزان الكردية التي ينتمي إليها، وتضم مسيحيين ومسلمين. وصار يسألنا- امتحانياً- عن بعض المفردات الكردية الأصيلة التي سمعت مثلها من بعض أفراد أسرته، لأدرك أن لديه معجماً لغوياً كردياً فريداً. كما سرد بعض قصص المسيحيين الكرد، بالإضافة إلى تفاصيل قصة أخرى، مهمة بالنسبة إلي، لم أوثقها، وقال: سنلتقي وأحدثك في تفاصيل ما رأيت، إلا أننا التقينا، ولم نتحدث فيها..!
لقد كان د. فارس أحد هؤلاء الأطباء الذين عرفوا بتفوقهم الدراسي، وإبداعهم المهني، بالإضافة إلى إنه كان مثقفاً كبيراً، متابعاً للشأن الثقافي، يحدثنا أنى التقينا عن الإصدارات الجديدة، وعن بعض المقالات البارزة. عن الحوارات الفكرية والسياسية، والشأن اليومي، وهكذا فإن مهنته لم تعرقل تعمقه في المجال الثقافي.
طلب مني في آخر اتلك السهرة رقم هاتف الصديق إبراهيم محمود، وكنت أعلم أنهما كانا دائمي التواصل في الوطن، أعطيته الرقم، وصار يحدثني لاحقاً، و أكثر من مرة، عن تواصلهما، بفرح كبير، قائلاً: لقد وعدته أن أزوره في دهوك...؟؟!
منذ التقائنا هنا في ألمانيا، وتبادلنا أرقام الهواتف، بتنا نتواصل، عبر الواتساب، كوشيجة تواصل شبه يومية، وإن كنت قد لحظت أنه انقطع في 18-7-2018، بالرغم من مراسلتي له أكثر من مرة، وخيل إلي أنه قد سافر لقضاء إجازته، أو للالتحاق بالعمل في إقليم كردستان، كما كان قد خطط لذلك، بوساطة أصدقاء أطباء مشتركين.
د. فارس كره بيت، صورة حقيقية عن ابن مكاننا الأصيل الذي عمل بروح: إنسانية ووطنية حقيقية، وكان يحس بانتمائه إلى كل أهل بلده، بعد أن ساهم في إنقاذ حياة الآلاف، عبر أكثر من ثلاثين سنة من عمله في المجال الطبي، وكاد يضطر أن يعمل كمجرد ممرض في منفاه، بسبب الظروف الأليمة التي مرَّ بها مكانه، وهوأحد أطبائنا الأوسع شهرة.
ود.فارس كره بيت من هؤلاء الذين شكلوا ملامح مكانهم، بإنسانيتهم، وحبهم للجميع، وذاك نتيجة ثقافة أسرته المنفتحة على سواها، ومن هنا فإن رحيله كان صاعقاً ليس بالنسبة إلى أسرته، بل لكل أبناء مجتمعه، وبلده، ووطنه، لأنه كان ابن كل بيت بجدارة..!
كثيرون اختلفوا في د. فارس، فثمة من عده أرمنياً، أو سريانياً، أو غيرهما، وكان ذلك نتيجة الروح الإنسانية العالية لأسرته، فأمه، رحمها الله، كما علمت، لم تكن تعرف التحدث سوى بالكردية، شأن جزء  جد كبيرمن أهلنا المسيحيين، في مرحلة ماقبل التبعيث و التعريب..
ثمة أصدقاء عايشوه عن قرب- على عكس علاقتي به- ومن هؤلاء الكثيرون من الأطباء. الكثيرون من الشيوعيين المنصفين. الكثيرون من المثقفين. من العامة، ومن هؤلاء: طانيوس أيو- سلام نعمان وقريبه د. آحو يوسف وآخرون كثيرون، أتمنى من هؤلاء الكتابة عن مآثر د. فارس، لأنه امرؤ غير عابر، وأعدني جد مقصر، لأن مشاغلي بل ومشاغله لم تسمح لنا بالالتقاء أكثر من المرات التي التقينا فيها، وجهاً لوجه، باعتبار أن كل وسائل التواصل لا نغني عن الالتقاء الفيزيائي، لاسيما وأن هذه الفيزياء مهددة بالزوال لولا الكتابة التي تنتصر عليها، وتوثقها..!؟







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=23990