جزء من مقال: إحدى زوايا تاريخ الصحافة الكردية
التاريخ: الثلاثاء 09 ايار 2006
الموضوع: اخبار


د. كمال مظهر أحمد*
ترجمة: صدرالدين عارف
 
إن لبدايات ظهور الصحافة عند كل شعب تأريخاً خاصاً ، وهذا التاريخ مرتبط بأسباب مختلفة  ويحتاج الى توضيح جوانب كثيرة من الحياة السياسية والاجتماعية. إن أسباباً خارجية كثيرة كانت  ذات اثر كبير في ظهور الصحافة الكردية بالإضافة الى الشروط الخاصة التي كان الشعب الكردي يعيش فيها، واحد هذه الأسباب هو ظهور الصحافة لدى الشعوب المجاورة للكرد، و دورها في الحياة الثقافية والسياسية لهذه الشعوب .

لم يكن قد مر وقت طويل على اختراع مكائن الطباعة حتى سارع  الأوروبيون الى سبك الحروف العربية. ولكن وصول هذه الأحرف ومطابعها الى الشعوب الإسلامية يتطلب وقتا طويلا. صحيح ان المطبوعات والمطابع الحديثة كانت قد وصلت الى الدولة العثمانية منذ نهاية القرن الخامس عشر ، لكن هذه المطابع أو المطبوعات لم تكن تطبع باللغة التركية أو العربية. إن أول جهاز للطباعة أتى به اليهود الهاربون من أسبانيا بسبب جور حكامهم، والذين لجأوا الى الدولة العثمانية. كان ذلك في عام 1494  وقد أقيمت في مدينة استنبول  واستمرت في العمل نحو عشرين عاما  فقط، ثم أقيمت  المطابع في مدن أخرى من الإمبراطورية العثمانية. ثم تلاهم الأرمن في ميدان الطباعة، حيث  أسسوا عام 1565  أول مطبعة أرمنية في مدينة استنبول، وفي عام 1773 تأسست في مدينة اجمادزين، قرب يريظان، في داخل أرمينيا ذاتها أول مطبعة مستقلة ، وكانت تستعمل الأحرف الأرمنية، ولم يمض وقت طويل حتى نزل الى الأسواق بعض من الكتب العلمية والدينية المطبوعة. ثم أسس اليونانيون في بداية القرن السابع عشر مطابعهم المستقلة في مدينة استنبول.
 لقد تأخرت الطباعة بلغات الشعوب الإسلامية التي كانت تعيش ضمن الدولة العثمانية كثيرا بسبب تخلف تلك الشعوب وكذلك بسبب السياسة العمياء التي كان السلاطين يتبعونها. ويقال  ان السلطان بايزيد الثاني أصدر عام 1483  أمرا يمنع بموجبه الطباعة وفرض حكم الإعدام على من يخالف ذلك الأمر،  وقد أعاد السلطان ياوز فرض ذلك الفرمان (الأمر) عام 1515. ورغم وجود شك في صحة  هذه الأوامر إلا أن الثابت أن القوانين لم تكن تسمح لمطابع الأقليات الدينية بأن تطبع أي شيء باللغتين التركية والعربية . وقد أغلقت هذه المطابع واحدة تلو أخرى ، من تلقاء أنفسها بعد ازدياد الحس القومي لدى الأرمن واليونانيين.
وقد تجاوز الأمر ذلك الحد حينما اعتبر بعض السلاطين طبع الكتب، وبالأخص  الكتب الدينية، كفراً. وتذكر بعض المصادر التركية كيف ان السلطان محمد الرابع (1648-1687) أمر بإلقاء المصاحف المطبوعة التي جلبها أحد الأوروبيين في البحر. كما أمر بإلقاء  الأحرف العربية التي اهديت إليه من مدينة فينيسيا (البندقية) في البحر أيضاً.
لقد أدرك مثقفو الدولة العثمانية في وقت مبكر أهمية المطابع وقد حاول عدد منهم استيرادها الى البلاد في بداية القرن السابع عشر ، لكن تنفيذ هذا الأمر لم يكن هيناً للأسباب التي ذكرتها. وكان على الحكام أن يذوقوا مرارة ا الهزيمة على أيدي الأوروبيين لكي يدركوا أن سبب انتصار  هؤلاء هو تفوقهم الثقافي، وهذا ما دفعهم الى فتح الأبواب رويدا رويدا أمام الإنجازات العلمية (للكفار الغربيين) ، وقد مهٌد ذلك الطريق للشعوب المسلمة لكي تقوم بتأسيس المطابع الحديثة، ففي الخامس من شهر تموز عام 1727 أصدر السلطان محمد الثالث أمراً  سمح بموجبه لشخص  يدعى مصطفى متفرق بأن يقوم بـتأسيس مطبعة شرط أن يمتنع كليا عن طبع القرآن والتفسير والأحاديث النبوية والمواضيع الدينية الأخرى، والغريب في الأمر ان الخطاطين وقفوا  في هذه المرحلة في موقف مضاد للطباعة ، ولإظهار استنكارهم وضعوا أدواتهم في توابيت طافوا بها في أرجاء المدينة، ورغم هذه  المعوقات فإن الأنشطة الطباعية خطت خطوات واسعة نحو التقدم في الدولة العثمانية، وكانت تلك بداية جيدة لظهور الصحافة في هذا البلد.
لقد ظهرت الصحافة، شأنها شأن الكتب المطبوعة، على أيدي الأقليات الدينية وقد أسس الأرمن صحافتهم القومية داخل الدولة العثمانية في وقت مبكر ، لكن أول صحيفة ظهرت عام 1825 في مدينة أزمير العثمانية وكانت تنشر باللغة الفرنسية ، وظهرت أول جريدة باللغة التركية عام 1832 باسم (تقويمي وقايع)، وكانت هذه بداية مهمة في تاريخ صحافة الشعوب التي كانت تعيش داخل الدولة العثمانية. بعد أربعين عاماً وصل عدد الصحف  التي كانت تصدرها هذه الشعوب الى 47 صحيفة ، منها 13 صحيفة باللغة التركية وأما  البقية فكانت باللغات العربية واليونانية والبلغارية والفرنسية وغيرها.  وكانت الصحف التركية (ترجمان أحوال) و (تصوير أفكار) وغيرها متداولة بين القراء الكرد . أما في إيران فقد وصلت الصحافة عام  1851 الى مرحلة  مهمة  وكان لها دور مهم في الحياة اليومية للمجتمع.
كانت أهمية الصحافة في الحياة السياسية والثقافية تزداد يوما بعد يوم ، وكانت الصحافة سلاحاً مؤثرا بأيدي مناوئي الدولتين العثمانية والقاجارية، فأسس(العثمانيون الجدد) ومن بعدهم حركة (تركيا الفتاة) عدداً من الجرائد والمجلات داخل الدولة العثمانية وفي خارجها ، وقد أصدر الثوار الإيرانيون في بداية الثورة الدستورية (1905-1911) ما يقارب  150جريدة  و مجلة مختلفة  من بينها صحف تطبع مابين(5)آلاف الى (10) آلاف  نسخة، وكانت أهمية الصحافة تزداد يوما بعد يوم عند العرب والأرمن.
إن هذه الجهود قد أثرت بلا شك في الحياة الثقافية والسياسية  للشعب الكردي وشكلت  حافزا قويا لمثقفيهم بالتفكير في إنشاء صحافة خاصة بهم. وقد كتب عبدالرحمن رحيمي الحكاري، أحد رواد الصحافة الكردية حول هذا الموضوع ما يأتي: (( إننا نشهد إعجابا متزايداً بأساليب نضالهم (يقصد الأرمن-ك.م) فهم يصدرون في كل يوم صحيفة، وينشرون مجموعة مقالات وكتابا في كل يوم.))
لقد تأخر العمل الصحفي الكردي، مع ذلك ، كثيراً بالمقارنة مع الشعوب المجاورة وكانت حالة التخلف  وضعف الطبقة المثقفة  السبب الرئيسي لذلك. لقد كان بوسع السياسيين الكرد إصدار صحفهم دون أية عوائق، أسوة بالآذريين، ولكن، يبدو أن أحداً منهم لم يفكر في القيام بهذا الأمر الضروري ، رغم اشتراك الآلاف من أبناء الشعب الكردي في هذه الثورة العظيمة.
كانت الحركة الصحافية بحاجة الى وجود أعداد كبيرة من المتعلمين والى تطور ونمو طبقة مثقفة كإحدى ضرورات الحياة الثقافية بحيث تشكل حالة تتعارض مع عدم وجود صحافة قومية .ولكن هذا التغيير كان أكثر بطئاً بالمقارنة مع الشعوب المجاورة. ولكن هذا الأمر أصبح أكثر إلحاحاً مع الولوج الى النصف الثاني من القرن  التاسع  عشر ، حيث أصبح الاهتمام بالتعليم احد شعارات الحركة الكردية وهنا تجدر بنا الإشارة الى ان المدارس الدينية كانت تتمتع بمكانة بارزة في كردستان، ولقد تخرج من هذه المدارس علماء و مثقفون بارزون يتمتعون بالحس القومي وكان لهم دور بارز في تطوير الحياة الثقافية للشعب الكردي، كان من بينهم (حاجي قادر الكوئي) و (ملاى گوره- الملا الكبير) اللذان اهتما كثيرا بالأدب القومي الى جانب أداء واجبهم الديني.
كذلك فإن إتباع الأساليب الحديثة في التعليم كان قد بدأ في كردستان منذ النصف الثاني  من القرن التسع عشر، فقد كان هناك 30 تلميذاً في مدينة عقرة و 40 تلميذا في زاخو  و45 تلميذا في عمادية  ونفس العدد من التلاميذ من رواندوز. كما كان في دهوك  50 تلميذا وفي كويسنجق 125 تلميذا وعدد من التلاميذ في السليمانية يدرسون في المدارس الحكومية، وقد تأسست في المناطق الكردية في بداية القرن الماضي مدارس الرشدية (وهي مدارس متوسطة) وكان بعضها مدارس عسكرية. فقد افتتحت في السليمانية  عام 1893 مدرسة الرشدية العسكرية، وبعد بضع سنوات أرسل عدداً من خريجيها الى بغداد واستنبول لإكمال الدراسة ، وقبل سقوط الدولة العثمانية كان يبلغ عدد طلاب هذه المدرسة 110 طلاب بالإضافة الى 70 طالبا كانوا يدرسون في المتوسطة الأهلية (مولكي).
وكان التعلم في المدن الكبيرة  كدياربكر أكثر تقدما كما كانت العلاقات الثقافية أكثر رسوخاً وكان لأخبار التطورات التي تحدث في أوروبا الغربية وتصل أخبارها من العاصمة عن طريق العلاقات الثقافية تأثير كبير في الطبقة المثقفة الحديثة النشوء في تلك المدن . كما كان هناك تجمع للمتعلمين الكرد في مدينة استنبول يعملون كموظفين هناك  أو طلاب علم في المراكز العلمية والعسكرية  ومنهم من سافر الى أوروبا للدراسة  أو للعمل في السلك الدبلوماسي .هذه الأحداث وضع الكرد في مسارات جديدة . لذا فليس مستغربا  ان يقوم شخص مثل مصطفى باشا يامولكي ، الذي عاش فترة طويلة في استنبول و وصل الى أعلى المراتب العسكرية، ان يهتم، بعد عودته الى موطنه في ظروف بالغة الحساسية، بالعمل الصحافي. كذلك هو الحال بالنسبة الى أبناء بدرخان باشا  وجميل باشا الذين اعتبروا العمل الصحفي جزءاً أساسياً من واجبهم النضالي اليومي.
هذه الأمور، بالإضافة الى اشتداد النضال القومي وازدياد ضغوط السلطات العثمانية والقاجارية، ورسوخ الصحافة كإدارة فعالة بأيدي الشعوب المجاورة للكرد، مهدت الطريق لظهور الصحافة الكردية. لكن السلطة الدموية للسلطان عبدالحميد الثاني، وأسباباً أخرى سنذكرها لاحقا، منعت أن تكون ولادة الصحافة الكردية على أراضيها، لذا اختار الكرد مدينة القاهرة لإصدار أول صحيفة كردية في التاريخ.
كان السلطان عبدالحميد، الذي ادعى في بداية حكمه أنه مدافع عن الدستور، رجلا غدٌارا ومخادعا وكاذبا حارب منذ اليوم الأول من جلوسه على العرش كل ماله صلة بالحرية والديمقراطية. كانت ((فلسفته)) في الحكم تعتمد على تعيين  وزرائه و كبار موظفيه من بين أشباه الأميين، وكان يقول: ((إنني أدرك بأني محاط  بحفنة من كبار اللصوص، لكنني أفضل الاحتفاظ بهم لأنهم الأكثر إخلاصاً لي. ))
كان عبدالحميد قد نشر الموالين له في أرجاء استنبول والمدن الكبرى. وتقول الروايات انه كان يتوجب على كل موظف تركي أن يكون مطيعا لقصر يلدز، وكان الأخ يكتب التقارير عن أخيه مقابل مكافآت مخزية. وفي هذا الصدد يقول أحد المنتمين الى حركة تركيا الفتاة: "لم يكن قد بقي للناس في تركيا (في عهد عبدالحميد-ك.م) سوى طريق واحد وهدف واحد وهو جمع المال و صرفها على السفاهات. ولكن من أجل الوصول الى ذلك الهدف كان عليك أن تكون رجل القصر المخلص، دون الاهتمام بأبيك وأمك  أو إخوتك وأصدقائك  أو ضميرك، كان عليك كبت أفكارك  و حسك الوطني والإنساني) لذا كان من الطبيعي أن تمر الحركة الصحافية بظروف قاسية في ظل حكم السلطان عبدالحميد والذي دام   33   عاماً. واذكر هنا أمثلة ذات دلالات: كان القانون الذي صدر عام 1857 يحتوي على شروط قاسية، ولكن رغم ذلك فإن  السلطان لم يرض عنه وأجرى عليه خمسة تعديلات (ابتداء من عام 1857 و حتى  عام 1900) بحيث جعل تلك القوانين مدعاة للضحك. فكانت  القوانين تمنع، مثلا الصحفيين من ذكر أسماء مثل: مدحت باشا والدستور والديناميت والقنابل والثورة والاشتراكية والحقوق والحريات والإضراب والمساواة والنضال. وتمنع ذكر حوادث القتل أو إقالة الموظفين . ولم يكن بوسع الصحفيين القيام بأية مناورات أو التحامل لأن السلطان كان يراقب المطبوعات بنفسه في مدينة استنبول، ويقوم كبار موظفيه المخلصين بالرقابة  في المدن الأخرى، وقد أغلقت جريدة "صباح" لعدة سنوات بسبب أخطاء مطبعية بسيطة أعطت طابعاَ تهكمياً  لخبر كان قد نشرته. وقد أصيب الصحفيون بالحيرة عام 1894 حول كيفية التعامل مع نشر خبر مقتل (س.كارنو) رئيس جمهورية فرنسا، فقد كان ممنوعاً عليهم نشر خبر مقتل رئيس إحدى الدول. ومن جهة أخرى لم يكونوا يملكون الجرأة على ذكر ان وفاته كان طبيعيا بسبب عمره لأنه  كان في نفس عمر السلطان. وهكذا لم تستطع صحيفة واحدة أن تنشر خبر وفاته بأكثر من سطر واحد. باختصار كان الحقد اللا مقدس الذي كان السلطان عبدالحميد يشعر به نحو الصحافة الحرة قد وصل الى درجة كان يتمنى، بعد خلعه من السلطة (عام 1909) أن يتمكن من العودة الى قصر يلدز ليوم واحد فقط لكي ((يستطيع أن يلقي بكل الصحفيين الى التنور)).
لم يكن متوقعا ، بلا شك، أن تسمح للصحافة الكردية ان تصدر في ظل نظام كهذا لأن أحداً لم يكن  ليجرؤ على طلب إصدار صحيفة ناطقة باللغة الكردية ، ولم يكن هناك  أمل في أن يلبى طلبه حتى لو طلب ذلك.
 وهناك سبب آخر بجانب الأسباب التي ذكرناها. فقد كان نظام السلطان عبدالحميد يعارض بشدة الصحوة القومية للشعوب التي كانت تعيش داخل الدولة العثمانية وقد قمع بشدة الحركات التحررية الكردية  وحركات الشعوب الأخرى. كان السلطان عبدالحميد يريد ان يستغل مسلحي العشائر الكردية و يجعلها أداةً  في يده لقمع خصومه، وكان هذا هو الدافع وراء تشكيل قوة (فرسان الحميدية). كان السلطان  القصير النظر لا يتحمل وجود شيء يعارض رغباته الهوجاء.
 وهكذا ، كان على المثقف الكردي، شأنه في ذلك شأن مثقفي الأقوام الأخرى التي كانت تعيش داخل الدولة العثمانية، أن يفكر في إصدار صحافته في مكان آخر، وكانت مدينة القاهرة ملائمة جداً لتحقيق  ذلك الهدف ، فعلاقة مصر بالحضارة الأوروبية كانت حميمة من الدول الشرقية الأخرى. وتعود بدايات الصحافة في هذا البلد الى فترة تواجد نابليون وجيشه هناك، أي الى القرن التاسع عشر. ولم تكن قد بقيت من السلطة العثمانية بعد احتلال الإنكليز لمصر (عام 1882 ) سوى اسمها. ورغم ذلك فقد كان العثمانيون يريدون استغلال الظروف السياسية الدولية   والتغييرات التي حدثت في مصر من أجل إعادة سلطتهم المفقودة  هناك . وكانت هذه بذرة الصراعات الخفية بين الأتراك والإنكليز، والتي استمرت حتى نشوب الحرب العالمية الأولى .
وكان للصحافة دور غريب ومؤثر في تأجيج الصراع، فقد كان السلطان عبدالحميد يبذل جهودا كبيرة لاستمالة الصحافة المصرية لتأييده  وكان يبذل أموالا كثيرة  ويثير المشاعر الدينية ويشجع مؤيدي الدولة العثمانية لإصدار الصحف في مدينة القاهرة.
ولم تذهب جهود السلطان  هباءً في هذا المجال ، وقد كتب مؤرخ عربي حول ذلك ما يأتي:
((ورغم ان تركيا كانت ضعيفة إلا أنها كانت تسعى لإثارة مشاعر الناس ضد المحتلين (الإنكليز-ك.م) لأنها لم تكن تريد أن تفقد مصر  نهائياً. وكان توجد في مصر أعداد كبيرة من الموالين لتركيا بسبب مشاعرهم الدينية، لذا فقد كانت هناك صحف موالية للدولة العثمانية، كما كانت هناك صحف تأسست بتشجيع من استنبول كصحف (البرهان)و (القاهرة) و (الأهرام) (القديمة).
 ولم يقف المسؤولون الإنكليز مكتوفي الأيدي أمام هذا الأمر، لأنهم كانوا حريصين على البقاء وطرد العثمانيين بشكل نهائي من مصر، وكانوا مستعدين لإتباع أي طريق يلائم تحقيق ذلك الهدف، وكانوا أكثر نجاحاً في هذا الميدان لان سلطتهم كانت الأقوى، فقامت صحف مثل (الوطن) و  (مرآة الشرق) و (النيل) و(المقطم) وغيرها مجملها ضد السلطة العثمانية وبإظهار عيوبها، ونتيجة لذلك ظهرت صراعات شديدة بين الصحف الموالية للإنكليز والصحف الموالية لاستنبول.
وعلاوة على ذلك، فقد فتح الإنكليز الأبواب على مصارعها أمام المعارضين  للسلطان عبدالحميد، وأصبحت مدينة القاهرة أحد المراكز المهمة لنضال حركة "تركيا الفتاة" وهي من اكبر الحركات المعادية للسلطان عبدالحميد وأكثرهم قوة ، وأحد الأمور الذي اهتمت به هذه الحركة في هذا المجال إصدار الصحف بلغات عديدة ، وهكذا أصبحت مدينة القاهرة مركزا مهما لنضال هؤلاء الأتراك وأصبحت الصحافة وجها بارزاً من أوجه نشاطهم. ويجدر بالذكر هنا أن الجريدة المسماة (اجتهاد) كان يصدرها الدكتور عبدالله جودت الكردي الذي كان أحد مؤسسي حركة (تركيا الفتاة).
كما سمح الإنكليز لمعارضي السلطان الآخرين ان يجعلوا من مصر مركزا لنضالهم، فقد نشط الوطنيون الأرمن، أسوة بالأتراك ، في التحرك بحماس وكانوا يصدرون صحيفة خاصة بهم من مدينة القاهرة.
وهكذا نرى ان مصر كانت مكانا ملائما جداً لولادة أول صحيفة كردية وأكثرها قربا للشعب الكردي، وهكذا كان،  ففي يوم الخميس المصادف للثلاثين من (ذي القعدة) عام 1315 الهجرية- التاسع من نيسان عام 1314 حسب التقويم الرومي، الموافق لـ (22) من نيسان عام 1898 الميلادية أصدر مقداد مدحت بك البدرخاني أول صحيفة كردية في مدينة القاهرة  وقد طبعت في مطبعة (الهلال).
في ظل هذه المصاعب ولدت الصحافة الكردية وقد تطلبت ولادتها سنوات عديدة من الجهد مقارنة بصحافة الشعوب الأخرى. ويجدر بنا ذكر الرسالة التي بعثها مثقف كردي الى صاحب امتياز جريدة "كردستان" ويعاتبه بحزن، قائلاً : ( لقد تأخرت كثيرة في إصدار  جريدتك، وكان الاحرى أن تصدرها  قبل 20 عاماً ، أي في سبعينيات القرن التاسع عشر.)
كانت لمقداد  مدحت وأخيه عبدالرحمن ،كما سنذكر لاحقا، صلات وثيقة بحركة تركيا الفتاة  وهذه الصلات ساعدت في إصدار جريدة كردستان. ان هذه العلاقة الوثيقة دفعت ببعض المؤرخين الى اعتبار جريدة كردستان نفسها إحدى الصحف الناطقة باسم حركة  تركيا الفتاة ، لكن الحقيقة أن جريدة (كردستان) كانت صحيفة الوطنيين الكرد ولكن معاداتها لنظام عبدالحميد كانت تجمعها في نواًح عديدة  في خندق واحد مع الحركة المذكورة.
يهتم الكرد والمستشرقون بتاريخ أول جريدة  كردية وأثرها في الحياة الثقافية في كردستان ، فقد كتب مينورسكى قبل أكثر من 60 عاما عن إصدار جريدة كردستان وبعدها بعامين (أي عام 1917)، أعاد كردليفسكى نفس الحدث الى الأذهان  وكتب ما يلي: (في عام 1898 صدرت في مدينة القاهرة صحيفة (كردستان)  وبدأ توزيعها بعد ذلك في مدينة جنيف. هذه الجريدة أصدرها كردى هو مدحت ابن بدرخان المشهور  وقد منعت توزيعها في تركيا).  كما ذكرها مستكردون آخرون وثمنٌوا  دورها الايجابي ، وكتب الدكتور بلج شيركو حول كردستان ما يأتي: لقد قرر المثقفون الكرد إصدار هذه الصحيفة لتكون لسان حالهم . كما يعتبر الدكتور شاكر خصباك صدور صحيفة (كردستان) بداية تغيير  وانطلاقة جديدة في حياة الشعب الكردي.
إن نظرة سريعة في إعداد صحيفة (كردستان) تؤكد حقيقة أن الصحافة الكردية  منذ ولادتها في ظل التعسف العثماني قد اختارت لنفسها الطريق الصحيح للنضال باختيارها أسلوب تبادل الآراء منذ العدد الأول ، وقد جعلت (كردستان) التوعية والحثّ على تعلم الصناعات المختلفة شعاراً لها. ولأنها كانت مخلصة وبعيدة النظر، فقد كانت تقدر عاليا قيمة الثقافة وتدعو الشباب الى التعلم أسوة  بالشعوب المجاورة، وكانت غالبا ما تلجأ الى اقتباس  الأحاديث النبوية لحث جماهير الشعب على التعلم ، وتذكر كيف أن التعلم  هو أساس تقدم الشعوب وان اليابان انتصر على الصين  ومصر على السودان بفضل علومها، وكانت الصحيفة تخاطب العقول وتسعى الى دمج المشاعر الدينية بحب الوطن لكي تثير بذلك الشباب  الكردي، كام كانت  تدعو الى (الاتفاق) معتمدة على الأقوال المأثورة للشاعر الكردي الكبير أحمدي خاني. أننا عند ذكر صحيفة (كردستان) ينبغي لنا  ذكر موقفين مجيدين  لها : أولهما موقفها من الأرض والثاني موقفها بالنسبة لتلك المؤسسة العسكرية الرجعية التي أسسها السلطان عبدالحميد من مسلحي العشائر باسم (فرسان الحميدية).
لقد شن الحكام العنصريون العثمانيون حملة شرسة ضد الأرض في تسعينيات القرن التاسع عشر وكانوا يريدون أن تكون العشائر الكردية المسلحة أدوات بأيديهم من أجل تنفيذ هذه المهمة القذرة  ولم تكن فضح هذه السياسة مهمة سهلة إذ أن الكثيرين تلطخت أياديهم بدماء الأرمن وكانت بقية الناس تراقب وتريد الاحتفاظ بمصالحها، فانبرت صحيفة كردستان بإخلاص لدعوة الشعب الكردي الى تفهم النوايا الحقيقية للسلطان عبدالحميد وان لا يكون الكرد سببا في ابادة الشعب الأرمني  الجار القديم لهم ،لأن الشعبين قد اكتويا كلاهما بنار السلطان عبدالحميد وزمرته. كانت الصحيفة تدعو الى الإقتداء بالشيخ عبيدالله نهري  ويذٌكرهم كيف ان المسؤولين في  استنبول لم يستطيعوا دفعه الى الجهاد ضد الكفار. كانت الجريدة حرصاً منها على مصلحة الشعب الكردي تلجأ أحيانا الى استعمال لغة قاسية لحث الشعب على بذل المزيد من الجهد والامتناع عن تلك الأفعال القاسية.
كان موقف عبدالرحمن بدرخان من مذابح الأرمن صحيحاَ، وقد وصل بهذا الرجل المتمتع ببعد نظر كبير الى التبرؤ من ابنه عثمان لأنه اشترك في مذابح الأرمن. كما كان إدراك جريدة كردستان لدور تنظيم (فرسان الحميدية) والنوايا المبطنة من وراء تأسيسها معتبرين تأسيسها فاتحة خير للشعب الكردي ، خاطبتهم صحيفة كردستان قائلة: (إن الغرض من تأسيس فرسان الحميدية هو الهاء الشعب الكردي وبذر الشقاق بين الشعبين الكردي والأرمني لكي لا يتحدا لمقارعة ظلم السلطان. ولا يمكن توقع غير الشر من تنظيم كهذا.) عن هذا الموقف البعيد النظر الذي  وقفته جريدة  (كردستان) يستحق الثناء ، وقد حثت الجريدة المناضلين العرب أيضاً على أن يقفوا بوجه إنشاء قوة مماثلة لفرسان الحميدية في صفوف العشائر العربية المسلحة.   ان جوانب أخرى كثيرة لجريدة كردستان تلفت النظر، كانت الجريدة  تدعو الى إثارة مشاعر الشعب الكردي بصورة ديمقراطية، وقد خصصت الجريدة صفحات مطولة للأدب والتاريخ الكردي وكانت تزين صفحاتها بأبيات  ذات مغزى من ملحمة (مم و زين) للشاعر  احمدي خاني .
لهذه الأسباب ، ولأسباب أخرى ، كان يتحتم على جريدة (كردستان) ان تعيش في المنفى. وصحيح ان منظمات أخرى للشعوب العثمانية كانت هي الأخرى توجد في المنفى ، لكن أحداً منها لم تكن مضطرة الى البقاء كل هذه الفترة في المنفى كجريدة كردستان. لقد صدر منها خمسة أعداد في مدينة القاهرة ، وصدر من العدد  السادس الى العدد التاسع عشر في مدينة جنيف، ثم عادت  الى القاهرة لتصدر الأعداد من العشرين الى الثالث والعشرين، وصدر العدد الرابع والعشرون في لندن، كما صدر العدد الخامس والعشرون الى العدد التاسع والعشرين في مدينة فوكستون في شمال إنكلترا ، وصدر العددان  الثلاثون والحادي والثلاثون في جنيف مرة أخرى. ان جولة جريدة كردستان هذه استغرقت 45 شهرا و 22 يوما ، وفى كل هذا الوقت صدر منها 31 عدداً بدلا من 96، وقد اعتذرت الجريدة من قرائها عدة مرات لأنها لم تستطع إصدارها في وقت منتظم.
وقد شكلت الجريدة عقدة لدى السلطان عبدالحميد وزمرته وتظهر محتويات أعداد الجريدة التي صدرت في القاهرة كيف ان رجالات السلطة كانوا يتحاشون بمقداد بدرخان ويظهرون  له العداء  وكيف ان الأمر قد بلغ حداً ان يطلبوا من السلطات المصرية تسليمهم  مقداد بدرخان (كمجرم) ولعل هذا هو السبب في اضطرار  البدرخانيين الى نقل جريدة كردستان الى أوروبا.
 كان  احد  أسباب حقد السلطان عبدالحميد على عبدالرحمن بدرخان هو علاقته الوثيقة بجمعية تركيا الفتاة، وهذه العلاقة تبدو جلية في المقالات التي كانت تنشرها جريدة (كردستان)  وكان عبدالرحمن بدرخان احد المشاركين في المؤتمر الأول لهذه الجمعية عام 1902 والذي عقد في باريس ، وكان عبدالرحمن بدرخان ينشر أيضاً مقالات في صحيفة (عثمانلي)" الناطقة بلسان الجمعية. وعلاوة على ذلك ، فإن أعداد جريدة (كردستان) التي نشرت في أوروبا طبعت في مطابع جمعية تركيا الفتاة ويظهر اسم المطبعة علنا على تلك الأعداد. والظاهر أن تلك الأسباب كانت كافية لمنع دخول صحيفة كردستان الى الداخل.
 ولكن يستحيل إخماد صوت المناضل الحقيقي ، وطبقا لهذه القاعدة فإن صحيفة "كردستان" استطاعت ان تؤدي دورها بنجاح تام ، وحسب ما كان ينشر في الجانب الأيمن من اسم الجريدة فإن صاحب امتياز الجريدة كان يرسل عند إرسال كل عدد (2000) نسخة منها لكي  توزع على الناس مجاناً، ولا يستبعد أن يكون البدرخانيون قد لجأوا الى المناضلين الأرمن والأتراك من اجل نجاح هذه المهمة ، وكانت عملية إرسال الجرائد المناهضة للسلطات الى داخل الوطن أمراً شائعاً في تلك الأيام، ولكن أصحاب تلك الجرائد يعتمدون مختلف الحيل لتنفيذ مهمتهم تلك . كانوا أحياناً يصنعون جرائدهم داخل  مطبوعات تحمل  صور السلطان أو تحوي مقالات تمتدحه ، وكان الصحفيون العرب يعتمدون نفس الحيل لخداع  العثمانيين أو الإنكليز أو رجالات الخديوي، وقد لجأ أحدهم الى تغيير اسم صحيفته عشر مرات لكي يخفي أمره  وتستطيع صحيفته  من الدخول الى الوطن.
لاشك أن البدرخانيون قد استطاعوا إيصال صحيفة (كردستان) الى رؤساء العشائر والمثقفين  بالوسائل الممكنة  ويبدو من أعدادها أنها كانت تصل الى المناطق الكردية وأجزاء أخرى من الدولة العثمانية. وتشكلت علاقة وثيقة بين الجريدة والمثقفين الكرد، ويشير مقداد  مدحت بدرخان في العدد الثاني من (كردستان) الى رسائل وصلته من ( بعض الأمراء والاغوات الأكراد) يطلبون منه نشر  أبحاث حول (الوضع الحالي للأدب الكردي). وينشر في العدد الثالث رسالة أحد كرد الشام  يذكر كيفية وصول جريدة (كردستان) إليهم  وكيف أنهم قبلوها فرحاً ، وفي خاتمة الرسالة يذكرون مقداد مدحت وآباءه  بالخير. ويثني القارئ  ( سيد طه بوطي" من منطقة (أدنه)  في العدد الخامس على الجريدة ويطلب إرسال المزيد من أعداد الجريدة لأنها لم تكشف غليلهم ولان عدد سكان المدينة من الكرد في ازدياد وان  10 آلاف الى 15 ألفاً من الكرد  يقصدون المدينة كل عام واغلب هؤلاء يفضلون البقاء فيها . ونشرت  في الأعداد التالية رسائل وردت الى (كردستان) من أهالي مدن ماردين  ودياربكر والموصل وأماكن أخرى. ونشرت في الصفحة الرابعة من العدد 63 قائمة بالنقود التي أرسلها المشتركون في الصحيفة من مدن دياربكر والسليمانية وأدنه.
 ويبدو ان صحيفة (كردستان) قد اكتسبت شهرة في الخارج أيضاً، ويذكر عبدالرحمن بدرخان  في العدد الثالث عشر ما يأتي: (لقد اشترك في جريدتنا منذ صدورها أجانب مثل الألمان والنمساويين والإنكليز)  ويضيف ان من بين المشتركين شخصا ألمانيا اسمه (مارتن هارتمان) يجيد اغلب لغات الشرق، وانه يريد تعلم اللغة الكردية بالتعاون معه  ولا يستبعد ان تكون الأعداد (26) المحفوظة في مكتبة ماربورك الألمانية هي نفس الأعداد التي كانت قد أرسلت الى العالم المعروف  هارتمان.
ويصعب الآن الحصول على أعداد الجريدة فبالإضافة الى الأعداد الستة والعشرين  المحفوظة في مكتبة ماربورك الرسمية، والتي نشرها الدكتور كمال فؤاد  بجهاز الاوفسيت و (18) عدداً ، صدرت عام 1899، وهي محفوظة في المكتبة الوطنية في أنقرة ، وعدد واحد محفوظ في مكتبة الاستشراف السوفيتية في لينينغراد،  يوجد في مكتبة المجمع العلمي الكردي  العدد الخامس  والصفحتان الثالثة والرابعة من العدد الثالث، والأول مطبوع على ورق أخضر رقيق والثاني على ورق أصغر ، ولا يستبعد وجود أعداد أخرى من الصحيفة في أماكن أخرى.
 لقد بذل رجال السلطان جهوداً كبيرة مع البدرخانيين لإقناعهم بالكف عن إصدار صحيفة كردستان ، وقد ذكرنا سابقا ان السلطان كان مستعدا لفعل أي شيء من أجل كسب معارضي الخارج الى جانبه، وقد نجح في مسعاه الى حد ما ، واستطاع كسب ود بعض القياديين وبعض الصحف ومنها جريدة (مشورت) التي كانت جمعية تركيا الفتاة  تصدرها في الخارج.
لم نستطع التأكد لحد الآن من كيفية توقف صدور صحيفة كردستان ، ويذكر رامروز أن مندوبي السلطان استطاعوا عام 1904 من إقناع عبدالرحمن بدرخان بالتوقف عن إصدار جريدته ، ولا يستبعد أن يكون توقف الجريدة نتيجة لذلك ، لكننا يجب ان نذكر بعض الوقائع للتاريخ ، فالعدد الأخير صدر في نيسان عام 1902 وليس عام 1904. وكان عبدالرحمن بدرخان في ذلك الوقت في مقدمة معارضي السلطان وكان قد رجع تواً الى جنيف بعد حضور المؤتمر الأول لمنظمة تركيا الفتاة ، ولا يستدل من صحيفته إنه انحرف ولو قيد أنملة عن مسار الحركة الكردية،  لذا لا يستبعد ان يكون سبب توقف صحيفة كردستان أسباباً مالية أو بسبب ضغوط ازلام النظام، أو لأسباب سياسية أخرى.
هذه ، باختصار هي قصة ولادة أول صحيفة كردية والمشاق التي صادفتها إثناء صدورها،  ولا اعتقد ان أحداً من الصحفيين المنصفين لا يعتبر  هذه بداية  مضيئة ذات عبر، ويبدو جلياً من هذه البداية  ان تطور الصحافة الكردية  يعتمد كثيراً على مقدار الحريات الديمقراطية التي تمنحها الحكومات التي  يعيش في ظلها الشعب الكردي، وهذا أيضاً هو السبب في أن أية صحيفة كردية أخرى لم تصدر في تركيا حتى اندلاع  الثورة في تركيا عام 1908.

*مؤرخ وباحث كردي يقيم في بغداد.





أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=239