في الطريق المتعرج إلى السليمانية 5- السليمانية والمنتظرون أهلاً :
التاريخ: الثلاثاء 22 ايار 2018
الموضوع: اخبار



ابراهيم محمود

توفّر الغربة أحياناً فرصاً لحياة لم تكن تحلم بها، إنها بمقدار ما تعمّق في المرء إنسانية غير مسبوقة، فإنها تهبُه إرادة التشبث بالحياة أكثر، من خلال أناس ما كان من الممكن أبداً لقاؤهم، أو الاتصال بهم دون فضيلة هذه الغربة، فهي انجراح، ولكنها زهو روحي كذلك، وللمدن أدوار في إيجاد مثل هذه الفرص، أعني لقاء وجوه وهي تصبح أكثر من كونها وجوه صداقة، أي : أهلية تكون، كحال السليمانية، حيث تنتسب إليها زوجة ابني أوليس وهما الآن في بروكسل.


في الشرق عموماً، وبالنسبة للكرد ضمناً، لا يكون الزواج لقاء جسدياً فروحياً بين شخصين، بين رجل وامرأة، وإنما عقْد قرابة، نسابة، ففي مفهوم الصهر، المصاهرة، ما يشي بنوع من التحويل في العلاقة بين طرفين، كما لو أننا في إطار معادلة ، وهي اجتماعية هنا، يصبح كل طرف معنياً بالآخر، مأخوذاً به، قوة ود، وفاعلية تقدير، وعلاقة محبة.
ولم تكن زيارتنا – عائلتي وأنا – إلى مدينة كردية ذات باع سياسي وثقافي معتبَر إلا تعظيماً لهذا النوع من وشائج القربى، سوى أن علي التأكيد على نقطة في غاية الأهمية، كاعتبار وجداني واجتماعي، وهي أن " أهلنا " الجدد " السورانيين " كما هو شائع، فاقونا بفضل أكثر من زيارة إلينا ونحن في دهوك، شعوراً منهم أن وضعهم يساعدهم أكثر في زيارات كهذه.
في الحالة هذه، تتلبس مدينة الأهلة قيمة جمالية أكثر، وتغدو معروفة قبل أن تعرَف عن قرب، حيث إنها توفّر الكثير من الجهد للتعرف عليها، فلا تعود العلاقة بين " لحم ولحم " وإنما يصبح الحجر والتراب والماء والشجر والاسفلت نفسه في امتداد هذه الإلفة المؤرَّخ لها زماناً ومكاناً.
في نطاق أدبيات الاستقبال، يمكن قول الكثير في مظاهر الحفاوة هذه التي تحرّر المرء من مخاوفه، أو من الطابع الرسمي للزيارة، كما لو أن نسابة الدم، بمجرد أن تبداً، من حيث الأثر، حتى تحيل كل ما له صلة بالمكان إلى دائرته، وهو ينبض حياة. هكذا كان شعورنا، شعوري أنا لحظة استقبالهم لنا، رغم أنني حللت في هذا البيت أكثر من كوني ضيفاً سابقاً، من خلال مشاركات لي في أنشطة ثقافية هي علامة فارقة للسليمانية، ولكن الضيافة العائلية تحمل بصمة اعتبارية أخرى، حيث البعد العائلي يصبح أكثر احتواء بالقيمة، بغبطة روحية.
أشير هنا إلى " هوجين " الموظف، وبرتبة ضابط في الداخلية، ومن جيل ابني أوليس" تولد عام 1986 "، كان خفيف الروح، مظهِراً كل ما يمكن طمأنتنا بأننا أهل إلى جانب أمه الأثير، وزوجته، وأخيه " هريم " الموظف والضابط هو الآخر في الداخلية وزوجته بالمقابل، فعائلتهم صغيرة، ووضعهم المادي متوسط، وقد استشهِد الوالد منذ أيام السيء الصيت صدام حسين، ومن النادر وجود عائلات كردية هنا في الإقليم دون وجود من لم يستشهد، أو يكون من بين ضحايا طغيان النظام العراقي السابق .
هذا العمق الأهلي تأكَّك من خلال اهتمامهم المضاعف بالعائلة التي كانت صدمتها بمشاهدات الطريق بالغة الأثر، أقعدتها في البيت على مدى يومين، وعرْضها على الدكتور، وتأسفهم لما جرى، وفي الوقت الذي يجب التركيز على مدى تفرُّغ هوجين لي، ونحن نتنقل بين أمكنة لها تاريخها في السليمانية. وتلك ترجمة حيّة ومباشرة، أولاً، للاحتفاء بالضيف، وثانياً، للافتخار بالمدينة: مدينتهم بالذات. والسليمانية جديرة بحب وتقدير كهذا، كما تحدث عنها كثيرون تاريخاً وسياسة وشعراً: محمد أمين زكي بك، عباس العزاوي على الأقل.
تلمست في حيوية هوجين هذا التعلق بالمدينة، ومعرفته المسبقة أيضاً على أنني أريد رؤية هذه المدينة في الأماكن التي تستحق الرؤية: المشاهدة أكثر من غيرها. من حيث المبدأ، تستحق السليمانية بكل أحيائها، ومحيطها الجبلي عموماً، وساحاتها وأسواقها الشعبية.... أن تُرى، ولكن ضيق الوقت لا يسمح بذلك.
أحسب أن سيرنا معاً في عصر يوم جميل " الأربعاء، 9-5/ 2018 " في الشارع الطويل الذي يؤدي بنا إلى السوق " الشعبي، كان متجاوباً مع هذه الرغبة. ثمة وجوه قديمة وحديثة في لبسها، وتنوع لغات، ثمة معروضة جديدة تماماً، وأخرى قديمة " انتيكا " وحتى الكتب فإنها تدخل في هذا السياق، لكن تبقى رؤية الجامع الكبير في السليمانية، وهو الأقدم فيها من أساسيات الرؤية، وأعتقد أن هذا الجامع يحتاج هو وحده إلى كتاب كامل يغطي تاريخاً يتعدى المائة عام، والذين صلوا فيه أو مروا به، مثلما أن مقهى الشعب المعمَّر منذ عام 1950، مثيراً للاهتمام، حيث يفاجأ المشاهد بكم كبير من الصور العائدة إلى كتاب وفنانين وسياسيين كرد وآخرين بالمقابل، وهي تغطي جدران المقهى، بينما أصوات لاعبي الشطرنج والورق حيث تتدخل سحب دخان الأركيلة والسجائر في المكان، وهي في بعض الحالات تحول دون رؤية دقيقة لتلك الصور، وقد أمضيت الكثير من الوقت مع هاتيك الصور، ملتقطاً صوراً بجوارها، وهكذا الحال مع شارع الشاعر الكبير " بيره مرد "، وفي الوقت نفسه، حين انتهى بنا بحديقة  الأم Parka daykê  "، ومفارقة الاسم، إنها الأم الكردية البطلة والشهيدة التي ولِدت في السجن في العهد الصدامي البائد، فالحديقة حلَّت بخضرتها ودلالتها على الحياة محل السجن ودلالته على الموت، وهو التعبير الأتم عن إرادة الكردي في البقاء، وتشبثه بالحياة، ورؤية الأم الحاملة لصغيرها وسط الخضرة المرونقة مبعث للروح المجهدة وإنعاش لها بعمق طبعاً .

أمام جامع السليمانية الكبير

أنا وهوجين ضمن حرم جامع السليمانية الكبير 

أول ما تقرأه عن مقهى الشعب لحظة الدخول إليه من جهة اليسار

لقطة داخل مقهى الشعب

لقطة أخرى من مقهي الشعب، وتظهر صورة لأدونيس في الخلف

حديقة الأم

 






أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=23738