مواقف ولدت من رحم عفرين
التاريخ: الثلاثاء 01 ايار 2018
الموضوع: اخبار



ماجد ع  محمد 

"الحياة: موقف، وكلنا سنموت ذات يوم.. ولكن المواقف لا تموت"
محمد الرطيان

لا ريب أن المواقف ستبقى تظهر وتتفجر مع تجدد جريان مياه الحياة، وتتجدَّد بتجدُّد نبضها، وطالما تدفق نهر الحياة بالأوادم، هذا يعني بأن المواقف المشرِّفة أو المخزية في تجدُّدٍ وشبابٍ دائمين، وكما تظهر المواقف القميئة من لدن بعضهم، تنبعث مواقف بهية جديدة لآخرين في مختلف أصقاع العالم، ليضاف إذاك الجديد القيّم إلى التراث البشري المكتوب أو إلى الذاكرة الشفهية لشعبٍ أو فئةٍ أو ملةٍ من الملل الحية، وقد ينظر للوهلة الأولى إلى موقف ما كأمرٍ بديهي واعتيادي لدى البعيدين عن مواقع الحدث، ولكن عند معرفة سياقه والظروف التي ولّدت تلك المواقف سينظر وقتها إلى الموضوع باحترام أكثر وربما بانبهار.


وبخصوص تدوين المواقف التاريخية الجديرة بالقراءة والاطلاع، أذكر أن الكاتب السوري محمد صالح بعاج أعدَّ كتابين ضما بين دفتيهما مواقف مشرقة لشخصياتٍ إسلامية سياسية ودينية وعسكرية، شخصيات حظيت بمن يتتبع سيرها ويكتب عنها، أو يؤلف الكتب عن إشراقاتها، أو يتبنى نشر أقوالها وقصصها بين الناس، إلا أني في هذه المادة القصيرة سأورد مواقفَ حيّة لم ترد في الكتب وهي لشخصياتٍ راهنة، شخصيات لا تنتمي إلى أية جهاتٍ سياسية أو سلطوية هنا أو هناك، مواقف لأناسٍ من بسطاء المجتمع، ولكن مواقفهم تشير إلى القيم الاجتماعية التي ترعرعوا في ظلالها وغرفوا من معينها وتطبعوا بها عفو الخاطر ومن غير تكلف، وسأذكر اسم أحدهم ولكني سأمتتع عن ذكر اسم غيره، وذلك حرصاً عليهم بحكم إقامتهم في عفرين الغير آمنة في أغلب النواحي حتى الآن على أقل تقدير.
ومنهم على سبيل الذكر عيسى قره جول (أبو فهد) وهو مواطن من سكان قرية صاتيا، إذ أنه في يوم النزوح الأكبر من عفرين باتجاه بلدتي نبل والزهراء وخشيةً على حياة عائلته، توجه أبو فهد مع بعض اخوته ورجال ونساء قريته كغيره من أغلب أبناء المنطقة صوب المناطق الآمنة، محاولاً الخروج من المنطقة إلى حين الانتهاء من المعارك، على أمل العودة لاحقاً الى قريته التي لجأ إليها منذ أكثر من 4 سنوات نازحاً حينها إليها من بيته في حي الأشرفية بمدينة حلب، إلا أن حاجزاً لوحدات الحماية الشعبية منع أبو فهد وعائلته وأقرباؤه من الخروج، وحاول عناصر الحاجز إغلاق الطريق من خلال بلدوزرٍ جيء به لتكويم الأتربة على الدرب حتى يمنعوهم من الخروج، وحين انهمام التركس بحمل التراب، توجّه أبو فهد وبكل شجاعة قال لمن كان على الحاجز اطمروني بالتراب ولا تمنعوا الناس من الخروج، قائلاً: أنا مستعد لأن أدفن تحت التراب ههنا، ولكن شريطة أن تسمحوا لعائلتي ولكل هؤلاء الأبرياء بالعبور، حيث كان أبو فهد على استعدادٍ لأن يضحي بحياته كرمى إنقاذ حياة أهله وناسه وأترابه.  
وموقف آخر بدر من شخص في إحدى قرى منطقة شيراوا بعفرين، وهو حقيقةً يُعتبر عدواً بنظر أصحاب الأيديولوجيا الأوجلانية التي غدا حال أغلب المبتلين بها، كحال المدججين بالعقيدة الدينية التي لا يقدر المرء الفكاك من سطوة هواجسها بسهولة، إذ أنه وبعد أن سيطرت الفصائل المسلحة على كامل منطقة عفرين وراح بعضهم ومن باب الانتقام أو كحجة من الحجج التي يسوقها كل من ينتزع منطقة ما في سوريا من جهة عسكرية أخرى، وذلك بالبدء في وضع اليد على ممتلكات كل من كانوا محسوبين على الجهة التي تقهقرت، حيث جاؤوا بسياراتهم لنهب كل محتويات منزل شخصٍ اتهموه بالانتماء الى حزب الاتحاد الديمقراطي(PYD)، وذلك حتى تكون الحجة قوية وشرعية لسلب ممتلكاته، إلاّ أن أحد الجيران من أبناء القرية ذاتها، ممن كانوا على خلافٍ سياسيٍّ دائم مع صاحب البيت، توقف أمام العناصر وقال لهم اعبروا على جسدي ومن بعدها اسرقوا ما يحلو لكم من ممتلكات الرجل، قائلاً لهم: أنتم اليوم هنا طارئون وغداً سترحلون من هذه الديار كما رحل غيركم، بينما جاري في القرية ومهما اختلفت معه سياسياً، إلاّ أنه سيظل جاري للأبد، ولا أقبل بأن تُنهب ممتلكاته أمام نواظري وأنا أتفرج عليها. 
وفي ناحية جنديريس سجّلت إحدى حفيدات المطرب الفلكلوري الراحل جميل هورو موقفاً مماثلاً، وذلك عندما رأت عناصر مدججين بالسلاح يهمون بخلع باب منزل أحد اخوتها، إذ وقفت بوجههم قائلة لهم: بأي حق تقتحمون أبواب المدنيين بدون استئذان أصحابها، وبأية قيم شرعية وأنتم من سكان محافظاتٍ أخرى تستولون على بيوت الناس هنا، مضيفةً لن تدخلوا هذا البيت إلاَّ على جثتي، إذ كان المسلحون الذين لا يعرف أهل البلدة من أية بقعة جغرافية قدموا، وبكل فجاجة راحوا يسعون للاستيلاء على بيوت أهالي المنطقة بفضل السلاح الذي يحملونه، ومن يدري فلربما جاء تصرفهم بناءً على رخصة الانتهاك التي أتوا بها من جهاتٍ ما تشرف عليهم! وللأسف فإن ذلك السلاح والتباهي به والتعويل عليه في فرض الرأي والإرادة بالقوة والإكراه في عموم مناطق سوريا، وذلك سواءً أكان في مناطق النظام أم في مناطق نفوذ حزب الاتحاد الديمقراطي أم في مناطق نفوذ المعارضة لم يعد يذكّرنا إلاَّ بالحكمة السومرية القديمة:"الهمج والرعاع، لا يسيرون إلاَّ وأسلحتهم بأيديهم".
كما يطيب لنا ههنا ذكر موقف شخصٍ آخر محسوب على حزب الوحدة الديمقراطي الذي يترأسه محي الدين شيخ آلي، وهو الحزب الذي يحوم في فلك حزب الاتحاد الديمقراطي  (PYD) ولكن الرجل رفض أولاً أوامر الحزب ولم يخرج من المنطقة بالرغم من أن عناصرَ من إحدى الفصائل دخلوا منزله وعاثوا فيه الفساد، إلاَّ أنه لم يقبل بأن يغادر المنطقة كلياً بالرغم مما تعرض له، وقضى أياماً وليالٍ طوال متنقلاً في البراري، بل وساعد العشرات من العوائل للعودة إلى قراها، وفوقها طالب كل أقرانه في الحزب برفض أوامر الحزب بخصوص ما يجري في عفرين جملةً وتفصيلا، قائلاً لهم: قراكم وزيتونكم وبيوتكم ومعزاتكم أهم من كل سكرتارية الأحزاب وتنظيرياتهم الكاذبة، طالما كانت كل أقوالهم متناقضة مع الحقيقية القائمة على أرض الواقع. 
وفي الختام سأورد موقفاً آخر في عفرين حيث يُعاد من خلاله تذكر واستحضار المناخ الذي جسّده الكاتب الفرنسي جان بروليه (ڤركور) في رواية صمت البحر، وهي الرواية التي نُشرت سراً في باريس عام 1942، ومن كل بد أن قراء الأدب عامة والروايات الأجنبية بوجهٍ خاص ربما يعلمون بأنه ورغم توقيع فرنسا كدولة معاهدة الاستسلام مع ألمانيا، إلاّ أن المناخ الشعبي لم يستسغ وجود الألماني بينهم، وظل المواطن الفرنسي يعبّر عن سخطه ونفوره من الذين دخلوا منازلهم رغماً عنهم؛ والمماثلة بين ما ورد في سياق رواية فيركور وعفرين، أن سكان إحدى قرى منطقة عفرين أعلنوا مقاطعة عوائل أسكنتها إحدى الفصائل  العسكرية رغماً عن أنف أهل القرية في بيوت أبناء الضيعة، إذ باعتبار أنهم مدنيون ولا قدرة لهم على المنع أو فعل أي شيء مع المسلحين، ولا بمقدورهم حتى تقديم شكوى، أو الإعلان عن رفضهم لوجود تلك العوائل الغريبة بينهم، لجؤوا إلى لغة المقاطعة الصامتة كما هي حالة السكون المطبق في رواية فيركور التي جاءت تحت عنوان صمت البحر، إذ أن أهل القرية وللتعبير عن رفضهم للظرف القاهر وللحالة التي فرضتها الجهات العسكرية على القرية، لم يكن بمقدورهم التعبير عن رفض ذلك الواقع القائم إلاَّ من خلال مقاطعة الغرباء الذين جاؤوا بمعية الفصائل من ريف دمشق بينما الأهالي على مرمى حجر من المنطقة ولا تُفتح المعابر أمامهم للعودة، بينما عوائل من خارج المنطقة وبرعاية الفصائل تستولي على منازل أصحابها الذين إلى تاريخ كتابة المقالة يُمنعون من العودة إلى قراهم وبيوتهم لأسبابٍ لم تفصح عنها إلى الآن لا الدولة التركية، ولا حتى مسؤولي الفصائل التي دخلت المنطقة بمعية واذن الجيش التركي.







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=23671