صدام حسين (قديساً)!!
التاريخ: الجمعة 20 تموز 2007
الموضوع: اخبار



  فوزي الاتروشي

   البداوة والتصحُّر الفكري و العقلي لا تُختزل في المكان فحسب، لتعني الترحال و التنقل المستمر بحثاً عن العشب و الماء و الكلأ، و انما تنسحب على الزمان أيضاً لتعني التعلق والتشبُّث المتواصل بالماضي و بالقيم المعتَّقة خلف قدسيات عفى عليها الزمن، و البداوة تستفحل لتصبح عارضاً نفسياً مرضياً يبعث على القلق الدائم و اللاستقرار و صعوبة الاندماج في الحياة العصرية بتغيراتها تتواتر بشدة مطلع كل نهار.


و بدائية الفكر ظاهرة واسعة الانتشار بين مثقفين عرب لا يعثرون على هوية خاصة بهم منتقاة من السطح السياسي او الفكري العربي لا يشكلون قدوة و لا يملكون في مفاصل التاريخ إلا سمعة الاستبداد و المزاج القمعي الذي لا يهدي للحياة البشرية إلا معاني الموت و الدمار و التخلف و التشاؤم و الانغلاق على الذات و اختلاق حالة عداء و خصام دائم مع الآخرين. و لعل الشاعر و الملحن الليبي (علي الكيلاني) و المطربة (أمل الشبلي) اللذين أصدرا ألبوماً غنائياً بعنوان (القديس صدام) أبلغ مثال على ما نقول، فهذا الشاعر تجاوز ارثاً فكرياً عمره آلاف السنين يؤكد ان القديس او القديسة هو الانسان الذي يحمل أقل قدر من الخطايا و أكبر قدر من الفضائل وهو الذي يلتزم حرفياً بالوصايا العشر المسيحية و التي جاء الاسلام ليجدد الالتزام بها كتعريف للانسان الصالح. فأين قدسية صدام حسين الذي امتهن القتل منذ ريعان شبابه و خاض حروباً مع الجميع و دمَّر الوطن العراقي و استغل الدين في حملته الايمانية المزعومة اشباعاً لجنون العظمة الذي بلغ به حد تأليه الذات ليقول ذات يوم أحد كتاب السلطة "ثمة قمتان في التاريخ العربي، احداهما الرسول الكريم محمد (ص) و الثانية صدام حسين". لسنا هنا في وارد تعداد جرائم و فظاعات الدكتاتور فهي باتت بديهيات يعرفها اي طفل في العالم. ولكن الشاعرالليبي الغائب عن العالم و الغافل عن التعريف الجميل الذي أعطي للشعر في الفلسفة اليونانية، وهو الحق و الخير و الجمال يأبى ان يتوافق مع العالم و مع الله و مع قدسية كل الأديان و يصف صدام حسين بالقديس، و لا يسعنا إلا ان نقول ان الشاعر (علي الكيلاني) و المطربة (أمل الشبلي) أبعد ما يكونان عن الخير بكل تجلياته و عن الحق بكل هيبته و عن الجمال بكل ما له من سحر و اغراء و رسوخ في عواطف الانسان. ان صدام حسين رمز الحقد و الكراهية و القبح يستحيل ان يصبح قديساً إلا اذا كانت القداسة عند بعض مثقفي العروبة تعني تدمير العالم من أجل مصالح أنانية و نزعات عدوانية، و العروبة التي تركض خلف دكتاتور العراق أشبه بجثة جامدة لا تختلف عن جثة طاغية العراق التي لم يمش خلفها أحد.
   و الأغرب من كل ذلك ان هذا المتثاقف العربي يعمد الى تشبيه صدام بالثائر الأممي ارنستو ﭼـي ﮒـيفارا، و البطل العربي عمر المختار و رائد الثورة الفلسطينية ياسر عرفات، دون ان يدرك انه يعقد مقارنة بين الثرى و الثريا و بين النار و النور و بين الخير المطلق و الشر المطلق. ان ﭼـي ﮒـيفارا الثوري المتواضع و الزاهد في مباهج الحياة رحل و هو يحلم بالخبز و الحرية لأمريكا اللاتينية و مازالت صورته الأكثر مبيعاً في العالم بين الشباب و القمصان التي تحمل اسمه و صورته تحظى بحب و اعجاب العالم كله فهو فعلاً ايقونة الثورة الدائم ضد الظلم أينما كان، وفي عام 1995 حين زرت (كولومبيا) كنت أشعر ان هذا الرجل الأممي لايزال حياً و سر ذلك انه زهد في الحياة و اشتاق الى الخلود في ذاكرة البشرية و كان له ما أراد، و عمر المختار دخل الذاكرة العربية و العالمية كرمز للبطولة و أملاً للتحرير و مثالاً لفضيلة "الجهاد" بمعناها و مغزاها الأصلي و ليس بمعاني هذا الزمان حيث الجهاد عبارة عن حزام ناسف و سيارة مفخخة جبانه لا تقتل إلا الاطفال و النساء و المواطنين العزل تماماً مثلما كان يفعل صدام حسين و علي حسن المجيد، و ما يفعله حثالات حزبهما مع التكفيريين هذه الأيام، و فاجعة (آمرلي) و من ثم فاجعة كركوك قبل أيام تؤكد كم كان صدام حسين و نهجه الفكري خسيساً لا قديساً كما يقول الشاعر الليبي البدوي و فنانة القتل و الحقد الأعمى، أما ياسر عرفات فهو رمز ثورة و مقاتل دؤوب من أجل قضية عادلة و هو أحد ثوابت الثورة الفلسطينية و قد عانى في كل حياته و لا سيما في السنوات الأخيرة ليحظى اليوم بحب شعبه و تقدير العالم سواء اختلفنا او اتفقنا مع بعص مواقفه فرحمةً بـﮒـيفارا و المختارو عرفات أيها المتثاقفون العرب لأنهم يتململون في قبورهم حين نشبِّه صدام حسين بهم.
   ان الشعراء و الفنانين العرب لديهم في التاريخ العربي الكثير من الرموز السياسية و الفكرية لاستلهام معاني البطولة منها و لجعلها قدوة للشباب العربي، و لكن لان بعضهم ليس أصلاً شاعراُ او فناناً فانه يهوى الشهرة الرخيصة ولو سقط في الحضيض فالمهم ان تلوكه الألسن، و في التراث الشعبي الكوردي يقال ان رجلاً أراد الشهرة في قرية كوردية فلم يجد طريقة سوى التبول في ينبوع الماء الذي يشرب منه الناس وفي اليوم الثاني كان هذا المغمور حديث الناس كلهم. و حكاية هذا المتشاعر الليبي المجهول لا تختلف عن قصة القروي الكوردي.
كم كان الشاعر "عمر ابو ريشة" صادقاً و حزيناً حين كان يقول:
أُمتي هل لكِ بين الامم
منبر للسيف او للقلم
أتلقّاكِ و طَرفي مطرق
خجلاً من أمسكِ المنصرم
   وليت الشاعر حياً الآن ليردد معنا ما أشبه اليوم بالبارحة، فالامة التي لام أمسها لاتزال الى اليوم تعاني من زعماء و رؤساء التجزئة و التخلف و تقسيم الوطن العربي الى اقطاعيات ملكية او جمهورية وراثية أقسمت أن لا تتفق. اما شعراء و مثقفي الردة و الظلام وهم كثيرون في العالم العربي مازالوا يرددون طبول الحرب الجوفاء و الأناشيد القومية الفارغة المعنى و يمشون خلف جنازة اسمها الوحدة العربية و يقتدون برمز الشر العالمي صدام حسين.
   و لا يسعني إلا أن أردد مع الكثيرين من الكتاب و المبدعين و المفكرين العرب الليبراليين التنويريين:
    يا أُمَّةً ضحكت من جهلها الأممُ







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=2325