الطفل الكردي بين التدجين والتهميش
التاريخ: الأثنين 25 حزيران 2007
الموضوع: اخبار



أحمد اسماعيل اسماعيل

قد لا نختلف على العلاقة الجدلية التي تربط بين الوطن والمواطن،وبين الفرد والمجتمع،فلا وطن حر بلا مواطنين أحرار- كما أكد فولتير- ولا فرد سعيد في مجتمع يسوده القهر و يحكمه الاضطهاد .لأن السعادة والقهر نقيضان، و حرية الوطن وحرية المواطن مترادفتان، ووجه كل واحدة منهما وجه للأخر، تعكس سماته و ملامحه دواخل  الطرف الآخر.هذه الحقيقة أو القاعدة، إن صحت تسميتها بذلك - وجدت لها تطبيقات مختلفة، فقد طبقت على الكادح - أو على طبقته – و طبقت على المرأة، وعلى المثقف ...


وعلى آخرين غيرهم. وقد أُستثنى الطفل -عن جهل، أوعن تجاهل من أية تطبيقات لهذه القاعدة,في الوقت الذي يشكل فيه الطفل الطرف الأكثر صلاحية في شراكته مع الوطن أو المجتمع,لما يمتاز به من خصائص إدراكية ونفسية تعكس بصدق لا مراء فيه حقيقة الوطن أو المجتمع. وهذه غاية أولى في معرفتنا لواقع الطفل, إلا أن الغاية الأهم –وهي غاية سامية –تتجاوز مجرد المعرفة:معرفة واقع المجتمع من خلال معرفة واقع الطفل, إلى فعل التغيير: تغيير الاثنين الذي يجب أن يبدأ من الطفل وبالطفل، وخاصة في الواقع الكردي؛ لأن الطفل أول وأعظم ثروة وطنية وإنسانية, فمن اجله تزرع الأمم وتحصد,ومن أجله تبني وتحارب,فهو إن زُرع في تربة صالحة أثمر محصولاً وافراً لا ينفد,وإن ُصنع بإتقان ملأ الوطن  مصانع ومعامل, وإن بُني بصلابة أحال كل بيت في الوطن إلى  قلاع منيعة ، يشع في داخلها الأمل المنشود.إلا أن هذه الثروة لا تتحقق, ولا تؤتي ثمارها المرجوة من دون طفولة حقيقية يعيشها الطفل بكل ما تعنيه الطفولة من بساطة وعذوبة وانفتاح وانطلاق .. في ظل عناية عطوفة وواعية. غير أن هذه الحلاوة و الجمالية لا تنقلب إلى نقيض إلا في مجتمع مستلب نخر القهر روحه كالمجتمع الكردي, حتى أمست الطفولة فيه -أو كادت- أشبه بمرحلة الشيخوخة, نتيجة عجز الطفل ولا فاعليته و هامشيته في عالم الكبار القائم على التنافس و المزاحمة بكل الوسائل المتاحة من أجل تحقيق الرغبات و المصالح أو توكيد الذات -إن بهذا الشكل من التوكيد أو ذلك- هذا التهميش , إضافة إلى عدم قدرة الطفل على توكيد الذات -الحاجة النفسية الضرورية له- قد أورثه توتر عاطفي انفعالي هو أحد العوامل النفسية المؤدية إلى الانحراف و الجنوح,اللذان باتت مظاهرهما بالبروز و التجسد في سلوك عدد غير قليل من أطفالنا. ولذلك فإن المتتبع لحياة الأطفال الكرد لا يمكنهم بحال من الأحوال, تسمية مرحلتهم الحياتية الآنية بالطفولة, لأنها تفتقد إلى أبسط سمات هذه المرحلة الجميلة والعذبة والخالية من التعقيدات -إلى حد ما- في حياة الإنسان, كذلك الأمر ذاته بالنسبة للصغير الكردي الذي سُمي تجاوزاً بالطفل، بسبب معاناته القاسية التي لم تبق من خصائص ومعالم طفولته إلا على حجم جسمه وحسب. ولضرورة تجاوز ذلك, لا بد علينا جميعاً-بادئ ذي بدء- من محاولة جادة ودؤوبة لمعرفة و فهم ماهية هذه المعاناة و إشكالياتها المتعددة, وسنحاول في هذه السطور المتواضعة تلمس بعيض أسباب هذه المعاناة المستفلحة.
تدجين الطفل الكردي :
يقول المربي و المفكر البرازيلي باولو فرير:
"إن القاهر لا يستهدف في علاقته مع الآخرين سوى هزيمتهم بكل الوسائل المتاحة -العنيفة و المهذبة- القامعة و الأبوية."لاشك أن هذه الوسائل – ووسائل أخرى غيرها – ما يزال قاهرو الشعب الكردي يستخدمونها بإتقان وبراعة , بغية تشويه شخصية المقهور الكردي ,وإلغاء هويته القومية.. و بالتالي نفي وجوده الانساني وجعله جزءاً من ممتلكاته الخاصة. هذا المسعى الدؤوب من قبل الآخر-القاهر-قد فعل فعله في البنية النفسية و الاجتماعية للمجتمع الكردي بعمومه وفي نفسية أفراده بشكل خاص, وإن بهذا القدر و الشكل أو ذاك,مما أثر على وعيه وسلوكه على أكثر من مستوى و صعيد,حتى أمسى المغزو أو المقهور الكردي-في كثير من الأحيان- (ولكي يمارس حياته -يستبطن شخصية الغازي في داخله- وبذلك يمارس وجوداً يحوله من الطبيعة الإنسانية إلى مجرد شئ أو جثة هامدة)2. إلا أن هذه السياسة قد أثرت في الصغير الكردي أكثر مما أثرت في الراشد بسبب إمكانات الطفل الادراكية البسيطة, واستجابته السهلة لتمثل ما يقدم له من معارف وأخلاق وسلوك,إضافة إلى الفراغ الروحي الذي لم يسع أولي أمره-داخل الأسرة أو خارجها- إلى ملئه بما ينسجم ويناسب طفولته ويخدم ويعزز انتمائه الحقيقي ليصبح بمثابة الحصن والسلاح في صد غزو الآخر المتعدد الوسائل والأشكال - العنيفة والمهذبة – القامعة والأبوية ، بهدف زيادة قهر الطفل  و تدجينه في حظيرته – هذه الوسائل المتعددة – التي شوهت روح ووعي الطفل الكردي،قد جعلت منهما وعاءً ليس فيه سوى ما يحب القاهر ويشتهيه، وأولها الإحساس بالدونية تجاه كل ما يمت للآخر-القاهر-من وجود أو مظاهر حياتية, كالإحساس بالدونية تجاه لغة الآخر في بداية مرحلته العمرية الثانية 3-حين دخوله المدرسة-الصدمة التي سينتج عنها أولى مشاعر الاغتراب الروحي ، وفيها سيعتبر الطفل لغة الآخر لغة التمدن والعلم و القوة,مقابل لغته التي ستقتصر في نظره على مجرد حكي البيت والشارع, وستعززه أحاسيس أخرى مماثلة تجذر حالة الدونية في نفسه حتى تثمر وعياً وسلوكاً, كالرهبة من لغة الآخر التي لا تقهر, والافتتان بعاداته ومظاهر حياته اليومية, والإعجاب بشخصياته التاريخية و الوطنية البارزة وتعظيمها إلى درجة الاقتداء بها كمثل و قدوة له, بعدها لا يبقى للطفل من خيار في الحياة سوى استيطان شخصية الآخر و التماهي فيها؛ الهدف الذي وظف من أجله القاهر إمكانات مادية ومعنوية غير هنية, من وسائل مرئية ومسموعة ومكتوبة, ووسائل ترفيه وإغراء وتلويح بالعصا أو الضرب بها. وإذا كانت هذه الوسائل قد وظفها القاهر للهدف ذاته في تعامله مع المقهورين من أبناء جلدته, فإنه في استخدامه لها لقهر أبناء الكرد أشد مضاضة وأمضى,وخاصة في تهميشه لفئة غير قليلة من الأطفال الكرد التي لم تنضو في حظيرته, ولم تتمثل أعرافه, ولم تتماهى في شخصيته كغيرها من فئات أخرى.                               
وبسبب القهر الممارس عليها فإن هذه الفئة لم تنضو في كيان مجتمعها، ولم تتمثل قيمه و أعرافه منسلخة عن بيئتها و انتمائها القومي،متمثلة ببائعي الدخان واليانصيب والأغراض الاستهلاكية البسيطة وأجراء المطاعم والمقاهي وعمال سوق الهال..وغيرهم. وهو في علاقته المباشرة بهم إما أن يقوم على استغلالهم لمآربه الخاصة، أو أن يهمشهم دون مراعاة أو عناية، ويكتفي بإنزال العقوبات القاسية عليهم، إن هم وصلوا بانحرافهم إلى مرحلة تتجاوز رغبته، أو تسيء إلى مصالحه. وهو بهذا يدجن الطفل الكردي مادام قد أبعده عن انتمائه القومي،وشل قدرته وجعله لا يرى في هويته سوى لغته،أو لهجته،أو اسمه، دون أية معلومات، أو علامات كردية فارقة تحدد انتماءه، القومي، الأثني، الوطني.
تهميش الطفل الكردي:
من المعروف أن أكثر وظيفتين تكونان دعامة الأسرة- الخلية الاجتماعية الأولى- هما: الحماية، التي تعنى بالحاجات المادية للطفل من: مأكل، وملبس، ومسكن. والتربية، والتي تخص الجانب النفسي والعقلي والسلوكي للطفل، فتنمي وعيه ونهذب غرائزه وتسمو بأخلاقه.. ومن ثم توجه سلوكه الوجهة الصحيحة . إلا أننا في عنايتنا بأطفالنا قد اختزلنا العملية التربوية الأسرية في نطاق الوظيفة الأولى، وذلك بعد تهميشنا للوظيفة الثانية، نتيجة الوضع المعيشي السيئ لأغلب شرائح المجتمع الكردي، والجهل بأهمية وأولوية هذه الوظيفة، لنترك أمر تربيتهم لأكثر المربين سوءاً، بدءاً بالشارع والأعراف الاجتماعية المتخلفة، والمتطرفين من كل نوع وصنف، سياسي، ديني، عائلي، عصبوي.. وانتهاء بالقاهر بوسائله التربوية - العنيفة والمهنية - القامعة والأبوية، المحاكة حول روح ووعي الطفل الكردي بإتقان . وبسبب ظروف القهر والفقر فإن دوام وظيفة الحماية أيضاً قد بات مهدداً بالتراجع والزوال لصالح حالة أخرى غير صحيحة ، الأمر الذي جعل الطفل فيها يفتقد إلى أحاسيس الود والاستقرار والطمأنينة ، وبأنه عالة على أسرته، بل مدعو إلى مشاركة ولي أمره في تحمل الأعباء المادية المرهقة. فكثرت في الآونة الأخيرة ظاهرة تسرب الأطفال من المدرسة والخروج من البيت إلى الشوارع والأسواق في عالم المزاحمة والاحتكار،المحكوم بقانون سيادة القوة، الذي لا يحمي ولا يرحم صغير أو ضعيف، مما دفع بعض الأطفال-ومن أجل إثبات الوجود والاستمرارية في هذا العالم-إلى مجاراة هذا القانون وتمثل قيمه من خلال تقليد أبرز وجوهه، أو التماهي الكلي فيها من: لص أو بلطجي أو سمسار.. على هذا المستوى أو ذاك.
و مما لا شك فيه أن مسؤولية دوام هذا الحال لا يقتصر على الأسرة الكردية، التي تعاني ما تعانيه من أزمات ليس الفقر، أو الجهل، من أسبابه الرئيسة، فللأحزاب الكردية نصيبها الأكثر سوءاً في ذلك، التي لم تتبن ، أو تلتزم بأية أهداف آو مشاريع تربوية مناسبة وممكنة التحقق، على اعتبارها (المؤسسات ) السياسية المفترضة الواعية والقادرة -إن حاولت- على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من طفولة الطفل الكردي المهدورة، ولعل ما تفعله بعض هذه الأحزاب، أو ما تقوم به فرقهم الفلكلورية، لا يتعدى في حقيقة أمره، سوى استخدام الطفل من أجل إحياء بعض المناسبات ، لا خدمة له من خلال هذه المناسبات، أو غيرها.
ويطال الذنب ذاته المثقف الكردي أيضاً، وهو ذنب عظيم، على اعتبار المثقف هو ضمير الأمة، وحاستها السادسة والسابعة.. ففي الوقت الذي أدرك فيه الشاعر المعروف (أحمدي خاني) أهمية الإبداع للأطفال قبل عدة قرون خلت، فأصدر كتابه التعليمي (نوبهار) فإن المثقف الكردي، أو المعني بالشأن الثقافي- اليوم قد أهمل هذه الناحية الهامة والجوهرية، في كل ما ينتج من إبداع؛ أدب،فن، نقد، بحوث..الخ. وذلك على الرغم من استثمار القاهر للإبداع كأحد آليات قهر الطفل الكردي، تدجيناً، وتهميشاً , وتشويهاً.
لا شك أن هذا التهميش الممارس بحق الطفل الكردي من (ذويه) خاصة، ينبع عن جهل فادح بحقيقة الثروة المستقبلية التي سيشكلها طفل اليوم، وإن دوام هذا التهميش، الذي يتم التنكر لطفولة الطفل الكردي،ومعاناته،سيتعدى خطره الحاضر على المجتمع إلى المستقبل، لأنه قد يكون المربي ، أو السياسي، أو (المثقف) الذي لن يجود على أطفال الغد إلا بما خزنه في داخله من أفكار ومشاعر وسلوكيات سياسة التدجين والتهميش.
أنسنة الطفل الكردي :
إذا كان الإنسان-على حد تعبير كانط- (لا يستطيع أن يصبح إنساناً إلا بالتربية) فأن تربية القهر الممارسة بحق الطفل الكردي-تهميشاً وتدجيناً- قد أهدرت إنسانيته تماماً.
هذا الكائن المعذب، يحتاج منا, أول ما يحتاج, إلى إعادة تربيته, لأنسنته أولاً, وإعادته إلى عالمه الطفلي المفقود, إلا أن الرغبة وحدها لن تتحقق هذا المراد, ولن تكون المحاولة في واقع صاغت التربية فيه أولئك الذين يمسكون بزمام أموره بالأمر الهين أو المسموح به إلى درجة يتم فيها تجاوزهم, أو تحطيم آلياتهم التربوية. إلا أن التسليم برغبة وإرادة الآخرين يعتبر مشاركة له في ديمومة هذا الواقع, شئنا ذلك أم أبينا. ولعل أولى الخطوات تجاه أنسنة الطفل تبدأ بالتدخل في تربيته؛ بإعطاء قدر أكبر من الاهتمام لوظيفة التربية في الأسرة, التربية الواعية والمسؤولة التي ستبدأ بكسر حالة الإيهام التربوي التي تربط الطفل الكردي بالآخر, وعدم الاكتفاء بالتربية الأخلاقية المجردة التي قد تزيد من اغتراب الطفل الكردي في واقع مشوه. ومتابعة المثقف لسياسة القاهر التربوية لكشف آلياتها, وتقديم البديل الإبداعي المناسب, وإبلاء الأحزاب الطفل والطفولة اهتمامها اللائق من خلال توفير الأجواء المناسبة لتنمية قدرات الأطفال الموهوبين أولاً, في المجالات المختلفة, وتشجيع المبدعين في مجال الإبداع للأطفال من خلال إقامة المسابقات لنتاجاتهم, وتبني الجيدة منها, إضافة إلى وسائل أخرى ممكنة. إلا أن ما نفعله من أجل الأطفال يجب أن نقوم به معهم, فالتربية تعني فيما تعنيه-أن تحمل الكائن على الشعور بالمسؤولية أمام نفسه, وأمام الآخرين-وبإثارة مظاهر الوعي عنده، الوعي بنفسه, والوعي بما حوله..( وبقدر ما يعي نفسه ومكانته في المجتمع, بقدر ما يرتفع تدريجياً إلى الوضع الإنساني, فيرفض أو يختار أو ينتمي ).4 بعد ذلك نفكر معه, ونسعى من أجل إعادة تربيته,التربية التي تعيده إلى جذوره ومنبته الأصلي.

هوامش و مراجع :
1- د.على سعيد اسماعيل - فلسفات تربوية معاصرة-سلسلة عالم المعرفة-العدد 198حزيران1995ص207.
2- المرجع السابق ص207.
3- يقسم علماء النفس مرحلة الطفولة إلى مراحل أربعة:
- المرحلة العمرية الأولى: وتبدأ من السنة الأولى الثانية وحتى السنة الخامسة.
- المرحلة العمرية الثانية:وتبدأ من السنة السادسة وحتى السنة التاسعة.
- المرحلة العمرية الثالثة:وتبدأ من السنة العاشرة وحتى السنة الثالثة عشرة.
- المرحلة العمرية الرابعة:وتبدأ من السنة الرابعة عشر وحتى السنة السادسة عشرة.
وقد قسمها علماء نفس آخرون إلى مراحل خمس
4- سازال جان- الطفولة الجانحة-ترجمة: أنطوان عبده- منشورات عويدات  بيروت-ص.151  .







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=2206