حـذار وأنت في «كَوْر كُوسك»
التاريخ: السبت 09 نيسان 2016
الموضوع: اخبار



 ابراهيم محمود

كان لي موعد معتبَر في "معرض الكتاب الدولي للكتاب " في أربيل والذي كانت انطلاقته هذا العام " 2016 " في الخامس من شهره الرابع، فلي كتُب جديدة طُبِعت وأخرى أعيدت طباعتها، وعلي الإسراع إلى لقائها، مثلما تهرع للقاء صديق حميم حميم هو أكثر من بعض من روحك، وصنيع حلْمك وأملك وألمك وخيالك الفضاء، إنما بالترافق مع أحبّة: أصدقاء حيث تمتد ذاكرة وجدانيات وأخوانيات، تحت رعاية كتاب يتنفس خارج غلافيه، ليكون اللقاء كتاباً في انتظار تدوينه، وقد تركت دهوك ورائي منذ صباح الخميس الباكر في 7 نيسان، وهي بين جنبي تتنفس، ولعلَّها تتقدمني، ووجهتي أربيل، ولعلها " تُريْدر " الطريق " من الرادار " الممتد مسافة ساعتين ونصف الساعة تقريباً، ليتشكَّل كتاب للمكان الكردي عينه.


صافحتُ مجموعة كتبي الصادرة حديثاً، بلهفة من يمضه الشوق إلى " فلذات " روحه، الوجوه الأليفة المعنية بالكتب شملتها بنظرة محبة على وقْع الكتاب، حيث فضاء المعرض الواسع، في حاضرة " بارك سامي عبدالرحمن ". كان أول من التقيته صديقي المعرفي الذي لم ألتقه من قبل " ريبوار " الأكاديمي المعروف، تعارفنا بالصوت قبلها، وبفضل جميل كتابي. ونحن في سؤال منطلق وجواب مضاء، حتى كان قدوم الصديق والباحث فرمان بونجغ. لقد أقبل في موعده المحدّد تماماً، وقد كان ثمة أكثر من مصافحة أودعتنا مشتركاتٍ من الود، ليتسع بهو المكان أكثر، ونحن في الكافتيريا، ليصافح نظري نظرَ الصديق  الكردي " الائتلافي السوري " كاميران حاجو على وقع مفاجأة منعشة لروح أخرى... وآخرين أحبَّة كانوا قبل أن ألتقيهم وأحبة وأنا ألتقيهم، وبدا وكأن المكان اختفى بكل محتوياته، ليعرض كل منّا " مؤلفاته على الهواء مباشرة " التي تتخلل النظرات المتبادلة والدعابة " ملح الكلام "، و" هات وخود " يا كلام من هنا وكلام من هنا.. فلا أكثر ولا أعمق غوراً من دفق المأهول بهمٍّ جغرافيا عالم كردي مكابد.
كثير من الكلام، قليل منه، كما لو أننا اختصارُ كل شيء فينا وبنا، وكل شيء يحيلنا إلى معدنه السريع الاشتعال والتمدد..
ولقد خرجنا فرمان وأنا وابنه البيشمركي المتخَم بالشباب منيار إلى بحيرة أربيل المنفسحة بسخونة غير متوقعة، ولُقّمنا في شوارعها المديدة بدوخة حر مرفقه بزخ عرق في غير أوانه، وبالترافق مع أحاديث تخرجنا من صمتنا في ضوء المستجدات،
وكان علينا الدخول في سرديات الطريق صوب كامب " كَور كُوسك " ، حيث مستقر الصديق فرمان في سيارته التي وفَّرت تعباً كثيراً، طريق- لسان اسفلتي وجناحاه على مسافة تقارب الأربعين دقيقة ينبسطان بالأخضر حُرّ الهواء العليل والنقي، ونحن في انخفاض وارتفاع والتفاف، وعيناي على كل ما يمدنا به الطريق من العالم القائم في ذمّته .
في الطريق كان الصديق فرمان يمهد لما يجب علي أن أراه وأفك زمرته الاعتبارية، يمهد لتمهيد، فلا أكثر من الممكن الخوض في غماره، سوى أننا عندما اقتربنا كان يجب الصمت تحت سطوة المكان، عبر مرتفع أرضي وترابي، وحاجز اسمنتي تحسباً لأي طارىء مهدد لأهل المكان، كأن مساحة من الأزرق السماوي المتشقق طالعتنا بما هو متوقع في منخفض أرضي، كأن الأرض تشنجت وأصيبت بإغماءة في الرقعة تلك، وداخل ثلاثة أرباع دائرة تقريباً، تردَّد صدى الاسم " ها هو كامب : كور كوسك "، وجوه لا يخطىء النظر في قراءة إحداثيات مواجعها وفواجعها، كامب مُحتوىً ضمن سياق من الأسلاك مشدودة إلى عضاضات اسمنتية، ذلك واقع الكرد الروجآفاويين المشهود لهم بالعذاب الممض منذ سنوات خمس. الكامب، أي : المعسكر، وهي حيلة لغوية مخفَّفة، لأن " المعسكر مفردة تثقِل بوقعها الأليم، سوى أن الذي يبقى ماثلاً في الأذهان هو الكامب الذي يعلّم ويعلِم بشروطه ومناخه وأعرافه، إذ مهما أفصح الكردي هنا أنه متوحّد بالمكان كردياً في إهاب كردي، يبقى في العمق جرح لا يلتئم، والكامب مفهوماً يحيط بأهليه، إنه أشبه بمحمية مهما خُفّف من وجع القيّم على المكان، كما لو أن حدود الروجآوي من حيث الدقة هو هذا المقتطع كامبياً، ليبقى مسكوناً بجهته المدماة.
غير أن المهم التعرف إلى سمْت "كور كوسك "، الاسم المركَّب والذي يتقاسم المرء والكردي أصلاً بأكثر من معنى إعلاماً بمغذّيه المأسوي، وإيلاماً بمعذّيه التليد. كور كوسك، تعني حجر الفخار تحديداً. من أين جيء بهذا الاسم؟ هذا كلام يخرجنا عن مقال مشدود إلى تاريخه. سوى أن المتخيَّل هو هذا الحجر الذي كان طيناً مجبولاً بطريقة خاصة، وركَّب في قالب خاص، ليتم تجفيفه وتيبيسه، فيكون الفخَّار، كما لو أن الجرَّة الفخارية مفخرة الطين وما يمتزج به والنار. ضع الكردي، بالمقابل مثالاً، وهو وديعة المستجد، أي طين معاناة ومعاندة ومعاينة يُجبَل فيه وأي خميرة إرادة تختلط به، وأي نار مكابدة واصطبار تسهِم في إنشاء روح المكان وهو بعيد مرغماً في المجمل عن مسقط" روحه " ؟
كور كوسك ثلاث درجات: من حيث البدء المنفتح على الطبيعة، يأتي اسم القرية الكردية في المحيط الريفي الأربيلي، طي سرير نهر " الزاب " ذي الأفانين في الجريان والغضب المفاجىء، وفي الجوار شقيقاتها من القرى الكردية الأخريات.. لكن إرادة طاغية العراق صدام حسين، ارتأت أن تمحو ذاكرة أهلها المكان الواحد الأحد، أن تسوّي قرى الكردي في حساب أثيم إجرامي، وابتداع مكان يعرّف به وجلاوزته، أي تجمع " كور كوسك " هذه المرَّة "، أي معتقل صدام، وحول المعتقل الكامب المعسكر حفِر خندق إشهاراً برعب المكان، للحيلولة دون خروج أي كردي.. وبعد التخلص منه، لم ينس الكردي المعتقل ما كان، كانت ذاكرته تسانده، وقد استحال المعتقل تجمَّعاً، إنما التجمع الكردي، كما لو أن إقراراً كردياً سياسياً محلياً أراد إعلام من يهمه الأمر، أن كور كوسك تأممت من عسف المكان العدواني المقحم، وأن استحالة كوركوسك تجمعاً بلدياتياً هي تصفية للعهد البائد، إنما  أيضاً ليبقى أهل المكان الكرد على تماس مباشر بمأساتهم، كأنما أجسادهم هي التي تتكلم وتترجم أهوال المكان نفسه، ولترجع كوركوسك القرية التي كانت كما كانت وأكثر رونقاً كما رأيناها على الضفة الأخرى من " الزاب ".
ولقد تلمست في البيت الذي اكتراه فرمان مقابل الكامب ما يؤاسي، إذ كانت أم أحمد، رفيقة درب فرمان في الانتظار، ما يخفّف من حرارة أربيل، ووجع الصدمة الأولى وهي تستقبلنا بوجه هاش باش، رغم جرحها الروحي صحبة رفيق دربها الحياتي وأهلها وأخريات من أخواتها الكرديات وهن محمولات بآلام تترى تخص فلذات أكباد لهن/ لهم قضوا نحبهم غيلة، وليزداد الوجع مضاعفاً، باسم كردية ممزقة، على أيدي من يعرفون لغة لسانه ولسان أهليه، قبل سنتين، وأعني بذلك شهيد قضيته الكردية أحمد فرمان بونجغ اليافع عمراً والبالغ إرادة، وربما من هذا المنطلق أيضاً كان إصرار أهله، وفرمان في البداية، أن يكون هناك مركز حقوقي يهتم بكل مآسي اللاجئين الكرد ومنغصاتهم وفضح كل دخيل على الكردية والمتاجر بها هنا وهناك.
كثير آخر من الكلام، كثير آخر من الود المصاحب، والتقاط أنفاس وتناول طعام شهي رغم ألم المكان ومن فيه، كما هو المبتغى حباً بالآتي.
ورأينا الزاب وتابعناه في حكاياته ووقائعه المخيفة حيث أسلس الصديق فرمان في ما تيسَّر من الكلام والوقت المتاح ونحن نكون بالقرب منه.. كان في غاية الوداعة، هادئاً،  إنما، وكما قرأت عنه، لا يعرَف أحداً بسرّه، حين يودعه أحد ما رجليه، ويأمن له، وفجأة يخطفه كما هو حال العديد من لاجئي المخيم.. ولقد صدق النهر باسمه، فهو يعني " المجنون ".
كان الوقت كان أسرع منا، وقد عتَّم علينا المكان، ورجعنا من حيث مضينا، ونحن نعب من هواء المكان والهموم المشتركة.
وفي بيت فرمان كان ثمة زمن آخر في وداعة البيت رغم انجراحه هو نفسه، فما علمتُ به هو أن خلية نحل بأهله: عائلة فرمان: هو حيث لا يستقر لأن الذي اختاره يصل ليله بنهاره ولقد أنجز الكثير مما وعد وعلى أعلى مستوى، داخلاً وخارجاً، دونما حساب للنتائج ممّن يستشعر فيما يثيره وينيره تعرية له. وهل من قيمة تعلو قيمة مداواة جرح الآخر الروحي، ومد العون لمن يحتاجه ما أمكن، ووهْب الآخر كامل وقته تقريباً، وهو ليس الآخر، إنما ما يتمم الروح ويرمّمها ويفخّمها كردياً وإنسانياً؟ وأم أحمد وهي في عمرها المتقدم نسبياً لا تهدأ وهي تشعِر كل داخل بيتها أنه ليس ضيفاً إنما من أهله. وابناه البيشمركيان يؤديان واجبهما كغيرهما من كرد روجآفا، وابنتاه خفيفتا الروح والطليقتان بمحياها وثقتهما المعزَّزة بنفسيهما ...كل ذلك أخرج المكان الضيق نفسه من إطاره.
ولليلة الطويلة القصيرة التي أمضيناها معاً حتى الهزيع الأخير منها، وقد حلَلنا في  حساب الثامن من نيساننا، كان ثمة الكثير من المؤاساة الأخرى، حيث حضر العديد من ذوي الروح العاشقة للحياة رغم الألم من شباب الكامب، رغم مأساة الكامب، لكن كان ثمة ما يشدهم وهم في شبوبية الكلام وحيوية النقاش إلى الحياة، تأكيداً آخر على أن في الانتظار بدءاً أحلى.
لا أظنني أنني تمكنت من النوم، ولساعات ثلاث لا أكثر، إذ ليس وقت كهذا يتاح لنا دائماً، وكل ذلك بفضل مسجَّل من الصديق فرمان الذي تكلَّف ثانية بإيصالي بسيارته إلى حيث المعرض ليرجع إلى ضيوفه الموعود بهم، وضيوف من بعدهم، وهم ليسوا ضيوفاً وسواهم في أفق انتظار عمل لا يحاط به بيسر، إنما طرْق أبواب حياة ونشدان للأجمل منها وفيها..
وحين تركت أربيل ورائي ليلاً هذه المرة، صحبة أصدقاء أكاديميين من دهوك وبسيارتهم، وطي أربيل وجوه أحبَّة وَمضتْ بزاوية كاملة داخلي، كانت أربيل تلك تتقدمني هذه المرة، وتودُعني  على مشارفها الخضرة ما تتمناه دهوك في الانتظار.
سلام عليك يا خضرة نيسان، سلام عليك يا العزيز فرمان أنت وعائلتك ذات الروح المجنَّحة، سلام عليكم يا من التقيتهم خفيفاً وودَّعتهم وهم أكثر نكهة طلَّة.. سلام عليك يا كتباً صافحتها، وكتباً أتيت ببعض منها، سلام يا أربيل وأنت أربيل أو هولير، بفصاحة كرديتك التي تتعدى حدود إقليمك وهي تحاور ممتدَّاً على مدى مئات الأميال كردستانياً ... سلام في انتظار شبيهه!
دهوك في  9 نيسان 2016 







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=20515