آلة الاستبداد ولذة المواجهة (شهادة ذاتية) ... 4/4
التاريخ: الأربعاء 02 كانون الأول 2015
الموضوع:



إبراهيم اليوسف

منع سفر من الأمن القومي!
ما زلت لا أستطيع فك لغز ما حدث لي في آخر زيارة لي إلى سوريا عام 2010 بعد أن توسط لي فنان كردي كبير في الحصول على موافقة السفر إلى دولة الإمارات للعمل بعد توقيعي لعقد العمل في إحدى ثانويات الشارقة 2009، حيث أنني وبعد انتهاء الفصل الدراسي الأول وجدتني منشداً للعودة إلى الأهل، وعلى أمل جلب بعض أرشيفي، ومخطوطاتي، وحسمت الأمر بعد طوال تردد، لا سيما عندما اتصلت بأحد العاملين في مطار حلب واسمه قاسم حنيني (اتصل فيما بعد طول انقطاع ليخبرني أنه انضم للجيش الحر) وكان قد ساعدني كثيراً في المرة الماضية، وأحسست انه معني بي، وطمأنني أن لا جديد في (الكمبيوتر)، حيث هناك منع من قبل الأمن السياسي في الحسكة، وهو ما وعدني صديقي الفنان بإيجاد حل له، 


توجهت إلى مكتب الطيران، وقطعت تذكرتي للسفر في اليوم الثاني، وكان معي في الطائرة مدرس لغة عربية من أسرة صديقة وهو محمد سعيد حاج عزيز، من إحدى قرى عامودا "قجله". قلت له: سأقف قبلك في الطابور تحسباً لأي طارئ، وما إن أعطيت موظف الجمارك جواز سفري، حتى راح يبدي أسفه وهو يحاور زميلاً له، متسائلاً: أنت إبراهيم اليوسف؟، قلت نعم فقال: لقد وصلنا كتاب بخصوصك قبل ساعات...  فقط، بتاريخ اليوم صادر عن "الأمن القومي"، دون أن يشرح لي فحواه، وهرول بجواز سفري، إلى إحدى الغرف المجاورة. لا أعرف ما حدث لي، فقط رحت أقسم ما بين يدي من مبلغ مالي لأعطيه لزميلي، ليوصله لبيتنا مع حقيبتي، بعد أن أبلغت أسرتي أنه قد يتم توقيفي. بعد حوالي ربع ساعة عاد الرجل، وهو يسلمني جواز سفري قائلاً: "أنت ممنوع من السفر من قبل هذه الجهة"، تنفست الصعداء، رغم أني صرت أتصور أن فرصة عملي الإماراتي قد ضاعت مني، وهو ما حدث حقاً. لحقت بزميلي، متوجهين إلى كراج الانطلاق، لأمضي أسوأ ثلاثة أشهر في حياتي، طارت بعدها فرصة عملي، وتعرضت لأسوأ أنواع التحقيق، وأسلمت أمري لله بأني لن أسافر، لا سيما أن الفصل الدراسي الثاني بات يوشك على الانتهاء. إذ فشلت وساطات كل الخيرين من أجل السماح بسفري لمرة واحدة، ومنهم الباشا نفسه، بل أن شيخاً عجوزاً من آل خلو".وهو محمدع بدي".. عندما سمع بأمري تطوع، وسافر إلى دمشق، لكنه عاد بخفي حنين، إلى أن اتصل بي الصديق الشاعر صقر عليشي الذي أعلمه صديق مشترك بمعاناتي، فتوجه إلى د. نجاح العطار التي تدخلت لتؤمن لي السفر، لمرة واحدة، أخيرة، لم أعد بعدها إلى وطني.

في ثانوية فايز منصور: رسائل تهديد
كثيرة هي رسائل التهديد التي أتتني، وكنت حريصاً على ألا أعلن عنها، لاعتبارات تتعلق برؤيتي لمسألة الإعلان عن التهديدات. وللأسف، فإن بعضاً منها كان يترافق مع حملات من قبل أشخاص أعرفهم، بعد كل نشاط مواجهة للنظام، ومن بين هذه التهديدات أني عندما نقلت - للمرة الثانية - بقرار سياسي، تم تناوله عبر وسائل الإعلام، من معهد إعداد المدرسين الذين درست فيه في الفترة ما بين (2002 – 2004) قبل أن أنقل إلى "الثانوية الصناعية" ومن ثم مدرسة الكرامة، حيث صدر قرار سياسي بنقلي في صيف العام 2005 إلى مدرسة "فايز منصور" في مدينة "تربسبيي - قبور البيض".
والغريب، أن أحد موجهي اللغة العربية، وهو زميل دراسة واسمه إبراهيم . ح – وكنت استضفته ذات مرة في منزلي - كان قد علق في اجتماع موجهي اللغة العربية بمدير التربية، أثناء إعلامهم بقرار إبعادي الوظيفي عن مدينتي "قامشلي" قائلاً: أنا ضد أن يكون في مدينة "تربسبي"، وأقترح تعيينه في مدرسة تابعة لي، في أقصى نقطة على حدود العراق.
لقد تمت معاملتي بشكل سيء جداً من قبل "مجمع تربسبي التربوي" بل إن إدارة المدرسة - كما لاحظ المدرسون - صارت بمثابة مفرزة مراقبة على نشاطي، وقد استغل مديرها غيابي في فترة التحقيقات في دمشق (وكانت فترة عطلة امتحانات لم يداوم فيها أحد) أن أرسل قرار فصلي بسبب غيابي أكثر من ستة عشر يوماً إلى مديرية التربية، بيد أن أمين السر الشيوعي "إبراهيم الحامد" - وكان صديقاً لي - ما إن وصلت إلى المدرسة حتى توجه إلى (المجمع التربوي) ليسترجع الكتاب. في العام التالي، باتت الضغوطات تزداد علي، هناك، واضطررت أن أتقدم بأوراق الإحالة إلى التقاعد بعد قيام أحدهم بتحويل مسار سيارته، من يمين الشارع العام، في بلدة تربسبي، إلى الرصيف الأيسر الذي أسير عليه، وكاد يدخل قلب أحد المحال هناك، ليترجل من سيارته، بعد أن نجوت بأعجوبة، مدعياً أنه كان قد غفا! همس في أذني أحد الشهود من معارفي بعد ذلك، قائلاً: لقد نجاك الله، من حادث القتل، بأعجوبة. برأيي، ما عاد لك "خبز في البلاد"، وهو ما جعلني أقدم على أخطر خطوتين في حياتي: أي التقاعد المبكر، والسفر، حيث ما زلت أدفع ضريبتهما إلى الآن. 

للعشق للقبرات والمسافة
بعد طباعة مجموعتي الشعرية الأولى "للعشق والقبرات والمسافة" في العام 1986، وهي تتضمن مجموعة من قصائد النثر، إلى جانب بعض قصائد التفعيلة، والتي تمت طباعتها بـ"التعاون مع اتحاد الكتاب العرب" تعرضت لحملة تحقيقات أمنية، كان من نتائجها أن تم نقلي في نهاية العام الدراسي من ثانوية "عربستان" إلى إحدى المدارس الابتدائية (مدرسة الوئام) التي عملت فيها سنتين متواليتين، قبل أن أتركها ملتحقاً بما يسمى "الخدمة الإلزامية"، وقد ورد في قرار نقلي ما يلي: "بناء على مقتضيات المصلحة العامة: ينقل فلان الفلاني من ملاك التعليم الثانوي إلى التعليم الابتدائي" وكان ذلك أول أشكال الضغط علي لإسكات صوتي.

 مكتب محو الأمية
بعد تسريحي من الجيش في العام 1990، راجعت مديرية التربية بالحسكة، بيد أنني لم أتمكن من العودة إلى العمل الثانوي، حيث تم تعييني في إحدى المدارس الابتدائية (علي بن أبي طالب) التي ساعدني الموجه التربوي المشرف عليها المربي الراحل موسى سعدون أثناء تعييني المؤقت فيها، قبل أن يتم نقلي إلى مكتب محو الأمية، الذي كان مقره في المركز الثقافي في قامشلي، بيد ان رئيسه الكردي، ومن خلال علاقاته مع مدير المراكز الثقافية في الحسكة الذي طالما أساء إليّ دعا محمد مصطفى ميرو محافظ الحسكة" وكانت بينهما علاقة من طراز خاص.." ليصدر قرار نقلي إلى (المجمع التربوي) ليتم إعفائي من العمل في هذا المجال بعد تحرك كتبة التقارير ضدي، مدعين أن مكتبي وكر للقاءات السياسية المعادية، وكان ملتقى للكتاب والمثقفين، لأنقل إلى إحدى المدارس الإعدادية، لمدة عام واحد، و يتم نقلي إلى وزارة الزراعة حيث عملت في ثانويتها ما بين العامين 1994 - 2002، إلى أن نقلت والكاتبين: محمد حلاق وتوفيق عبدالمجيد إلى معهد اللغة العربية، وكان ما سمي بـ "ربيع دمشق" قد أجرى بعض التغييرات التي ظهر أنها ملفقة وخلبية.

إعدام كتاب
رغم أن مجموعتي الشعرية "للعشق للقبرات والمسافة" كانت مطبوعة بالتعاون مع اتحاد الكتاب العرب، وبموافقة رسمية من وزارة الإعلام، إلا أن أحد أصحاب المكتبات الذين أودعت النسخ لديه، لبيعها، أعلمني أن دورية من الأمن كانت تبحث في مكتبات المدينة عن الكتاب، وصادرت النسخ الموجودة في الواجهة، وحين سألوه هل لديه غيرها، أجاب بالنفي، ليعيد إلي ما تبقى منها، بسرية تامة.
في الفترة التي تلت نقلي التعسفي من قسم الثانوي إلى قسم الابتدائي، تفاجأت بأن أمسية لي في المركز الثقافي في قامشلي قد منعت، بل ولم يعد يسمح لي فيما بعد بالمشاركة في الأمسيات الأدبية، لسنوات طويلة. ومن سخريات القدر أنه كان لكل عضو في اتحاد الكتاب العرب الحق في إقامة نشاطين ثقافيين، فلم يسمح لي بإقامتها، إلا في حالات نادرة، في مدينتي: قامشلي - الحسكة - بل في مدينتي ديرك - عامودا، وحدث أن تم إلغاء مشاركتي في أمسية شعرية قامشلاوية، في ذكرى يوم الأرض، قبل بدء الأمسية بدقائق، وكان أن أهداني أحد الأصدقاء الشعراء قصيدة، قال فيها: "إلى فلان - اخلع قصائدك وراء الباب وادخل الأمسية". 
جريدة تشرين
القسم الثقافي في جريدة تشرين دأب على أن ينشر لي بعض متابعاتي الثقافية، وقد تم الاهتمام بما أكتبه بعد أن استلم أحد المعروفين من قبلي موقعاً مسؤولاً في الجريدة، وحدث ذات مرة أن هتف إلي قائلاً: أتمنى أن نلتقي في أقرب فرصة ممكنة، فقلت له: حسناً، وحدث أن سافرت إلى دمشق بعد أيام، وما إن دخلت مكتبه، وجلست، قال لي: منذ أيام، تعرضت للتحقيق من قبل ضابط في القصر الجمهوري حول كتاباتك، واضطررت أن أقول لهم: إن من يكتب في المواقع الممنوعة باسم إبراهيم اليوسف، هو ليس من يكتب بالاسم نفسه في جريدتنا. ثم قال: "أبواب الجريدة مفتوحة أمامك، إن كففت عن كتابة مقالاتك القاسية، طبعاً"، كان ذاك آخر لقاء بذلك الشخص، بل وانقطعت منذ ذلك الوقت عن الكتابة في الجريدة، وحدث أن اتصل الشخص نفسه معي - هاتفياً - بعيد أيام فقط من انتفاضة الثاني عشر من آذار 2004 قائلاً: أدعوك للكتابة في أحد الأعمدة المهمة في الجريدة - وأتصور أن اسمه كان آفاق - عن الوحدة الوطنية، وقال: سأفتح لك المجال أن تكتب بانتظام، غير أنني شكرته، واعتذرت، وقاطعت الصحافة السورية الرسمية، منذ ذلك التاريخ، وحتى الآن.

مسابقات انتقاء المدرسين: رقم قياسي
بعد أن نلت الشهادة الجامعية، كان من الطبيعي أن أتقدم إلى ما كانت تسمى بـ"مسابقات انتقاء المدرسين"، وكانت تجرى في دمشق، مرتين في السنة، أثناء تلك الفترة، ومن ثم باتت تجرى في ما بعد، مرة واحدة كل سنة، ورغم أنني كنت معلماً أصيلاً في سلك التربية، بيد أنني خضت اثنتي عشرة مسابقة، كنت أنجح في الفحصين: التحريري والشفهي، بعلامات عالية، لكنني لم أقبل في تلك المسابقات، لأسباب أمنية كما كان يقال، رغم تدخلات كثيرين، ومنهم بعض المعنيين في الحزب الشيوعي السوري الذي كنت أحد قيادييه في منطقة الجزيرة حتى العام  2000 وقد كتبت ذات مرة رسالة إلى الأمين العام للحزب خالد بكداش، عما أتعرض له، فأوعز إلى جريدة "نضال الشعب" بنشر مقال مفصل عن وضعي، وهو ما تم.
طبعاً، إن عدم قبولي في تلك المسابقات، كان ينعكس على الوضع المعيشي لأسرتي التي كانت تعيش في ظروف اقتصادية جد صعبة، وكان هناك فرق كبير بين راتبي الشهري ورواتب زملائي ممن تخرجنا معاً. وظل راتبي على هذا النحو إلى أن وصل بعد سنوات إلى مستوى راتب المدرس، وتم - بشكل أوتوماتيكي - تعديل وضعي، دون النجاح في المسابقات.
حقيقة، رغم ألم المعاناة الكبير، ورغم تكلفة المسابقات، اقتصادياً، ووجود حاجة مستمرة إلى المدرس وكان يتم تداركها من خلال استقدام مدرسين ومدرسات من المحافظات الأخرى، إلا أن الأمر بقي كما هو، وكنت أحس في داخلي بالزهو قائلاً: "سعيد لأنني أزعج هؤلاء" وقد كتبت قصة قصيرة في مجموعتي القصصية "شجرة الكينا بخير" 2004 بعنوان "المسابقة" أصور فيها حالتي، وموقفي من آلة النظام. ولعل أجمل ما كان يعزيني، هو وهم غريب، إذ كنت أقول في نفسي: غداً، بعد سقوط آلة الاستبداد، سيتم تعويضي المعنوي، وهكذا بالنسبة للوضع الوظيفي. 

سأكتب عنكم أيها الأوغاد!
في جميع المواقف الصعبة التي كنت أمرُّ بها، وأتجرع خلالها مرارة الاستبداد، ثمة أمر واحد، كان يخفف عني وطأة الألم الرهيب، وهو أنني كنت أمني النفس، بأن أعمار هؤلاء الوحوش، المستبدين، قصيرة، وسيأتي يوم أكتب فيه عن كل ما تعرضت له، وها أنا أفعل ذلك، ولو متأخراً. أي أن فكرة الكتابة، بحد ذاتها، كانت بلسماً لآلامي، ومعادلاً روحياً، يجعلني أشعر بالطمأنينة، ويحفزني لديمومة رسالتي، ومواصلتها، في مواجهة آلة القمع، بكل ما أستطيع.
فصل من كتاب بالعنوان نفسه
نشر في العدد السادس الخاص ب" المثقف والسلطة" من مجلة "أوراق" لرابطة الكتاب السوريين والتي يرأس تحريرها الفيلسوف صادق جلال العظم.






أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=19979