من يحاصر من
التاريخ: الأثنين 30 تشرين الثاني 2015
الموضوع: اخبار



د. محمود عباس

   أمريكا مع الدول الأوروبية يضعون ومنذ سنة وأكثر حصارا اقتصاديا على روسيا ومنذ سنوات على إيران، وروسيا تصدر مرسوما، لتطبيق إجراءات اقتصادية قريبة من فرض الحصار الاقتصادي على تركيا، وتركيا تقنن الدعم الاقتصادي للمناطق المنكوبة في سوريا، والكل يحاصرون سوريا اقتصاديا ويعبثون بها عسكريا، وسلطة بشار الأسد تتلقى الدعم الاقتصادي من روسيا وإيران إلى جانب الأنواع الأخرى من الإسناد، الحلقة متكاملة ولا يمكن أن تنقطع، رغم ضعفها في بعض الأماكن. هذه واحدة من حلقات الصراع الاقتصادي-السياسي العديدة الموجودة على الكرة الأرضية، وتأخذ منحيين، الأول عقوبات على بعض الدول الصغرى لفرض سياسة معينة، وتأثيراتها لا تتجاوز أبعاد جغرافية تلك الدول، والأخر صراع بين الدول الكبرى على مناطق النفوذ والهيمنة الاقتصادية، خدمة للشركات الرأسمالية العالمية، وتؤثر على الحركة الاقتصادية العالمية، وتنعكس سلباً على جميع الدول وشعوب العالم.


 حلقة مفرغة، من الصراع الاقتصادي، المؤدي إلى تباطأ في النمو، وزيادة البطالة، في معظم المناطق، وتؤثر بشكل أو آخر على كلية الاقتصاد العالمي، بشكل أو آخر، ونتائجها في الحلقة المذكورة، رغم محاولة حصرها في جغرافية معينة، تبقى مؤثرة على الجميع، والتي لا يمكن لدول تجاوزها. شركات رأسمالية عالمية تتأثر، فهي التي تضع الخطط وتنفذها الدول الحاضنة على قدر السلبيات والإيجابيات.
    حجم العلاقات الاقتصادية بين أوروبا وروسيا، تبلغ حدود استحالة تطبيق الحصار، فالدول الأوربية تنتج 30% من طاقتها بواسطة الغاز والنفط القادم من روسيا، والشركات الأوروبية العالمية تعتمد عليها لاستمرارية الإنتاج، ومدخولهما بالنسبة لروسيا تتجاوز حدود الاقتراب منه، تبلغ الإيرادات نصف ميزانية الاستيراد الروسي، وهي أكبر داعم لعملتها الصعبة، المبني عليها اقتصادها والعديد من مشاريعها، وحجم الصادرات الروسية إلى تركيا تتجاوز 25 مليار دولار، والتركية إلى روسية أكثر من خمس مليارات دولار، إلى جانب تصدير عدد كبير من القوى العاملة اليدوية، ثلثي حاجة تركيا من الغاز تأتي من روسيا، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي تزايدت العلاقات الاقتصادية بين الشركات الأمريكية والدولة الروسية، فالحصار الأمريكي المالي أثرت على البنوك الروسية واحتياطيها بشكل عام وسوية عملتها الصعبة بشكل خاص، ويتوقع أن تنبض مخزونها منه في نهاية العام القادم، كما وتأثر العديد من البنوك وشركات البطاقات المالية الأمريكية، خاصة تلك التي فرضت عليها قطع علاقاتها مع السوق المالية الروسية.
   دمجت الرأسمالية العالمية الحديثة اقتصاديات الدول الكبرى ببعضها، متجاوزة الأبعاد الجغرافية أو الحدود السياسية، إلى الدرجة التي تكاد تنعدم فيها إمكانية العزل الاقتصادي، إلا في حدود الدول التابعة والتي لا تأثير لها، وذلك أيضا في جزء منه، وبشكل نسبي، ككوريا الشمالية، المستندة على قدراتها النووية البسيطة مقارنة بالدول الكبرى للحصول على مساعدات اقتصادية. 
 صراع على الأسواق العالمية ومنابع الطاقة والموارد الأولية، من البشرية إلى المعدنية، تستند على العنجهية العسكرية الذاتية، أو أدواتهم من المنظمات العسكرية المتنوعة، ليحرز كل طرف على دعم  لقانونية تغلغله في المنطقة، وعليه فيثيرون قضايا أثنية، ومذهبية، وقومية، ويفاقمون في كل الصراعات الموجودة والمحتملة الاستفادة منها، مثل قضية الثورة السورية، والتي كان لابد من تحريفها وتشويهها، لتتوسع، ويتفاقم الصراع، لتبلغ حدود منطقية التدخلات العسكرية، والتي رفضها الانتهازيون الأوائل من المعارضة السورية، مثلما فعلتها سلطة بشار الأسد للحفاظ على وجوده، فتفعيل كل الأطراف داخل سوريا، ومعها القوى الإقليمية، واحدة من أساليب الدول الكبرى للتحكم بأمور الشرق الأوسط، ففي فترة كانت المعارضة السورية والسلطة الشمولية ترفضان أي تدخل خارجي، نجدهم اليوم يسخرون لهم كل قوتهم كأدوات مطيعة ينفذون كل الإملاءات وبقناعة. لا شك هناك غايات أخرى أبعد من مجرد التحكم بأمور المنطقة، وتوزيع المصالح، فالقوى الكبرى هذه كانت تستطيع أن تحد من ظهور كل هذا الدمار بسوريا، وتغير من سلطة بشار الأسد وبالتالي تمنع من ظهور كل هذه المنظمات التكفيرية والأصولية في سوريا والعراق، وتحد من التدخلات الإيرانية والتركية والدول العربية في سوريا والعراق، لكن تجارب سابقة لهم في المنطقة حدت أو أدت إلى إعادة النظر في حل القضية السورية في بداياتها.  
 تحتاج الهيمنة الاقتصادية إلى بيئة ملائمة، لتسود وتزدهر المشاريع، فالنمو الاقتصادي لم يعد محصورا في جغرافية الدول الكبرى، كثيرا ما يكون عامل الاستقرار مهما للتطور الاقتصادي في البلدان الرئيسة والحاضنة للشركات الرأسمالية العالمية. فمثلما كانت الصراعات المذهبية وفيما بعد القومية في أوربا عامل إعاقة للنمو والتطور الاقتصادي، والتي أدت في النهاية إلى انتصار وإرضاخ الأطراف المتصارعة بالتخلي عن أيديولوجياتهم، أو على الأقل التزمت والانحصار ضمنها، كذلك بدأت الشركات الرأسمالية العالمية تطبق أساليب مشابهة، ومنذ بدايات تكوينها تبحث عن خطط للقضاء على كل المعوقات بقدر ما تمهد لهيمنتها الدروب، فهي اليوم وعلى أبعاد وجغرافيات تشمل كل الكرة الأرضية تصطدم بعدة إيديولوجيات، دينية، ومذهبية وعنصرية قومية، أو متزمتة تحتضنها سلطات شمولية، وأهمها في حاضرنا وفي الشرق أوسطنا، المذاهب الإسلامية، التكفيرية والأصولية منها، والأحزاب العنصرية العروبية والتركية والفارسية التي تسخرهما السلطات الحاكمة الشمولية لغاياتها الذاتية كالاستمرارية في هيمنتها، فالطرفان من عوامل الإعاقة لكل تطور في المنطقة، ومواكبة الحضارة، وسهولة دمجها مع التطور الاقتصادي العالمي، وكانت السبب الرئيس في ظهور الصراع بين القوى الثورية أو الراغبة في التغيير والتطور، والرافضة، والسلطات الشمولية من جهة والقوى الظلامية من جهة أخرى، ولم يكن غريبا أن يظهر الصراع الأبشع بين هاتين القوتين المتناقضتين، والمتلائمتين عند مواجهة التطور الحضاري، كالنصرة والمنظمات الإسلامية التكفيرية والجهادية الأخرى وسلطة بشار الأسد ومعه أدواته كداعش، لاستلام السلطة، وتطبيق منهجهم ليس فقط من أجل السلطة بل لمواجهة موجات التغيير حسب نموذجهم، لهذا فالمنظمات المسلحة التكفيرية والإسلامية المتطرفة، ومهم المعارضة الانتهازية التي لا يمثلون الثورة لا من قريب ولا من بعيد، ولا يقلون عداوة لمفاهيم ومتطلبات ورواد الثورة السورية من سلطة بشار الأسد ذاتها. 
الأبعاد الاقتصادية كانت ومنذ القدم أمتن رباطا من الأبعاد الثقافية، ولولا ذلك لكان تقارب روسيا من أوروبا وأمريكا، أنسب حضاريا، من تقاربهم من تركيا، لكن العلاقات الاقتصادية والمصالح السياسية التي ترتكز عليها الغايات الرأسمالية العالمية، تقضي على الأبعاد الثقافية والدينية، وتهمش كل التناقضات الفكرية، وهذه توضح حقيقة على أن أغلبية الأسس الثقافية تبنى على المصالح الاقتصادية أو تسندها وتنميها، والارتباطات العسكرية والسياسية تتبع هذه الغاية.
   وعليه من الممكن القول إن الدعم الاقتصادي لحكومة أردوغان، وعلى مدى أكثر من عقد من الزمن من قبل الشركات الرأسمالية العالمية، ومثلها لدول الخليج، والحصار المفروض على إيران، مبنية على المنطق الاقتصادي، فلا فرق بين تركيا وإيران والسعودي ودول الخليج الأخرى بالنسبة للشركات الرأسمالية العالمية إلا من حيث ارتباطات هذه الدول ومصالحها، وسهولة أسواقها، والتي تتلكأ تحت البعد المذهبي وما يبنون عليه من ارتباطات سياسية، للحفاظ على أيدولوجيتهم المذهبية واستمرارية سلطاتهم. 
  فالتكتلات السياسية، نابعة من العلاقات الاقتصادية، حتى ولو ظهرت التقاربات الإيديولوجية الثقافية كغطاء، والحلقات المتداخلة من حيث الحصار على بعضهم، والتي كانت سابقا صراع على مناطق النفوذ بين الشركات الرأسمالية العالمية قامت بها الدول الكبرى نيابة عنهم، هي الأن صراع بين التوسع الرأسمالي الذي أصبح يستند على التطور الحضاري، بغياب فاضح لمستويات المعيشة في العالم، ووجود التناقضات بينها وبين القوى المعارضة لها، إلى جانب الخلافات على دروب التطور بين الدول الكبرى الراعية للشركات الرأسمالية العالمية. فحلقات الحصار المتداخلة في بعده العام، تنمي التطور من جهة، خلال دعم القوى الحاضنة لها بقدر ما تعيقها من جهة أخرى، عند مواجهة هيمنة القوى الدينية المتطرفة والمذهبية المتنافسة، والسلطات الشمولية الداعمة للثقافة القومية العنصرية، وعليه فمن حيث البعد العام وعلى سوية القوى الكبرى، وملاحظة حجم وضخامة الشركات الرأسمالية العالمية، لا يمكن القول أن الدول الكبرى تحاصر بعضها اقتصاديا، فالكل يتأثر، حتى ولو كانت هناك اختلافات في الحجم، وعمق التأثيرات، لكن وعلى البنية العامة، الإنسانية بكليتها تتأثر، وتخلف تلكؤاً في التطور الحضاري والتنمية البشرية. 
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
11-29-2015






أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=19966