صعود أردوغان وهبوطه
التاريخ: الأحد 21 حزيران 2015
الموضوع: اخبار



د. محمود عباس

رجب طيب أردوغان (1954م - ...) ولد وتربى في عائلة دينية فقيرة، رئيس وزراء تركيا ورئيسها منذ عام 2003م، خدم تركيا، وشعبها، سياسيا، واقتصاديا، وبتفاني منذ أن أصبح عمدة استانبول في عام 1994-1998م، نشر مفهوم الإسلام السياسي، من جوانبها الهادئة الليبرالية والمتلائمة مع الحضارة الأوروبية، أو للتماشى والعلمانية التركية، كان مطيعا، لأساتذته السياسيين الإسلاميين، ونجح في معظم ما كلف به أو عين له، أو كلها حتى قبل فترة قريبة، وقدم لتركيا ما لم يقدمه غيره من الرؤساء الذين سبقوه. قدره أصدقائه، وألتف حوله الشعب التركي، تركاً وكردا وغيرهما من القوميات المتواجدة في تركيا، وبينهم ساد حزب العدالة والتنمية تحت أسمه.


 تداخلت العلاقات بينه ومن حوله والحزب، إلى أن أصبحوا كتلة متماسكة متكاملة، ملائمة لبناء تركيا، لأكثر من عقدين من الزمن، إلى أن ظهر العطب، وحدث الخلل، ضمن الحزب، على خلفية ظهور الخلافات، في الخفاء، بينه وبين (عبدالله غل 1950م...) رئيس جمهوريته، وصديقه الأقرب في فترة ما، ومن ثم بينه وبين مرشده الفكري في الإسلام السياسي (محمد فتح الله كولن 1941م...) بعد المرشد الأول زعيم حزب الرفاه(نجم الدين أربكان 1926-2011) الشخصية الأكثر تأثيرا، وكانت الخلافات أعمق من أن تكون سياسية على تكتيكات معينة  للحزب، ونحن هنا لا نبحث في الصراعات بينه وبين القوى التركية المعارضة له ولحزبه، بل في الحلقة الداخلية، في ذاته وحزبه ومن حوله. بلغ القمة فتاه في ضباب التباهي بالذات، فكانت لها انعكاساتها على المجالين السياسي والاقتصادي، وتباطأت على أثرها مرحلة الصعود، وتوقف الصعود في فترة مهمة من حياته، مرحلة التمتع بالقصر الجمهوري والأمل بالرئاسة الشمولية، وعلى الأغلب، بدأت نقطة العد التنازلي، وتبينت من خلال ظهوره العثماني في قصر الرئاسة، مقلداً السلاطين، تتالت بعدها الخسائر، ولو كانت غير فاضحة لكنها تنبأ بالقادم المتنازل سريعا.
    لتبيان مسافات التطور الاقتصادي في تركيا وبروز شخصية الرجل، والتي ساعدته للسيطرة على تركيا بشكل شبه مطلق، والذي كتب عنها الكثيرون، وكنا قد كتبنا عدة مرات حول خلفيات هذا النمو الاقتصادي، سنكررها هنا ثانية وبشكل موجز: وهي أن الشركات الرأسمالية العالمية، وخاصة البرجوازية اليهودية، كانت وراء النهوض الاقتصادي، لأهداف تتعلق بالسيطرة على الشرق الأوسط والعالم الإسلامي والعربي، إلى جانب خلق الترابط بين الفكر التصوفي الإسلامي الديمقراطي، والمتلائم مع الديمقراطية الغربية، الذي ينشره جماعة كولن عن طريق معاهدها ومدارسها المنتشرة، القريبة منه حتى وقت قريب، وهذه بحد ذاتها، ذات خلفية سياسية، وهناك من يقف وراء هذا الانتشار الواسع والمتشعب في العالم، وبغايات أبعد من نشر فكر التصوف الإسلامي الاجتماعي والقومي التركي. ويتوقع المراقبون أن نفس القوى التي دعمت تركيا اقتصاديا كدولة، خلقت هذه الشبكة الواسعة الانتشار من المدارس والمعاهد والمراكز الدينية الاجتماعية في العديد من دول العالم ومن ضمنها أمريكا التي توجد فيها أكثر من 600 مدرسة، وعدد كبير من المعاهد والمساجد بتكيات تدريسية، وفي أوروبا، وأسيا وأفريقيا. 
  رافق نهوض تركيا الاقتصادي بروز الرجل السياسي الذكي، وسيطرة حزب العدالة والتنمية، دعمته، وأسندته الماسونية اليهودية (بعد تشكيل بولند أجاويد"1925-2006م" الحكومة بقليل قدم نجم الدين أربكان وكان نائب رئيس الوزراء مشروع قرار للبرلمان بتحريم الماسونية في تركيا وإغلاق محافلها) بضخ أموال تجاوزت حدود الديون والقروض، في الفترة التي كانت أوروبا وأمريكا تغرق في تدهور اقتصادي شملت العديد من القطاعات. أستمر الدعم سنوات متتالية وبلغت حجم السيولة المتدفقة إلى داخل تركيا نسبة 70% من أجمالي دخلها الوطني العام، في الفترة التي كانت فيها مجموع الدخل القومي لا يتجاوز 400 مليار دولار، يعد هذا الدعم ثاني أضخم دعم في تاريخ الرأسمالية العالمية بعد مشروع المارشال الذي قدمه أمريكا لإعادة بناء أوروبا بعد الدمار الذي خلفه الحرب العالمية الثانية له. بها أوقفت تدهور العملة التركية المريع، والبطالة المتفشية، وأنعشت السيولة المتدفقة سنويا اقتصاد تركيا، وخاصة قطاع الصناعات التحويلية والخفيفة، ورفعت من صاداتها إلى أن تجاوزت كميات الاستيراد مرتين، وبها رفعت من أسهم العدالة والتنمية كتيار إسلامي ليبرالي في العالم الإسلامي، مناسب للحكم وتطوير البلد اقتصاديا، أولا: للوقوف في وجه المد التكفيري الراديكالي، والثاني لسيطرة الإمبريالية العالمية الحديثة على اقتصاد العالمين العربي والإسلامي بشكل غير مباشر، وبها خلقت لأردوغان شعبية داخل الحزب أيضا، فسيطر عليه التيار الليبرالي، وضعف تيار أربكان المتشدد، مقارنة به، وأصبح مثال الإسلام السياسي الاقتصادي للعالم الإسلامي، ومن الأهمية بمكان التذكير أن الخلافات ما بين أردوغان وغولان وسابقا زعيمهم الروحي أربكان، لم تكن خلافات داخلية ضمن الحزب بقدر ما كانت خلافات بين القوى الرأسمالية العالمية على الاستراتيجيات المتبعة للسيطرة الاقتصادية –السياسية، وعلى الأغلب رجب طيب أردوغان يعتبر حالة الوسط بين محمد فتح الله كولان ونجم الدين أربكان، حسب معايير الديمقراطية الغربية وتحليلاتهم.
    لاشك، وكما ذكر آنفا، أنه رجل سياسة، ناجح بكل المعايير، تفوق في كثيره على جميع خصومه وحقق نجاحات لم يحققها أي سياسي تركي من قبله، فهو الذي قدم لتركيا ما لم يقدمه جميع رؤسائها منذ أتاتورك، وله الفضل في كل ما حصل في تركيا من التطور الاقتصادي، وعلى رأسها عملية جر أو إقناع الرأسمالية العالمية، أي كانت منابعها، للاستثمار في تركيا أو في الشرق الأوسط عن طريق البرجوازية التركية، وهذه الاستراتيجية، يعد ذكاء سياسي، سخرها لمصلحة تركيا اقتصاديا وبالشكل الأنسب، ونجاح دبلوماسي على المستوى العالمين العربي والإسلامي عامة والأوربي إلى حد ما، سخرها أيضا لتحرير الاقتصاد التركي من ركوده الطويل والنهوض به، في فترة قصيرة لم تتجاوز عقد من الزمن، إلى أن أوصل بها، إلى مصاف الدول أل 17 الكبرى اقتصاديا في العالم، بدخل وطني يتجاوز حدود 700 مليار دولار عام 2011م، حسب قائمة البنك الدولي، والمختلف عن قائمة صندوق النقد الدولي والبالغ ترليون دولار، والمستند بعضه على التقديرات والذي يشرك فيه عادة المساعدات الخارجية وهذا ما يحصل أثناء دراسة الناتج المحلي أو الدخل الوطني التركي،، وتأتي بعد هولندا بناتج إجمالي محلي  يتجاوز 740 مليار دولار.
  لا شك هذه الانتصارات الاقتصادية، والسياسية، وعلى مدى سنوات طويلة، جعلت منه البطل القومي والديني معا، وأصبح بدون منازع، يخطط على بعدين، التركي القومي والإسلامي الليبرالي، ولم يتوانى في إسناد تيارات راديكالية إسلامية في منطقة الشرق الأوسط، كالحماس، وداعش، وبعض المنظمات المسلحة المتطرفة ضمن الثورة السورية، للحفاظ على مكانته ووجاهته القومية والدينية، وهي ما دفعت به في السنوات الأخيرة بالتفكير لخلق النزعة العثمانية، وإعادة أمجادها، وتاه بها ليخرج من منطقه المتوازن سياسيا وإسلاميا ليبراليا، فبدأت تظهر لديه بوادر بعض السلبيات التي تغرق القادة المصابون بغرور النجاحات المتتالية وخاصة غرور العظمة، واستخدم منطق السيادة مؤخراً، فأصبح نجمه يتضاءل سياسيا، تبينت بشكل جلي في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ومنذ سنتين بدأ يتراجع النمو الاقتصادي في تركيا، وارتفعت نسبة التضخم في الاقتصاد، وتدهورت سعر الليرة التركية أمام العملات الصعبة بشكل ملفت للنظر، ومثلها حدث في السنتين الأخيريتين خلل ضخم ما بين الاستيراد والتصدير، وحدث عجز واضح في ميزانية الدولة، إلى جانب زيادة نسبة البطالة.
ومن المهم التذكير، أن هذا التطور والنمو الاقتصادي والسياسي، شملت مجالات دون أخرى، وبقيت محصورة في زوايا وقطاعات معينة، وفي بقع جغرافية من تركيا دون أخرى، وحصرت في إطار العنصر التركي سياسيا، واجتماعيا، وثقافيا، وهو ما جعل تركيا وشعبها دون مستويات التطور الحضاري الأوروبي، وبقيت في سويات العالم الثالث في العديد من جوانبه، كما وفي الواقع السياسي الداخلي أبعده من التلاؤم مع الفكر الأوروبي الديمقراطي واتحادهم، الذين رفضوه لعدة أسباب منها، ما أظهره من خطوات متضاربة ومتناقضة، ما بين التيارين الإسلامي الليبرالي الديمقراطي والذي يدعمه غولان والتيار القديم المتزمت والذي رسخه نجم الدين أربكان، والثاني: حول تسيير عملية السلام بين تركيا والعمال الكردستاني، وطرق حصر الحوار بين حكومته وحزب كردي أو منظومة سياسية، وليس بين الشعب الكردي والحكومة التركية ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية، وعدم وضع حلول ديمقراطية كاملة للقضية القومية الكردية، وعدم جديته في القضاء على التمييز القومي بين الدولة الطورانية والشعب الكردي.
  نجم الأمة التركية يأفل، وأردوغان بدأ يتخبط في سلبيات، رغم أنه لايزال في المراحل الأول من الهبوط السياسي والتراجع الاقتصادي، ولا شك سيقوم بمحاولات وتكتيكات، لإدامة هيمنته، والحفاظ على الاقتصاد منعشا، ويتوقع المراقبون بأنه سيحاول إعادة العلمية الانتخابية بعد أن تتراجع العملة التركية بشكل  اضخم أمام العملات الصعبة، و يتباطأ النمو الاقتصادي وخاصة تراجع التصدير والاستثمارات الخارجية، حينها قد يتحرك سياسيا للتمهيد لإعادة الانتخابات المبكرة، من خلال عدم إمكانية تشكيل حكومة الشراكة، أملا منها الحصول على النسبة التي تسمح له بتشكيلها بذاته، مستندا على أمل خروج الشعوب الديمقراطي من البرلمان ككتلة حزبية، معتمدا على الأغلب على دراساتهم لنتائج الانتخابات، وخلفيات  تغيير النسب المتوقعة، والتحاليل التي عرضها بعض المحللين في مجلة (Foreign Policy) الأمريكية، بأن هذا الحزب حصل على نسبته القانونية (من خلال اقتراح من حزب الشعب الجمهوري بمنح نحو 3.5 % من أصوات ناخبيه إلى حزب الشعوب الديمقراطي، كاستراتيجية "مناهضة لأردوغان" من أجل الحؤول دون قيام نظام رئاسي واسع الصلاحيات، ودون حدوث مزيد من التأكّل في الحقوق والحريات) إلى جانب أصوات منظمات اليسار التركي وحزب الخضر والعلويين، والخطوة هذه سوف لن تكون أكثر من محاولة للحفاظ على الهيمنة والهيبة، وليس وضع الحلول الجادة لوضع تركيا، فالسلبيات عديدة، ومن أهمها القضية الكردية، إلى جانب تباطء نمو الاقتصاد، وتراجع واضح في بعض القطاعات، بسبب تخلي  الشركات الرأسمالية العالمية عن الدعم وبتدرج، على خلفياته السياسية والدينية المذكورة.
  بدون البث بشكل جدي في هاتين المعضلتين، لن يتوقف التدهورين الاقتصادي والسياسي، والقصر الرئاسي الذي بناه سوف يكون لقوى قادمة، ولن يحدث التغيير في الدستور لتوسيع صلاحيات الرئيس، لكن وبلا شك ستمر سنوات أخرى قبل: أن ينتهي أردوغان، الذي خلد عصرا ذهبيا لتركيا، وتندرج العدالة والتنمية ضمن سويات الأحزاب التركية الأخرى، بعد أن بلغت من القوة ما لم يبلغه أي حزب تركي آخر، منذ عام 1950، عندما فاز الحزب الديمقراطي، تحت رئاسة جلال بيار و عدنان مندرس، في الانتخابات النيابية فوزاً ساحقاً وحصلوا على 403 مقاعد من أصل 482 مقعداً لكنهم لم يمتلكوا تلك الفترة الزمنية الطويلة. 
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamkurda@gmail.com 
18/6/2015
 







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=19328