ثقافة التملُّق
التاريخ: الأحد 13 تشرين الاول 2013
الموضوع: اخبار



حيدر عمر

أنحني إجلالاً و تقديراً لكل قطرة دم تُراق في سبيل الحرية أينما كان، هو ذا الشهيد يجبرك أن تشعر بصغر نفسك تجاهه، فهو الذي استصغر الحياة، فجاد بها ليرسم البسمة على شفاه هي غير شفاهه، و ينتزع من براثن الاستبداد حياة فضلى لغيره، فيحتل بذلك مكانة لا يرقى إليها إلا أصحاب النفوس الكبيرة.
 و إذا كان الشعب الكردي في ثلاثة أجزاء من وطنه الممزق قد جعل التاريخ عاجزاً عن تعداد شهدائه،  فها هو في جزئه الرابع يدخل هذا الامتحان الكبير بنفس أبية، و يخط في سطره الأول أن لا شيئ يضاهي حرية الأوطان و الشعوب.


منذ أن بدأت الثورة السورية التي اختطفها الإرهابيون، قدم الشعب الكردي في سوريا و غرب كردستان عشرات الشهداء من خيرة أبنائه و بناته، و لا يزال زملاء أولئك الشهداء مصممين على المضي في هذا السبيل الذي ساروا فيه، لكأن الدهرأبى إلا أن تتعمَّد صفحات التاريخ الكردي بدماء أبناء هذا الشعب الذي تجرَّع الحياة علقماً، و الذي ملَّ حياة العبودية، فانتفض يسطر ملاحم البطولة في وجه سلطة الاستبداد و عتاة الإرهابين.
و إذا كان من واجبات الأديب الحقيقي أن يواكب انتفاضات و ثورات شعبه، فإنه من المؤسف أن نقول إن الأدباء الكرد من غرب كردستان، سواء كانوا في الوطن يعيشون الأحداث عن كثب، أو في الشتات يراقبونها، لم يتفاعلوا معها كما يجب أن يكون التفاعل، فتحول قسم منهم إلى محللين سياسيين و كُتَّاب البوستات على الفيسبوك، و قسم آخر لا يزال يلتزم الصمت، و أقل القليل منهم راح يكتب بين حين و آخر مقطوعات شعرية أو نثرية، أكثرها باللغة العربية، مما يدعو إلى التساؤل كيف لم يستطع كل هذا الدم الكردي المُراق على مدى ما يتجاوز السنتين و نصف السنة أن يثير القرائح ، فنرى عملاً أدبياً قصة أو قصيدة تتفاعل معه باستثناء بعض مقالات صدرت عن قلة قليلة لم تتجاوز أصابع اليد الواحدة؟.
 جاء استشهاد شرفان، النجل الأصغر للسيد صالح مسلم الرئيس المشترك لحزب الاتحاد الديمقراطي قبل أيام ليحرك مياه الأدباء و المثقفين الراكدة، و ليوقظ بعض الضمائر النائمة، فينبري عدد من الأدباء، شعراء و كُتَّاب، وبعض السماسرة أيضاً، يجزلون عليه الثناء و المدح، لكأنه افتتح موكب الشهداء، و ليس واحداً سبقه العشرات.
انهالت برقيات وبوستات التعزية على السيد صالح مسلم، يواسيه أصحابها و يشاركونه في مصابه، و لم يقتصر هذا الأمر على الساسة من قادة الأحزاب و المنظمات السياسية الذين يعتبر واجب العزاء، في هذه الحال، من أولوياتهم مهما كانوا مختلفين معه في الرؤى و الأفكار، باعتبار السيد صالح مسلم زميلاً لهم. أما أن ينهض الأدباء فجأة و يتباروا في التعزية متجاوزين عشرات الشهداء ممن صمتوا عند استشهادهم، فإن الأمر يدعو إلى التساؤل، و لعل موقف أحدهم، الذي لم يُسمع له صوت قط طيلة سيلان الدم الكردي في غرب كردستان و سوريا، أكثر غرابة، و مدعاة إلى التساؤل.
لقد تألمت لاستشهاد هذا الشاب مثلما تألمت لاستشهاد غيره من أبناء الكرد سواء كانوا منضمين لوحدات الحماية الشعبية أو من المدنيين، و لا أستطيع أن أفاضل بينهم، و لا سيما بين الشهداء من أفراد وحدات الحماية، فكل واحد منهم مشروع استشهاد تنحني له القامات، و لكل واحد منهم أب و أم و إخوة و أخوات تنزف قلوبهم حزنا على فراق فلذات أكبادهم.فما الذي يميِّز الشهيد شرفان عنهم حتى تتسابق أقلام الأدباء تنعاه و تعزي بعد أن كانت علاها صدأ  لم تستطع دماء العشرات من الشهداء أن تزيله عنها؟ لماذا لم نقرأ لأحدهم تعزية لأولئك الآباء و الأمهات في استشهاد أبنائهم؟
لا أعزي السيد صالح مسلم وحده، بل أعزي كل الأمهات و الآباء الذين ضحَّى أبناؤهم و استشهدوا، و لا أميِّز بين هذا الشهيد و ذاك، و إذا كانت الحال تدعوني إلى التمييز، فإنني لا أميِّز الشهيد شرفان، و لا أتغنَّى باستشهاده ناسياً غيره من الشهداء، بل أميِّز السيد صالح مسلم ليس كأب، لأن ثمة آباء آخرون سبق أبناؤهم ابنه في الشهادة، و فاتتني كما فاتت غيري تعزيتهم، بل أميِّزه عن غيره كرئيس حزب، دفع ابنه نحو الاستشهاد، و هو فِعْلٌ لم يسبقه فيه أحد من رؤساء و قادة الأحزاب الكردية في غرب كردستان.
يقول السيد صالح مسلم في رسالة إلى الشعب الكردي عبر فضائية روناهي: "إن الشهيد شرفان ليس الوحيد من أبناء شعبنا الكردي، و هو ليس الشهيد الأول". هذا الكلام، بالإضافة إلى كونه كلاماً منطقياً يصدر عن سياسي و رئيس حزب استشهد ابنه في سبيل غاية لم ترتو بعدُ من دماء عشاقها،أرى فيه تلميحاً لأولئك الذين أيقظهم استشهاد هذا الشاب من سباتهم، فتسابقوا إلى تعزيته، و تذكيراً لهم بأن لا تفاضُل بين الشهداء.
إذن هل نحن في مواجهة ثقافة التملُّق؟ ربما. لقد تحدث ابن خلدون في مقدمته المشهورة عن هذه الثقافة و أسباب نشوئها، فعزاها الرجل إلى السلطة التي تهيئ المناخ الملائم لنموها، و ذلك بتقريب أصحاب النفوس الواهية الذين يتغنون بأمجادها مقابل بعض الفتات، و كلما تراكم هذا التغني، و اتسعت دائرته، كلما مالت السلطة نحو الاستبداد وزادت في غيِّها و ظلمها، و تحولت إلى الديكتاتورية، و حوَّلت الناس إلى عبيد لها.
هذا الجيل السوري عامة، بمن فيه الكردي، قد نمى و ترعرع في ظل نظام استبدادي قلَّ مثيله في العالم، تحكَّم في مفاصل المجتمع السوري من خلال أذرعه الأمنية المتعددة، و زرع الخوف في النفوس، و اتبع سياسة خنق الأصوات المعارضة لسياسة الديكتاتورية، فاصبح المجتمع يفتقد مستلزمات التفكير و التعبير عن الرأي و الحوار و المناقشة و الحريات الفردية و النقابية و حرية الصحافة و غيرها من مستلزمات و ضرورات و شروط الانتاج الفكري الناضج الذي يستطيع أن ينظِّر و يؤسِّس للتطورات الهامة و المصيرية في المجتمع، مما جعل الأدباء و الكُتّاب و المثقفين عامة في مفترق طرق، إما الفرار و مغادرة الوطن أو الانسحاب من المشهد الثقافي و الأدبي و الاكتفاء بالصمت، أما الطريق الآخر، فيدفع المرء باتجاه تملُّق النظام و استجداء رضاه، و إلا، فأبواب الزنزانات، التي غاب فيها مناضلون كثر،مشرعة دائماً أمام المنتقدين و المعارضين.
في هذه الأجواء و مع اتباع هذه السياسة تنمو لدى المثقفين و الكتَّاب ثقافة المدح و التمجيد كدلالة على الرضا و دعم المنهج الديكتاتوري و مباركته بكل أعماله الإجرامية و تبرير أخطائه،فتتفشى في المجتمع ثقافة التملُّق الصادرة عن عقلية مصابة بداء الطمع، ينافق حاملوها سلطة واحدة و حزباً واحداً قابضاً على مقاليد الحكم.
 إن هذه الثقافة التي ظل النظام السوري دائباً على ترسيخها طيلة خمسة عقود، فتشظت إلى مختلف مرافق الحياة، حتى كدنا نرى مظاهرها في أوساط المعارضة التي من المفترض أن تكون أول المناهضين لها، باعتبار أن أعضاءها هم أنفسهم من ضحايا هذا النظام، لا يمكن أن تزول آثارها بين ليلة و ضحاها، بل ستظل تمارس فعلها في نفوس معتنقيها، و تفرخ المتملقين إلى أن تتغير مناهج التربية و التعليم، و يُبنى جيل جديد في أجواء تربوية و سياسية صحية، تنمي في نفوسهم حب الانتماء للوطن لا للحاكم.
 لقد كشف استشهاد الشاب شروان مسلم مدى تغلغل ثقافة التملُّق في المشهد الثقافي الكردي في سوريا و غرب كردستان، هذا المشهد الذي ذاق ممثلوه الويلات من هذا النظام، وكان هو نفسه الضحية الأكثر تضرراً من هذه الثقافة، التي من المفترض أن يكون المثقف و الكاتب الكردي ليس من أكثر الداعين إلى نبذها فحسب، بل من أشد الساعين إلى هدمها من أساسها. 








أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=16343