لا مساوَمة على الحرق، لا مساواة في الحرق
التاريخ: الخميس 09 تشرين الثاني 2006
الموضوع: اخبار


هيثم حسين

إلى شهداء سينما عامودا، وإلى مَن لا تزال النار مستعرة في قلوبهم، وإلى كلّ مَن يعاني احتراقاً بطريقة ما، أتقدّم على استحياء لأضمّد جروح حروقهم بالكلمات، ومواساتي لهم أنّهم تحدّوا النيران الكافرة.. وأثبتوا لها أنّهم يبقون أقوى منها، وسيُبقونها مستعرة لئلاّ ينطفئ حقدهم بانطفائها.  
أقول بأنّني مندوب حرقٍ لا يساوم.. لم.. ولن يساوم..  مقتبساً من محمود درويش قوله:
"إنّني مندوب جرحٍ لا يساوم.. علّمتني ضربة الجلاّد أن أمشي على جرحي وأمشي ثمّ أمشي وأقاوم".

هكذا أجد نفسي منذوراً للنار، منبئاً روحي بالخلاص من سعير جهنّم، حيث ووفق المفهوم الشعبيّ للدين، إنّ من يحترق على الأرض يفتديه هذا الاحتراق يوم القيامة.. ويثيبه الله على تعذيبه بالجنّة تامّ الجسم كامله، لا حرق، لا تشوّه، لا كوابيس ناريّة، لا إحراقات نفسيّة، لا خواف ناريّ، لا جنون مزمن، لا خوف، ولا هم يحزنون.. ولا هم يساومون..
إن صدق هذا الزعم الشعبيّ المؤمّل العباد المنكوبين، فلا شكّ، إنّ كلّ أبناء عامودا سيكونون نزلاء الجنّة، لأنّ كلّ واحدٍ قد اكتوى بالنار من جانب ما، من زاوية معيّنة، وخيوط الدم تربط بين الجميع، فآباء وأمّهات الشهداء وإخوانهم، هم أكثر التظاءً واكتواءً بالنار من المفقودين المخلّدين في الذواكر العصيّة على الفرمتة، بمعنىً ما، لأنّ النيران تبقى مستعرة في القلوب والدماء، يشتدّ أوارها، ويزرقّ لهيبها، ليورث الأسى والتحدّي والإذكاء المستمرّ الآبي أن يترك مكانه شاغراً، أو يترك الموقد فارغاً، يكون التحطّب بالقلوب والأرواح التي تراهن على  مداومة الحياة في قلب اللهب..    
الأرض وحدها موطن النقص والحرق والتشوّه والكوابيس والإحراق والخواف والجنون والخوف، وأبناؤها على حزنهم يداومون..
هنا كلّ الأذى، وهناك الأمل، ومن يعيش الأسى هنا تراه يعتاش على الأمل هناك، آملاً في إنصاف غير متحقّق في ملاذ آمن غير مساوَم عليه..  ونستذكر هنا جملاً للكاتبة تسليمة نسرين عن ضرورة التسلّح بالأمل:
"هناك أنواع من الأمل تساعدنا على الحياة، القليل جدّاً في هذه الحياة يجعلها تستحقّ أن نعيشها، ولذلك لا معنى في أن نفقد هذه الآمال التي تجعل الحياة تستمرّ ".. ص192 رواية "العار" الصادرة عن دار آرام في دمشق 1999 م .
يُغرَّر بالأحياء الأموات بأنّهم عندما يموتون سيحيون، أي سيكونون الأموات الأحياء، لذا يعجبهم موتهم في الحياة، ولا يحاولون أيّ تغيير للمكتوب لأنّ نقطة قد وضعت في نهايته، رضوخ واستسلام.. ولتضيع مقولة: نحن نصنع مستقبلنا وحياتنا، أدراج الرياح..
من يصدّق يُطمئِن نفسه، يحتقر الزائل آملاً في الباقي، فيخسر حياته، ولا يضمن بعدها.. ولا يساوم..
ومن لا يصدّق ذلك، أيضاً بدوره يقنع نفسه ويصدّق شكّه، يسعى ليكسب حياته، ولا يضمن بعدها، ولا يساوم على بعدها.. ولا يهمّه ذلك، أو قد يهمّه عندما يتخلّل تيقّنه شكوك أو عندما يتسرّب إلى شكّه شكّ ما..
وفي هذه الحالة أو تلك يكون الكلام قريباً من بعضه، إيماناً أو تمثيلَ إيمان أو مجاملةَ مؤمن..
وحالات، اللامساومة واللامساواة، تكون من منطلق القهر والإرضاخ، لا من دوافع المساواة والتوحّد، فالمقصلة إن لم تجد من تقصل رقبته فاصلة  الرأس عن الجسد، فإنّها تبري نفسها وتتآكل والقيّم عليها، ذاك المجلود بجلده، والمذبوح بذات السيف الذي يذبح به..

في عامودا المقبرة:

هل يا ترى المقابر هي مقابر الأجسام..؟!
وهل تَعورِف على مقابر الأرواح..؟!
وهل يجب أن يكون المسمَّى قبراً ضامّاً قطعة لحمٍ، حتّى يكون جديراً بالتسمية المطلقَة عليه..؟!
وهل المقبرة إلاّ مجموعة أجسام مُفناة في الحقيقة وفي الذاكرة كذلك..؟!
ماذا عن الأرواح المنبعثة بالموت ومنه..؟!
وهل الموت هو سكونها وتوقّفها عن التأثير فيما يحدث..؟!
إن كان كذلك فمِن الأموات مَن مات، ومنهم مَن لن يموت، لأنّه المسعّر ذاكرةَ مَن يريدون له دوام البقاء بينهم..
في الوقت الذي تكون فيه المقبرة المدينة مسوّرة بأسوار مكهرَبة وقاتلة في توهّمها أنّها قد قتلت وقبرت وانتهت من مهمّتها.. وفي زيارة إلى المقبرة، تظهر فداحة الكارثة التي حلّت بعامودا، فكم من قصص حبّ قد قُبرت، وكم من آمال قد اغتيلت في غرق التايتانك العاموديّ الناريّ حرقاً، في ذلك الحين الممتدّ في الآنِ والمستمرّ فاعلاً فعله بالسوط المنتقل من قبضة إلى أخرى، ذلك الحين الذي انعدمت فيه قوارب النجاة رغم كلّ الاستغاثات المنثورة على الجهات التي كانت تخادع نفسها متعامية عن السعير، متصامّة عن الصراخ، جادعة الأنوف لئلاّ تشتمّ رائحة تفحّم محترقي مستعبدي إله غافل عن مهمّته، اللّهمّ، إلاّ قلّة من الأبطال كانوا قباطنة النار، أبحروا في قلب ألسنة اللهب، قتلوا الجبن والخوف وتخلّدوا، في وجدان التاريخ، ووجدان الأمّة، كان في مقدّمتهم قبطان الشهداء وشيخهم، السائر بموكبه الملائكيّ، وبأطفاله الأبرياء في رحلتيهم: إلى الجنّة، وإلى المجد والخلود في الأرض وفي السماء، البطل محمّد سعيد آغا الدقّوري، ليكون الفادي، وليكون المُؤْثر والمضحّي دون ترجّي أيّ إثابة أو جزاء أرضيّين، لم ينتظر أيّ امتياز، محقّقاً أقصى غايات الجود ألا وهو الجود بالنفس.. وإلى جانبه بضعة أبطال لا يُنسى جميلهم، وإن كان في ضمائر مَن أُنقِذوا على أيديهم من الأطفال الذين غدوا آباء وجدوداً، وتوارثوا المعروف مع الأبناء والأحفاد، ليبنوا لهم مدائن شكر.. وإن كان ذكرهم أقلّ، فهذا لا يبخسهم حقّهم، لأنّ المرء عندما يعمل عملاً بطوليّاً لا يبتغي منه أن يتعظّم بثمرات بطولته، البطولة موقف ورهان البطل على نفسه، ولا يهمّه إن شُكر أم لم يُشكَر..
إنّ المدن المقابر هي الأكثر صمتاً وسكوناً، بينما مقابر المدن هي الأكثر حياة وإحياء وتثويراً، وبخاصّة في عامودا، هي الماضي، هي الأمل، لأنّ بناة المقابر ومشيّدي اللحود لا يغيّرون في التاريخ شيئاً، مَن يغيّر هو مَن مات ولم يمت، مَن مات وتخلّد، مَن يشكّل موته، استشهاده، قتله، معضلة تنعقد وتتعقّد، وتثير الكثير من المعضلات في أذهان الأموات الأحياء..
وبهذه المناسبة، أجد من الملفت والغريب، أن تكون مقبرة الشهداء، التي هي نفسها، مقبرة ذويهم، في مدينة عامودا مهمَلة إلى هذا الحدّ، حيث لا سور يسوّرها، أو يحميها من عبث العابثين من السكارى أو الأطفال أو المنحرفين أو الحيوانات.. لتكون منضمّة إلى المدينة المقبرة ومتكاتفة معها من ناحية الإهمال.. يقول الكلّ: لابدّ من إيلائها الاهتمام لتكون لائقة بشهدائنا وموتانا، ويتناسى الكلّ أن يوليها أيّ اهتمام منادَى به.. لتبقى على ما هي عليه في انتظار مَن سيتكلّف عناء الكرَم..

 ضحايا الاحتراق، أضاحيّ الإحراق:
 
حين يعادي الزمن نفسه، إن نحن بثثنا فيه بعض ما ليس فيه، أو يكسر قانونه، ويتمرّد على ما سنّه تلقاءً، أو ما سُنَّ إرغاماً، فيرجع عن القرار قبل البدء بتطبيقه.. لتكون الفصول مبدوءة بالخريف، ومنتهية به، وليصبح الخريف سالباً ربيعَ الأعمار المأمولَ.. لتكون الدورة عبارة عن خريف يجترّ خريفاً، يسترجعه بطريقة أكثر تراجيديّة وأعظم إيلاماً، خريف مكرور يعمّ الأجواء بالنهايات، ويصمّ بخريفيّته وجدبه وإنهائه ما لم يبدأ بعدُ، بقهره لمسرّة قد تغافله مقتحمة حياة من أدمنوا الخريف المجتاح طول زمانهم وعموم مكانهم.. يغنّي المآسي، يستوقد الآهات، يلحّن الدموع التي تتحدّى المآقي، فتضلّ منحَدَرها، لتنحدر إلى أعماق القلب الذي ينذهل من شدّة الصدمة وهولها، فيبقي الدمع مدراراً ممتزجاً بالدم خالقاً بذلك تركيباً فريداً في أساه وقهره وحرقه قلبه، خالقاً زمزماً مقدَّساً طهوراً غير منافَس..
الضحيّة لا تستطيع دفاعاً، وكفاها فخراً وشرفاً أنّها الضحيّة، وليست الجلاّد، ولكنّ ما يؤلمها أكثر من الفعل الذي أحالها ما هي عليه، أن يضحّى بتضحيتها، أي تصييرها أضحيّة، فتفرّغ من معناها من جهة، ومن جهة ثانية تغدو بضاعة للمساومة، ليعرّف بها الباحثون عن تعاريف غير مقنعة، وليقولوا وليدافعوا، وليماروا الإخفاق وليداروا الهزائم، وليُجهزوا على الضحايا بسلبهم قيمتهم كضحايا، بتقديمهم أضاحيّ في أعياد غير خليقة أن تعيَّد..
ثمّ ليكمل الخريف، وائد الربيع موئده، مع الخريفيّين نهب ربائع قيد التبرعم، يكون البحث عن خريف برسم التأبيد، والسعي من جهة ثانية إلى ربيع برسم الترميد..
ليكون الربيع الضحيّة التي يضحَّى بها في أسواق البحث عن أكشاك تنغلق على أصحابها..            
وليكون الربيع الأضحيّة التي تقدَّم لآلهة لا تعرف من الألوهيّة إلاّ عبادة العبيد..
يعاود الزمن تيهه، بين أن يمحو الخريف من قاموسه، وبين أن يدافع عن الزرع المحرَق وهو في عزّ اخضراره، أو، وهو سائر إلى أوج عطائه.. يحاول أن يعود إلى الوراء، لا ارتداد في النظام المتّفق عليه إلى الوراء، ولا توازن أو موازنة بين السلب وغيره، ويقال عن غير السلب الغير، لأنّه لا يمكن أن يوصف بالإيجاب، حيث هناك أسوأ ممّا رُؤي أو عُوني منه، ونشر ثقافة الاستسلام كفيل بترويج العبارات الحامدة الشاكرة على كلّ حال، وفي كلّ الأحوال..
إنّ الزمن لا يطوَّع، ولا يمكن لعشرات الخرائف المدبَّرة، أن تسيطر بالخرافات المشتملة عليها والمشتقّة منها، وأن تقتل في البذرة الراغبة في الإزهار والحياة قوّتها المندفعة والمتحدّية الكامنة في قلبها، الذي هو قلب العالم كلّه، أو العالم كلّه.. وإنّ أجيال النار قد أشاحت بوجهها عن النار وتجاوزته لتحيا، في حين ينتحر بالنار العابثون بالمصائر.
   
 





أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=1075