رسالة قومية
التاريخ: الخميس 10 تشرين الثاني 2011
الموضوع: اخبار



د. سربست نبي

ذات مرة كتب الألماني بيسمارك قائلاً (هكذا هم الفرنسيون...يمكن أن تجلدهم خمساً وعشرين مرة, وأنت تلقي عليهم خطاباً جيداً حول الحرية والكرامة الإنسانية.... إنهم لاينتبهون للضربات, ويصغون جيداً للخطاب) هذا هو حال الكورد السوريين دائماً. هم ولعون بالثورة والحرية دون أن يكترثوا بالسياط التي يتلقونها باستمرار.
إرادة الثورة والتغيير كانت حاضرة على الدوام لدى الكورد السوريين, إلا أنها كانت تسبق وعيَ التغيير ومنفصلة عنه. كانت إرادة مجردة لا تاريخية، وقد باتت الآن متلازمة مع الوعي التاريخي بالتغيير ومتوحدة به.


معضلة الكورد السوريين لم تعد, بعد الآن, مع نظام الاستبداد العنصري في سوريا, لأن مسألة بقاء هذا النظام من عدمه غدت مسألة وقت ليست إلا. إنما المعضلة الرئيسة هي مع تركة النظام السياسية والاجتماعية, من استعباد وتشويه وإقصاء وتعريب للكورد والجغرافية الكوردية....الخ التي ينبغي أن تزول بزوال النظام, وهذا هو المحك الذي ينبغي لأيّ نظام بديل ومحتمل أن يثبت جدارته الديمقراطية وشرعيته الوطنية الشاملة عليه. وما يبدو جوهريّاً بالنسبة لنا وحيوياً بالنسبة لمستقبل قضيتنا هو إعلان الثورة أولاً على تركة النظام العنصري.
من هذا المنطلق تبدو مسألة التغيير من أجل ذاته (التغيير من أجل التغيير) عبثية وتشكل خيانة وطنية وإنسانية, لأن الغاية القصوى التي يبرر بها التغيير تنبع من مبدئها، وهي التخلص من الاستبداد السياسي- العنصري وميراثه, والإتيان بنظام ديمقراطي- تعددي يقوم على المساواة بين المواطنين ويضمن اختلافهم. وهذه المساواة المنشودة لا تتجه بأثرها نحو مطالب المستقبل فحسب حتى يضمن الكورد حقوقهم المشروعة والعادلة, وإنما يتعين أن تتحقق كذلك بأثر رجعي, وذلك عبر إزالة آثار الغبن القومي والاضطهاد الذي تراكم خلال عقود من سياسات البعث. وعليه يبدو ضرورياً وأمراً ملحاً أن تتطهر تماماً الدولة السورية, مستقبلاً, من ماضيها الاستبدادي والعنصري, وتتخلص من ميراث التعسف بحق الكورد، عبر مجموعة من التدابير السياسية والتشريعية، وحتى الرمزية, التي تؤهلها لأن تكون دولة عموم مواطنيها, وتثبت على هذا النحو أنها مستقلة عن كل المظاهر الأيديولوجية والعنصرية التي طبعتها بطابعها.
ما يجدر ذكره, في هذا السياق, أنه ليس ثمة بينة أو قرينة تنبئ عن استعداد المعارضة العربية السورية على الاعتراف بالحقوق القومية للكورد السوريين, أو إعلان القطيعة مع ميراث البعث العنصري وسياساته الإنكارية تجاه الكورد وقضيتهم حتى هذه اللحظة. وهذه القوى حين تجد نفسها مرغمة على الحديث عن الشأن الكوردي السوري إنما تتحدث بطريقة عمومية وضبابية أقرب ما تكون إلى تصريحات وزراء أعلام حكومة البعث وناطقيه. وهي في ذات الوقت تطالبنا بتأييد مطالبها السياسية بحزم دون الاكتراث لحقوقنا العادلة بالمقابل. ويتعذر اليوم الحديث عن تحالف مشترك للمعارضة السورية, شامل للكورد والعرب, بغياب هذا الخطاب الديمقراطي, الجذري والشامل, الذي يحتوي مطالب الكل ويستغرقها, ويؤكد على عدالة القضية القومية للكورد السوريين. على هذا النحو يتحدث الإسلامي- العروبي (الشيخ عرعور) في مواعظه قائلاً: إن من يطرح الآن شعار الجمهورية السورية إنما يخدم النظام. والكورد بطرحهم هذا يظهرون كرهاً للعرب. إن حقوق الكورد ستمنح لهم بعد السقوط, والفيصل بيننا كتاب الله) وكذلك نظيره الإخواني (البيانوني) ولا شذ عنهما برهان غليون (المثقف الحداثي كما يحب أن يصف نفسه- رئيس المجلس الوطني السوري) الذي يصرّ في حواراته على عروبة سوريا, ويشبه الوجود الكوردي فيها بالمهاجرين في فرنسا!)
إن الاعتقاد بسوريّة القضية الكوردية والاعتراف بها, من جانب هؤلاء, لا ينبغي أن يقوما على أساس وعي عروبي مجرد, وإنما من خلال وعي سوري مشخّص. وعي بالمواطنة القائمة على الاختلاف والإقرار بالتعددية السياسية والتاريخية والثقافية. وهذا الاعتقاد لا يكون ممكناً إلا عبر الإقرار الدستوري والسياسي أن هويّة سورية السياسية ليست عربية فقط, ولا ينبغي أن تكون عروبية كذلك، إنما هي تعددية. وينبغي لأيّ نظام سياسي محتمل أن يستمدّ شرعيته من المجتمع السوري بتنوعه القومي والثقافي والاجتماعي والتاريخي القائم, وأن يجد أسسه الواقعية في هذا التنوع ويعكسه في مبادئه العامة. وعادة ما يكون الدستور هو الناظم لهذه المبادئ العامة ولعلاقاته. ولهذا من العدل تماماً أن ينصّ الدستور السوري مستقبلاً ويحدد بوضوح أن الدولة السورية هي دولة متعددة القوميات، وأن العرب والكورد يمثلان القوميتين الرئيستين. إلى جانب الاعتراف بحقوق الجماعات القومية الأخرى كـ الكلدوآشوريين وغيرهم. وأن على أيّ دستور ديمقراطي محتمل لسوريا أن يقرّ بالتساوي التامّ بين العرب والكورد في المكانة والدور, وفي الحقوق والوجبات, كمدخل عادل ورئيس لحلّ القضية القومية للكورد في سوريا. وعليه أن ينصّ كذلك بأن البرلمان، أو أيّة سلطة أخرى, لا يملك حق المساس, بهذا المبدأ, أو يحدّ من شموليته ومن تحققه في كلّ مناحي الحياة السياسية أو الاجتماعية، وأن أيّ قانون يمسّ هذا المبدأ أو وجاهته يطعن في دستوريته, ويعدّ مخالفاً لعقد التأسيس والشراكة, وباطلاً في نهاية المطاف.
الوضع الكوردي في سوريا بات هشّاً للغاية, مستباحاً ومخترقاً إلى حدّ كبير. وهناك قوى تسعى إلى ترسيخ قيم سياسية جديدة وسط الشباب الكوردي. قيم تتعارض مع مبادئ العلمانية والديمقراطية والتسامح التي ميزت الوعي السياسي الكوردي طوال نصف قرن. قوامها التعصب المذهبي وعدم التسامح وإنكار الانتماء القومي. وهناك الكثير من الأوهام السياسية القاتلة والأفكار التي يراد لها أن تنتعش في الوسط الكوردي المشبع بإرادة الرفض للاستبداد والساخط عليه. السذج فقط يلهثون وراء شعارات الإسلاميين والعروبيين في التغيير. فهؤلاء أبعد مايكونوا عن مطلب التغيير الحقيقي. إذ لم يكونوا في يوم من الأيام مؤيدين حقيقيين للديمقراطية, ولا للتعددية, ولا للعلمانية. وهذه المطالب الثلاث هي أثافي التغيير الحقيقي والمنشود في سوريا, التي من دونها لايمكن إنجاز الحداثة السياسية في البلد. إن الغاية القصوى التي يتطلع إليها هؤلاء من وراء التغيير هو تداول الغنيمة والاستحواذ على كرسي السلطة في دمشق, مع الحفاظ على كامل التراث العنصري العروبي والطائفي للسلطة في سوريا.
واهم من يعتقد بأنه يمكن أن يكون هناك نظام ديمقراطي حقيقي في سوريا غير علماني, وأكثر وهماً, وأكثر وهماً من يتحدث عن مساواة حقيقية بين السوريين دون نظام علماني, ومخادع أو ساذج من يظن أنه يمكن للكورد السوريين أن يتساووا مع غيرهم من مواطنيهم دون علمنة النظام السياسي في سوريا مستقبلاً.
إن الحراك السياسي الكوردي في نشأته وأفقه كان ذو توجه ديمقراطي وعلماني, وتكرّست فيه هذه القيم السياسية والتقاليد على الدوام, وليس هناك الآن مايبرر التخلي عن هذه القيم, إذ إن ضريبة ذلك ستكون باهظة على مستقبل القضية القومية سياسياً. يقول سان جوست (إن الشعوب تخدع أكثر مما يُخدع الرجال) والحق أن شعبنا يتعرض لعملية خداع شاملة من جهات وأفراد باعوا ضميرهم القومي. وتحدث الآن عملية نصب واحتيال على حقوقه من قبل مقاولين جدد يستهترون بالتضحيات التي قدمها طوال أكثر من نصف قرن, ويقامرون بمستقبله.
القضية الكوردية بدورها أمست هامشاً على قضايا الآخرين وحاشية عابرة في خطاباتهم السياسية ومشاريعهم. وعربة الثورة راح يمتطيها قراصنة جدد من كل صنف ولون. فقد طغى على سطح الحدث عدد هائل من الذين شرعوا في احتكار الحديث باسم الثورة والمعارضة دون أن يكون لهم أي إسهام سياسي أو نسب ديمقراطي- معارض, ويريدون التلاعب بمصير الشعب ومستقبله.
في مثل هذه الأوقات يصبح التردد أو دور المتفرج شديد الخطورة. وهذا الدور لايتسق مع الادعاء بحق التمثيل القومي وشرعيته, إن في ذلك محض مكابرة ومعاندة فارغة من دون مواجهة هذا التحدي المصيري بحسم. إن الرجال الذين غيّروا التاريخ لم يحققوا ذلك بالمهادنات ولا بالمكابرة الفارغة, وإنما فقط بفهم التاريخ وإدراك منطقه بحسم, وجسدوا كل ذلك في سلوكهم ومواقفهم. إن وعي هذا التحدي ومواجهته هو الشيء الوحيد الذي يبرر بقاء أية قوى سياسية على مسرع التاريخ ويبرر دعواها بتمثيل القضية القومية.
كان تحرر الشعوب, على الدوام, بسبب وجود نخبة طليعية قائدة, ورؤية سياسية ناضجة ومستقلة, وإرادة عامة مستعدة للمواجهة وللحسم التاريخي. وعندما ينهض شعب ما للتخلص من الاستبداد والقهر دون أن تكون لديه نخبة طليعية قائدة ورؤية مستقبلية فمن السهولة بمكان أن ينساق في النهاية ويقع أسيراً لمكائد أعدائه.
إن غياب الخطاب السياسي المشترك, والفشل في تأسيس القرار القومي, حتى هذه البرهة, وعدم وجود نخبة سياسية قادرة على الاستقطاب والقيادة, كلها ملامح أساسية للأزمة الخطيرة التي تواجهها القضية الكوردية في سوريا, وتطبعها بطابعها الخاص. ومن هنا تبرز أهمية الدعوة بضرورة الارتقاء إلى مستوى هذا االتحدي السياسي والتاريخي وذلك بتجاوز حالة العطالة السياسية السلبية والخروج من مأزق التردد. إن جيل الشباب الكوردي الثائر يعيش راهناً اندفاعاً جماعياً للتغيير, وهذا مبرر بكل الاعتبارات. لكن ما لايمكن تبريره هو ترك هذا الجيل عرضة للمفاجئات العاطفية واللاعقلانية, والمصادفات العابرة. وما يبدو هاماً وملحاً, في الوقت ذاته, هو أن تصاغ جميع مبادئنا ومطالبنا بشكل واضح ودقيقي, وعدم التنازل عنها تحت أيّة ذريعة, وتوفير الضمانات اللازمة لعدم إقدام أية جهة أو فرد على المساومة عليها أو التقليل من شأنها. إذ ينبغي احترام حقوق هذا الشعب بقداسة, وفوق كل اعتبار ومبرر...







أتى هذا المقال من Welatê Me
http://www.welateme.net/erebi

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/erebi/modules.php?name=News&file=article&sid=10677