د. آلان كيكاني

الموتُ ذو سلطان وجبروت , مرعبُ يخيف الصناديد من بني الشر , إذا حضر فلا راد له وإذا جاء فلا مهرب منه , ذو بأس يقهر أعتى الجبابرة على وجه الأرض , يدرك المرء حتى إذا تمترس ببروج مشيدة , وهو نهاية كل كائن حي وقد عبر القرآن عن ذلك بآية قال فيها الله تعالى "  كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " .

كونك طبيباً ستعايش الكثير من الناس الذين هم على فراش الموت ينازعون ويلفظون أنفاسهم الأخيرة , وستتأكد عملياً مدى صعوبة هذه اللحظة القاسية في حياة الإنسان التي تنقله من كائن حي يأكل ويشرب ويضحك ويبكي ويحب ويكره وينام ويشقى , إلى جسم ميت لا يصلح إلا للدفن تحت التراب لإبعاده عن محبيه ولتجنيب الناس من الروائح الكريهة التي سرعان ما تنبعث منه حين يمسي جيفة منتنة , وترى الناس قد اجتمعت حوله لتعبر عن صدمتها وتقول : يا سبحان الله لقد كان بالأمس يسهر معنا , والآن هو في القبر , يا له من دهر !
كنتُ أشرفُ منذ بضعة أشهر على مريض مصاب بسرطان في مراحله الأخيرة وقد تجاوز الخامسة والثمانين من العمر , ومتى ما وقعت عيني على أبي عبدالله , وكان يكنى بذلك , وجدته مصلياً أو مسبحاً بمسبحته ذات التسع والتسعين خرزة , أو يعظ في أحفاده وأبنائه وقت زيارتهم , وكلما مررت بجانبه قال لي : " لا تنس يا بني إذا حضرتني المنية فلا تنعشني فإني مللت وأريد أن ألقى وجه ربي " .. وحين اقترب منه الموت وساءت حالته وفقد النطق ولم يعد قادراً على الكلام وهو لم يزل على وعيه أومأ إلي أن احضر له قلماً وورقة , فاسرعت بتلبية طلبه ظناً مني أنه نسي وصية قد تكون مهمة لأبنائه , إلا أنه كتب يقول : أنعشني أرجوك فإني لا أريد أن أموت !
هكذا الإنسان : خُلِقَ والحياة عنده أعز ما يملك , وجد والوجود لديه ألذ ما أوجد , جاء محباً للحياة مولعاً بزخارفها . ولعل الله جعل أودع عشق الحياة في قلوب البشر كي تستمر الحياة ولا يفنى البشر بالتخلص من حيواتهم وهم يلاقون مصائب الحياة الكثيرة .
حين يحضر الموت ينقلب المرء إلى كائن ضعيف لا حول له ولا قوة فيبدأ بالنزاع ويحتضر ليقاوم هذا المارد أملاً في العيش أياماً أخرى . وترى أقوى الناس يتملكه الوهن ويعتريه الضعف ويستسلم رغماً عنه , ترى قساة القلوب قد رق قلبهم ورهف إحساسهم وهم يديرون عيونهم لإلقاء النظرة الأخرة على فلذةٍ كبدٍ , أو زوجةٍ قضي معها العمر , أو حتى بحثاً عن شخص لتقديم اعتذار وطلب الصفح والمغفرة نتيجة ظلم مارسه بحقه في حياته , أو يحاول التقرب إلى الله بنطق الشهادة عسى أن تليها مغفرة من الرحمن الرحيم . فصدام حسين الذي طغى وبغى وتجبر رأيناه يفر من الموت ويختبء في حفرة صغيرة , وحين جاءته المنية تحول إلى كائن آخر هزيل ذليل لم نعهده يوماً في هذه الصورة . والقذافي الذي تأله وأجرم ارتعدت مفاصله وهو يواجه شاباً يافعاً من مواطنيه يوجه فوهة بندقيته إلى صدره فبدت عليه إمارات الخوف فتلعثم وارتبك وشرع يطلب النجاة وهو الذي قضى العمر واقفاً أمام سيل من الجمهور الذي يمجده بأكبر العبارات خوفاً من جبروته وظلمه واتقاءً لشره .
للأحياء من الموت العبرة والموعظة , فتذكّرُ الموت والفناء بين الحين والآخر يهذب النفس ويشذب السلوك , ويلطف الجري الحثيث خلف المال والجاه ويترك في النفس قناعة هي كنز المؤمن , ويردع ارتكاب الجرائم من قتل وسرقة وخاصة إذا كان المرء مؤمناً بيوم الحشر والحساب وبالآخرة والجنة والنار .
الأيام تعدو بسرعة البرق وهذا ما يجعل الموت قريباً حتى لو طال العمر إلى المئة , فهل يتعظ الناس ؟
هل يتعظ الطغاة وقد رأوا القذافي في وضع مزرٍ بعد أكثر من أربعة قرون من التكبر والرياء والتحكم بأنفاس الناس والتصرف بهم على هواه . هل يعتبر المستبدون المتربعون على رقاب البلاد والعباد ؟