ربما كان إسقاط الطائرة الروسية بمضادات أرضية تركية في مقام القشة التي قصمت ظهر البعير، لتعلَن حرب أخرى في سلسلة الحروب متعددة الأشكال والجبهات، إنما هذه المرة على الحدود التركية، إنما هذه المرة تكون القوة التركية على المحك، وما إذا كان الذئب التركي يستطيع أن يكون في مستوى مناوراته إزاء جار تاريخي بينهما سلسلة من الحسابات التاريخية وصراع المصالح، وللدب الروسي ما يُعرَّف به كل عالم بمباغتاته وقوة ضرباته وحتى سطوته.

تركيا "أردوغان" الآن، وأكثر من أي وقت مضى، مقارنة بما يجري راهناً، في نطاق التحدي الذاتي، وإبراز مدى التحمل وقابلية الدخول في مواجهة مع روسيا ذات الدم البارد، حتى وإن كانت عضواً في حلف الناتو، لأن عالم اليوم لم يعد، من حيث بنية العلاقات وهي ساخنة ومتوترة وشديدة التداخل على مستوى العالم "الغربي نفسه" وامتداده الأميركي، كما كان في الأمس القريب " مقولة: إخفاء القرش الأبيض لليوم الأسود، تعمَّم لتستغرق ما هو سياسي واقتصادي وتشمل الدول الأكثر اعتداداً بنفسها"،

 وربما تصبح تركيا المتخوفة من تاريخ لا يتجاوب مع ما تريد الحفاظ عليه: ألا يُدخَل بها في " مسلخ " التقسيم الجغرافي والديموغرافي، أكثر من العدوة التاريخية التقليدية جارتها الشيعية المذهب: إيران، وهي التي سعت ولما تزل تسعى لأن تكون الواجهة الاعتبارية لأوربا في الشرق، بقدر ما تحاول أن تمارس دور الأكثر قدرة على تمثيل ما هو ديني " إسلامي: سنّي " بالنسبة للشرق المسلم مقابل الغرب. في لعبة القوى المتناثرة/ المتكاثرة في المنطقة، وهي على تفاوتها، حيث نشهد إلى أي درجة دفِعت بشعوب كاملة إلى أن تكون في قائمة ضحاياها، على خلفية من الغزوات الداعشية في المنطقة ودلالاتها، ضد الكرد أساساً وخلافهم، وما يجري في اليمن والعراق وليبيا...الخ، ولسوريا الآن السهم الأوفر في هذا المعمعان الملتهب والأحمر نظراً لأن المسرح الجغرافي بموقعه يستجيب لكل هاتيك الصراعات المعلنة وما يظهر تدريجياً، وما يمكن أن يظهر لاحقاً.

ولا بد أن الخاصرة السورية الغربية وهي الجبلية والبحرية، حيث يكون جبل التركمان، وجبل الأكراد مدرجين في قائمة المجابهات البرية والجوية راهناً، ولتفصح روسيا عن قدرتها على خوض أكثر من حرب دفاعاً عن مصالح تمتد في عمق المنطقة وليس سوريا وحدها، ولنجد في الوسط عرباً وكرداً وتركماناً وقوداً لحرب قائمة وتتسع حدودها . إنها الغزلان التي لا تمتلك قابلية المواجهة والمباشرة وهي العزلاء، رغم احتقانها الداخلي واستثارتها، مع ذوي المخالب والأنياب تاريخياً، ولو بتفاوت، كما في نزوح آلاف التركمان إلى الداخل التركي رصيداً مدفوعاً قسراً رد فعل من النظام السوري ومن يدعمه:روسيا وإيران، والكرد في الجوار، كما لو أن الحرب المشتعلة تنشط، في هيئة السرطان وانفجاراته في مواقع مختلفة، ولكنها تقع في محيط واحد، وروسيا ربما تدرك ما تقوم به، وهي تحذّر، وتركيا تدرك ما تقوم به، ولكنها قاصرة عن إدراك حدود اللعبة وهي تستعيد تاريخها التليد، والقوى التي تتصور أنها ستدعمها نظراً لموقعها بوصفها ناتويية، ولا تدخر جهداً في تحذير الدب الروسي، ولكنها في قرارة نفسها تدرك قوة ضربة الدب، كما في محاولات الذئب إبراز قواه أمام الدب والحرص ما أمكن على إبقاء مسافة أمان بينهما، كما في سعي أردوغان إلى لقاء بوتين دون جدوى، واستمراره في إظهار تحديه لاستقطاب " جمهوره " التركي المسلم، أو أنصاره، وبسبل مختلفة، والخوف من أن يؤدي كل تصعيد في الموقف إلى تضييق الخناق عليه.

غزلان " متعددة الجنسيات ": كانت وستظل الضحايا، وضمن فاتورة تاريخية تتضخم، ويجري كيل المديح لها هنا وهناك بنوازع دينية أو قومية أو استعراضية أخرى، في جغرافيا تزداد التهاباً، وربما يظهر الدب الروسي في أوج قواه الحية، إزاء تفاقم مشاكل في الداخل الأوربي، وحتى في أميركا وتهديدات الأصوليات الكبرى حيث " الجهل المقدس "، لنشهد الدم المراق وهو يحفر مجار له أكثر، والخراب ينال جهات وجهات لأن ثمة أنظمة تريد ذلك في المنطقة، وخارجها، وهو الأمر الوحيد الذي يمكن التأكيد على حقيقته: العنف بوصفه سيد الأحكام، والأحكام التي تصرّف في العنف تبعاً للقوى التي تتقاسم هذه الأحكام، والثمن الذي يدفَع " كاش " من دماء الناس " الغلابة ". ومتى كانت الغزلان من حيث القوة تعيش سطوة التحدي ونشوة المبارزة، إلا من جهة قرونها وهي لا تردع الطامعين في بيئاتها ولحومها وحتى دمائها، أما أن تصبح هذه الغزلان في عداد " الضواري " فهذا ما يتطلب تحولات كبرى: في توازنات القوى والمعطيات الجغرافية، والثروات وطرق استثمارها والتحكم في مصادرها وعوائدها..

====

دهوك، ليل 28 تشرين الثاني2015