الفنان عبدالقادر سليمان: بعد نصف قرن من خدمة رسالته ما الذي يمكننا أن نقدمه له؟
التاريخ: الثلاثاء 05 ايلول 2023
الموضوع: القسم الثقافي



إبراهيم اليوسف
 
ذكريات عابرة
ذكريات في الصميم
ثمة ذكريات مشتركة بيني والفنان عبدالقادر سليمان- رمضان، تعود إلى مرحلة دراستي أول الثانوية، وما بعدها بقليل، قبل أن ينشغل كل منا بعالمه الخاص. ينصرف هو بكل إمكاناته وطاقاته إلى شغفه وولعه و خياره: الموسيقا والغناء، وأواصل الدراسة والكتابة، ويبقى بيننا صدى وأثر تلك الذكريات نستعيدها في أي مجلس يضمنا، ويكون ذلك غالباً في محل شقيقي الأصغر: محمد. جاءت معرفتي به على نحو مباشر من خلال عمه الراحل محمد الذي طالما كان يزورني ونمضي في منزلي سهرات جميلة، بحضور مجموعة من الأصدقاء- آنذاك- منهم بشير يوسف، إذ كان هو والأخير معاً- خارج قامشلي- ولربما أيام عسكرية بشير" وسأسأله ذات مرة إن التقينا"وأتذكر بعض اللقاءات، ولاسيما زياراتنا الأثيرة في قريتي: حمارة- السيحةأ- أتذكر حزني على عمه محمد- صديقي الوفي- رغم فارق السن بيننا، عندما سرنا في موكب جنازته ليوارى الثرى في مقبرة- الهلالية- إذ إنه عن طريق محمد رمضان توثقت علاقتي بشقيقه سليمان و ابن شقيقه عبدالقادرالذي كان يجايلني، ونتبادل الزيارات.


أتذكر ثقة والده به، إذ إنه قدمه لنا في إحدى زياراتنا متباهياً به، لنندهش أمام عزفه على- آلة البزق- وهو لايزال ابن خمسة عشر ربيعاً، وكان أن أعطيته كلمات أغنية بالكردية:
Piya bihejîne
Ji bilî te nîne
 تلك الأغنية التي غناها، وسجلناها على كاسيت مسجلة كلاسيكي- استعاره مني سائق تكسي في العام 1979 مع كاسيتات أخرى- فقدت الاتصال به، وكان أوعدني بإعادتها، من دون أن يفعل، ورحت أوصي كل من يعرفه لمطالبته بها، فكان رده:
بعت السيارة  وفقدت- الكاسيتات-
إذ إني نتيجة-  خجلي من مشاعر الآخرين وفوضاي، لم أوفق في متابعة الأمر، كما ضاع لي الكثيرمن حقوق، بل لم تابع أمر تسجيل الكاسيت، ربما لأنني وجدت نفسي قد تجاوزت تلك الحالة، لما في الأغنية من رموز شخصية تتعلق بعوالم الرومانس التي تجتذب الشباب، وبقي عبدالقادر صديقاً عزيزاً، أنى التقينا- وكانت لقاءاتنا للأسف سريعة- في أحد الأعراس التي قل أن أحضرمثلها، أو في مجلس ما أو في على نحو عابر- غيرعابر-في الشارع، إذ كنت أعد أن كل محبي الذين يعيشون في المدينة إنما أبناء بيت واحد بغرف هائلة، حتى وإن لم يسنح لنا الظرف للقاء، وهو شعورسأفصل فيه، يوماً ما.
ظلَّ الاتصال بيني وعبدالقادر مستمراً، بعد مغادرتي- قامشلي- عن طريق أخي، لاسيما في مرحلة ما بعد الواتس آب، وتحديداً: بعد إقامتي في ألمانيا، وإن كانت جد قليلة للأسف، أتواصل معه في بعض المناسبات عبر بطاقة معايدة، أو وردة إلكترونية، كي يرسل إلي لرسالة صوتية نجا بعضها من الحذف التلقائي الذي لم أعرفه إلا مؤخراً، إلا إن فيها ذلك الود، وتلك الثقة بالنفس التي عرفته ممتلكاً لها منذ طفولته. صباه. منذ أن كان ابن خمس عشرة عاماً.
ثمة موقف طريف حدث بيننا، فقد افتتحت وأنا طالب حادي عشرمحل خياطة باسم- العندليب الأسمر- وكان يزورني فيه، وكان يعمل معي فيه الصديق عبدالحكيم صالح خضر- رحمه الله- والد الفنان الممثل الكردي السوري جوان- وقد ذكرني كسرى شقيق الراحل، قبل أسابيع  في عزاء والدته بتلك الأيام- اختار قطعة قماش زرقاء- نسيت نوع القماش- فأهديتها له، و فصلت له طقماً: كهدية، كانت لي ملاحظات على-البدلة/ الطقم، وعددت ذلك العمل من ضمن بضعة ملابس أولى لم أوفق في خياطتها من بين مئات قطع الملابس التي اشتغلت عليها، وصدرت أتفنن  فيما بعد في خياطتها، ومن بين حالات إخفاقي  المعدودة في الخياطة  ما حدث مع بنطال للصديق عبدالباري أحمي الذي لايزال يطالبني بقطعة قماش رغم ارتدائه البنطال سنوات كما أمازحه- وهكذا حالة بنطال الصديق الروائي والتشكيلي برزان كجو- شقيق صديقي أسعد فتاح الذي رحل قبل أشهر في ألمانيا- واستذكر البنطال في آخر تواصل بيننا قبل أربع وعشرين ساعة من رحيله المفاجئ، في نوبة قلبية رحمه الله، وهوما جرى مع بنطالين لاثنين من جيرانا آل بولي صبيحة عيد رمضاني- وكان ذلك في مرحلة البدايات- قبل أن أتمكن من المهنة، وأتركها نهائياً، وما عدت أجد لدي الحماس، بعد ذلك، حتى في إطار مجرد تثبيت زر على قميص لي!
 
مدرسة أصيلة في الغناء الكردي:
وإذا كنت أطلق هذه الذكريات التي بقيت ضمن دائرة أصدقاء مقربين، وعبدالقادر سليمان، أحد هؤلاء، فإن فيها تعميماً لتراث من الماضي، لي فيه حصة، ومن حق من حولي- كما هو رأيي- أن يطلعوا عليه، ضمن إطار استعادة الماضي، عبر مواقف ما تمت معي، وهومن حق جميعنا، شريطة توخي الدقة وبغرض المنفعة والإمتاع للاستفادة من التجارب و دروس الحياة، إن كانت جديرة، أو عبراستعادة جزء أو شريط ما من التاريخ، في هذا المجال أو ذاك!
عبدالقادر سليمان، الذي تربى في مدرسة- آل رمو- الكرام. مدرسة الفن، والذين أخلصوا للفن رغم كل تحديات: المجتمع. آلة القمع-التحولات الطارئة، نبغ في مجال العزف على آلة البزق إلى أن سمي بخليفة- سعيد يوسف- من قبل بعضهم، أو ملك الرقص. ملك الطرب، فقد حاول أن يشق لذاته مساراً خاصاً به، في إطار السابقين عليه الذين تأثر بهم، ويكون له أرشيف خاص به، يثري المكتبة الموسيقية الكردية.
لقد كان الفنان الكردي- المغني- الموسيقي- كما حكواتي- المجالس- من أهم الذين حافظوا على التراث الكردي، وشكلوا عوامل ديمومته واستمراره، كي توثقه الأجيال في  زمن التقانة" ولاسيما في زمن تقانات مابعد الحداثة" وإن بتنا نجدنا أمام مخاطر طارئة جدية، كما يسجل لهؤلاء الفنانين الكرد- على نحو خاص- أنهم ساهموا عبر أغنيتهم في نشر وترسيخ الروح القومية، باعتبارأكثرهم كان- حلقة التواصل بين الخطاب الشعري والتراثي وحتى السياسي- والجمهور الكردي الواسع الذي يلتف حول الأغنية، ولهذا فإن أجهزة النظام كانت تستهدف هؤلاء المغنين، وتحاول النيل منهم،  عبرأدوات رخيصة طالما استخدمت في مواجهة أي خطاب نضالي، وحصارهم، ولعل عائلة- رمو- رمضان- عبرالوالد: سليمان- محمد" ممن عرفت - ومن ثم  أنجالهم، من عداد حملة الرسالة: كل بحسب إمكاناته وطاقته!
ليلة وفاة عبدالقادر. كنا مجموعة من الأصدقاء في جلسة خاصة، وقد نقل إلينا أحد المقربين منه بأنه بخير، وذلك عندما قلت: لقد انقطع التواصل بيننا، منذ دخوله مشفى آزادي الدهوكي، آخر مرة، كي أتلقى هذا النبأ الأليم، من خلال  نقيب الفنانين الكرد:
 أحمد شويش، وأنشره بدوري، ليكون صدمة لمحبيه جميعاً.
حقيقة، لقد آلمني خبر مواراة" جسد" الفنان أبي دليل في دهوك- كما تابعت وقرأت في مقال لأخي أ.إبراهيم محمود- بعيداً عن مسقط رأسه، رغم وجود أسرته و جزء كبير من كردنا في الإقليم، بل رغم وصيته، بعد أن اختاروا الإقليم ملجأ، وملاذاً، لأنني أرى أن أرض قامشلي- المقبرة التي دفن فيها: والداه. عمه وبعض أفراد أسرته كانت أولى بأن تحتضنه!، وما زاد من ألمي أن من ساروا في موكب جنازته كان جد محدود من الأهل والمقربين، ناهيك عن قلة عدد الحضور- في مجلس عزائه- كما أظهرت ذلك إحدى الصور المسربة، بما لايليق، ولايرتقي إلى جهد فنان كرس نصف قرن من حياته لخدمة الأغنية. خدمة شعبه وكانت حلقات الراقصين في الحفلات التي يحييها تصل المئات.
عبدالقادر رمضان- كما من عرفتهم من أسرته- أصحاب موقف قومي وطني أصيل، وقد اختار العيش بين شعبه، وخدمة رسالته، والتضحية من أجل ذلك، رغم الكثير من المصاعب، إلا إنه بقي صامداً لم يساوم، ولعل في اختياره دهوك- مكان إقامة، على مقربة من قامشلوكته التي غنى لها، واحتضنته منذ حليبه الأول. مسرحاً لموهبته، وحضناً حانياً طالما حلم بالعودة إليه، بعد أن غنى فيها ولها نصف قرن من الزمن، ما يدل على موقف خاص، أترك مهمة التفصيل فيه لسواي، الذين كانوا ملتفين حوله، وعاشروه يومياً، مقدراً ماتم بيننا من انقطاع جغرافي في أقل تقدير.
وأخيراً، فإنه أمام كثرة حملة الأقلام الجادين الجدد: كتاباً وإعلاميين وصحفيين وباحثين ومعنيين بالأغنية، فإنني لأجدنا جد مقصرين مع هؤلاء، إذ إن كل فنان من فنانينا هو- مكتبة تراثية كاملة- وإننا لمطالبون بتوثيق سيرهم. توثيق إبداعاتهم. ذاكراتهم. كل ضمن حدود ومجال تخصصه التوثيقي، وإذا كان من الممكن استدراك بعض ما يمكن بخصوص فناننا أبي دليل-رحمه الله- فإن أمام هؤلاء الغيارى المجال لفعل مثل ذلك مع أسماء فاعلى تعيش بين ظهرانينا.







أتى هذا المقال من Welatê me
http://www.welateme.net/cand

عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=9610