القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

قصة: صاحب المعالي الخصْية

 
السبت 05 ايلول 2020


إبراهيم محمود

قرأت في أكثر من مكان، وعلى لسان المختص بطب الأعصاب، أن أحدهم قد تنتابه حالة مرَضية: جسمية ونفسية، داخلة في نطاق " الطب السيكوسوماتي "، وهي تسمية يونانية تعني " الطب الجسمي- النفسي "، فيصاب الجسم بوهن معين، وفي إثره تصاب النفْس بوهْم معين، حيث لا يعود الواقع منظوراً إليه بأشيائه، كما هو، وهذا ما يسبب مشاكل كثيرة. سوى أن هذا الطب أغفل مرضاً أكثر من كونه مرضاً جسمياً نفسياً، وِجدت أمثلة كثيرة له في مدينتنا، وقد عشت حالة كهذه، ومازلت شاهداً على آثارها، لا بل وتداعياتها، ولعلّي أعتقدها جديرة بالتنويه إليها. ولا ألزِم أحداً بتصديقها طبعاً.


لقد كنتُ في حالة صحية: نفسية وجسمية جيدة، والشمس بالنسبة إلي، كانت في أوان طلعتها، أي في مقتبَل النهار، حيث يمكن الرؤية بجلاء، وأنا أتظلل بفيء شجرة البيت التي لازمتها طويلاً.
لا أدري كيف حصلت منّي التفاتةٌ. أكانت سريعة؟ لا أدري. إذ يحق الحديث عما هو بصري، حيث إن الالتفاتة السريعة قد لا تعطي صورة صحيحة عن جسم مرئيّ، ربما لأن حاسة البصر غير مهيَّأة ومن خلال ارتباطها الدماغي، لنقْل الصورة، فتختل الصورة ، ولو لبعض الوقت.
وأعتقد أنه ليس هناك من لم يتعرض لواقعة أو أكثر كهذه، حيث وقعتْ عيني على جسم غير مألوف، وهذا من شأنه إثارة حاسة البصر، لمقارنة المرئيّ الجديد بما هو مألوف في " الذاكرة البصرية" كي تتمكن من التعرف على المرئي، واختيار الموقف المناسب في التصرف معه.
وهو ما حاولتُه طبعاً .
لقد قلت أنني كنت أتفيأ ظل شجرتي المعروفة، شجرتي الحنون، فلمحت جسماً يتحركاً، ثم توقف على مبعدة عني، بدا أنه جسم اسنفجي، وهو يلتصق بالأرض، كأنه أجوف من الداخل، حيث نصفه يتقعر ويتحدب، كأن هناك من ينفخ في داخله، وينفّسه بعد ذلك.
لا أخفي أنني تنبهت إلى وجوده، وركَّزت ناظري عليه تحسباً لأي طارىء.
وكان علي التدقيق فيه، وهو على تخوم ظل الشجرة، شجرتي بالتأكيد، حيث إن أشعة الشمس كانت تلامس أطرافه أحياناً، ربما لتماوج الظلال جرّاء تمايل الأغصان عالياً. كيف لي أن أصفه، لأحفظ صورته في ذاكرتي ؟
أأكون مبالغاً عن أنه ظهر على شكْل خصية، خصية عرموطية. عرموطية؟ نعم، أو ما يشبه ثمرة العرموط، أو أقرب إلى خصية تيس بالغ وهو في حالة شبق تيسيَّة ؟
المشكل أنه كان أكثر من صورة خصيوية: رأسه النافر عالياً، رقبة قصيرة لحمية، المؤخرة شبه المخروطية، حتى ما يشبه الوجه، كان في هيئة خصية تتقدم الرأس.
كانت العينان في غاية الصّغر. أي عقاب غيبي تلقاه هذا الكائن الغريب ليبرز هكذا ؟
لم يسعفني ناظري لرؤية أطرافه الملتصقة بجسمه، كما أردتُ، إذ ما أن يتقدم لولبياً، حتى يرتفع ويزحف، ثم يرجع إلى وضعيته الأولى كالطائر الحاضن بيضه في العش .
-أراك تتفحصني بناظريك ؟
صدر صوت منه. كان ثمة شق صغير في وجهه الخصيوي بتجاعيد ثلّمية ناعمة.
لم أرد، إنما تابعت النظر في جسمه.
-لا تتعب نفسك كثيراً، فلن تسعفك ذاكرتك في تسميتي ؟
قالها بصوت صادر من عمق ما في جسمه .
-سأوفّر عليك تعباً. تراني في هيئة خصية. أليس كذلك ؟ أنت محق. حار في أمري كثيرون قبلك، وفَّرتُ عليهم وعلي وقتاً وجهداً. إنهم يسمّونني صاحب المعالي الخصية.
لم ينتظر أي تعليق منّي، لأنني تجاهلته بطريقة ما.
-تستغرب اسماً كهذا. لك الحق في ذلك أيضاً .
تابعتُه وهو في مكانه، وقد حافظ على مسافة كافية بيني وبينه، وجسمه كان يتلقى نثارات الشعاع الشمسي أحياناً، كما لو أنه ألفها.
-نعم، خصوصاً وأنت أقرب إلى شعاع الشمس الذي يزداد حرارة .
قلتها له، لأرى ما سيكون عليه موقفه. فقال بالوتيرة الصوتية نفسها:
-لطالما كرهتُ الشجر وظله، ولهذا تراني هنا، كي تنظر إلي بصورة أفضل .
-ولماذا كراهية الشجر ؟
-إنها طبيعة مغروسة فيّ، كما هو حال أكثر أهل المدينة ، مدينتك .
تهجأ اسم " مدينتك " حرفاً حرفاً .
-مدينتي ؟
-نعم، أليست هذه مدينتك؟ ماالذي يربطهم بالشجر؟ لا تلعب دور المحامي عنهم. العلاقة ضعيفة جداً. ولهذا تحيط بهم الصحراء، لا بل هم من يستعطفون الصحراء لتحيط بهم.
-من أين تعرف كل ذلك ؟
-بدا لي أنه يقهقه، قهقهة حبيسة في بطنه، كأنها بقبقة ما،  ليقول بعدها:
-أحتفظ بسجلاتهم جميعاً، لا تستهن بشأني !
توقفتُ، وأنا أترقب ما سيقوله تالياً.
-لقد كنتُ صنيعهم، لأصبح أنا بدوري صنيعَهم، كما ترى .
قالها كلمة كلمة، كأنّي به، يريدني الإصغاء إليه جيداً.
-أي صنيع ؟
-ها قد بدأ الحوار بيننا. لقد استغربتَ وجودي، وهذا طبيعي، إذ يصعب، وربما يستحيل أن ترى شبيهاً لي في أي مكان آخر في عالمك، حسب معلوماتي الدقيقة. لقد أوجدوني هم بالذات، واهتموا بي، ورعوني لأصبح بهذه الهيئة، ومنحوني كل أسرارهم وقوتهم، وهأنذا أتولى أمورهم .
أصبحتُ فضولياً في معرفة حقيقته. ورأيته وهو يحرّك رأسه الخصيوي صوب المدينة، ليقول:
-أغلبهم يتصرفون بناء على تلقّي الأوامر مني، وقد جئت إليك لأعقد معك صفقة .
-صفقة؟ عمّا تتحدث ؟
-اسمعني جيداً. تصور كيف تكون قوة الواحد، حين تكون داخله قوة آلاف مؤلفة من أمثاله. احسبْها جيداً. والآن جاء دور الحديث عن الصفقة التي أعرضها عليك، صفقة صاحب المعالي الخصية. لا ترد في الحال، فكّر قليلاً، فبعد هذا اللقاء، لن يكون هناك لقاء آخر.
-أهذا تهديد ؟
رفع جسمه كالصحن الطائر عن الأرض، وأعاده حيث هو، ليقول:
-لا أحتاج إلى تهديد، فما أعنيه حقيقة. لتكن على بيّنة، وهي أن هناك كثيرين غيرك، تمنّعوا، ورفضوا حتى مقابلتي، لكنهم لاحقاً ترجّوني. والفارق كبير بين من يدخل في عقْد معي منذ اللقاء الأول، ومن يرفض، أو يتردد، أو يأتيني متوسلاً فيما بعد. لكلّ العطاء المناسب لتصرفه معي.
كثيرون مثلك، تباهوا بقوتهم، وتراجعوا فيما بعد. أشرح كل ذلك لأحيطك علماً بما يجري، لن تندم، سترتاح كثيراً، فأنا أعلم بحالك، ربما من حالك بالذات، كما علمتُ بحال غيرك، ستنتقل من حال إلى أخرى، وسيتغير وضعك كلياً. لن تغتمَّ أبداً بعدها، لا أحد يعكر صفوك، لا أحد يضايقك، لن يرتفع ضغط دمك يوماً، فكل شيء سيكون متوفراً، و...
-والثمن ؟
قلتُها، فجاء صوته بنبرة أكثر وضوحاً، كما لو أنه نجح في مهمته:
-عرفتَ كيف تفكّر وتختار و..
-أعلمنْي بالثمن سريعاً.
توقف قليلاً، ليقول لي بصوت أخف:
-لابأس، حركة بسيطة من يدك، تمررها على خصيتي، ولمرة واحدة فقط. إنها إعلان موافقة، وامض ِ بعدها في سبيلك وأعمالك، سوف يأتيك ما تشتهي، إنما، وبدون وعي منك، ستكون تابعاً لي. أنت تعلم، ليس هناك ما هو مجاني، كل شيء بمقابل .
-أإلى هذه الدرجة تثق بقوتك ؟
ارتفع عن الأرض لأكثر من مرة، ليقول:
-إنما أقول الحقيقة. أتعلم أن أغلب رجال مدينتك هذه يتبعونني. أغلبهم ناقصو الخصى، أغلبهم بالكاد يشعرون بخصاهم، ليس فيهم من هو كامل الخصيتين. طبعاً يمارسون هواهم الخاص، ينجبون أولاً، يشكّلون أزواجاً، لكنهم عملياً يخضعون إلي، وهم بخصى صغيرة، أو دونها أحياناً، حتى أولادهم سيكونون هكذا، طالما استمر الوضع هكذا، وهذا ما عليك تقديره، وأنت تنظر إلي.
توقفتُ عن الكلام، وأنا أنظر في البعيد، وأنا أتلذذ بالهواء العليل الذي يوفّره ظل الشجرة.
-لم تجب؟ هل أعطيك مزيداً من التفكير ؟
التفتُّ إليه، لأقول له:
-امض إلى هؤلاء الخصيّين، مكانك بينهم، أو يحتاجونك الآن.
انكمش على نفسه، كأن مسّاً أصابه، وارتفع عن الأرض قليلاً، ليقول وهو يركز نظره علي:
-إذاً سأقولها لك. ما أقل مَن تصرَّفوا مثلك معي. أمامك طرق ثلاث:
أن تلزم بيتك، لتجد راحتك فيه أكثر.
أن تخالط أهل المدينة هذه، وتتوقع المصائب وأوجاع الرأس دائماً.
أن تخرج من هذه المدينة كلياً، ولا تلتفت إليها، لتمضي إلى جهة بعيدة، وتنسى أنك كنت تنتمي إلى هذه المدينة التي سلَّمَتْني أمرها، وهذا أفضل لك، ولـ...ـنا !
ثم تحرك متراجعاً إلى الوراء بحركة مزوبعة لافتة، أحالت دون رؤية المدينة !

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 3.5
تصويتات: 8


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات