القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

قصة: هواجس ميت: قصة قصيرة

 
الأحد 01 نيسان 2018


أحمد اسماعيل اسماعيل

رحمه الله وأدخله فسيح جناته.
صدمته الجملة كصفعة مفاجأة، أحسّ برعدة في داخله فأعاد قراءتها مرة أخرى، تكررت الرعدة فانصعق دمَه.
يا إلهي ماذا يعني هذا؟ّ!
دقق في الاسم الذي كتب كلمة العزاء فلم يعرفه، هو صديق مجهول بالنسبة إليه، مجرد صديق فيسبوكي، واحد من مئات الأصدقاء المجهولين في عالم الفيس بوك.
ولكن لماذا كتب هذا التعليق؟ هل هي معابثة فيسبوكي، أم أنها تهديد مبطن من أحدهم؟


عَوَت الأسئلة في داخله، وانطلقت الهواجس تنهش صدره قطيعاً من الذئاب، وتغلي في مرجل روحه، فيما استمرت عبارات المجاملة تتوالى تحت صورته الشخصية التي أنزلها حديثاً على صفحته في الفيس بوك:
(منور، شو ها الطلة، الله يديم الشبوبية، العمر كله...) جمل وعبارات مجاملة من هذا القبيل، غير أنَّ هذه الجملة، والتي تترحم عليه، جعلت كل ما عداها مِن جمل تبدو باهتة وبلا معنى.
مرَّت دقائق وهو يتأمل تلك الجملة بانتظار أن يُصحح صاحبها الخطأ، أو يُلغيها، ويكتب جملة بدلاً منها، جملة أخرى فيها مجاملة، أو كلمة اعتذار، طال انتظاره؛ ولكن بلا جدوى. فانتقل إلى صفحة هذا الصديق، وكتب له على الخاص:
(صديقي العزيز، اسمحْ لي أنْ أقول لك إن ما كتبته تحت صورتي المنشورة حديثاً على الفيس غير صحيح، فصاحب الصورة، والذي هو أنا، لست ميتاً، ولذلك أرجو تصحيح التعليق، وإلا سأضطر إلى حذفه. بانتظارك)
مرَّ زمن غير قصير وثقيل وهو يدقق النظر في التعليق؛ علَّ صاحبه يسارع للإجابة إلى طلبه ويمحوه، أو يكتب عبارة اعتذار، غير أن ذلك لم يحدث، إذ بقيّ التعليق في مكانه، وسط التعليقات المتكاثرة، دون أيّ تعديل أو تصحيح من قِبل صاحبه.
انقلب قلقه إلى وحش راح يزحف في داخله ويفترس كل ما يصادفه من أحاسيس جميلة، والتي كانت قد سَرَت في داخله قُبيل مشاهدة هذا التعليق، عندما وقع بصره على منشور للفتاة الحاضرة دائماً بكامل أُبَّهتها في عالميه: الواقعي والافتراضي، والتي كتبت فيه :
(يقول المثل الكُردي: فلان أصبح مثل القمر خلف الغيوم) فأدرك لحظتئذ أنه هذا الفلان. كان حينها يتناول طعام الغذاء في المطبخ مع أهله، فنهض من فوره عن سفرة الطعام وغادر المطبخ متجهاً نحو غرفته القريبة من باب الدار الرئيسي، ودخلها باندفاع أثارت دهشة أمه وأختيه.
 تدرك أمه، إن هذه الغرفة، التي خصصتها له قبل ثلاث سنوات، بُعيد وفاة والده، وحشرت في جوفها سريراً حديدياً قديماً، وأريكة جلدية، وطاولة كبيرة وضع عليها جهاز كومبيوتر...إضافة إلى أشياء أخرى بسيطة، قد أصبحت مملكته وملتقى أصدقائه في سهرات أيام الجُمع. ومن حقه الدخول إليها متى شاء، ودون استئذان من أحد، حتى منها هي أمه، فلقد أصبح شاباً، وللشباب خصوصياتهم، غير أن هذه الحركة الغريبة أثارت دهشتها، فهو عادة لا يتناول طعامه بسرعة، تماماً مثل المرحوم والده، الذي كان يمضغ طعامه على مهل وكأن في فمه علكة وليس طعاماً، ثم أنه لا يغادر المطبخ قبل أن يحتسي الشاي: كمية كبيرة من الشاي، وكادت الدهشة أن تتحول إلى قلق لولا أنها سارعت إلى أزاحتها بمكنسة التبريرات، وما يتعلق منها بالشباب وأهوائهم، وبدعاوات طيبة له، كان هو خلال ذلك جالساً أمام شاشة جهاز الكومبيوتر، ينفث دخان سيجارته ويتابع التعليقات التي بدأت تتوالى على هذه الصورة، مدققاً في اسم كل معلق، أصدقاء يعرفهم عن قرب وآخرون لم يلتقْ بهم سوى على هذه الصفحة. دخلت أخته الكبرى الغرفة حاملة كأس الشاي الكبيرة التي لا يشرب الشاي إلا بها، ووضعتها أمامه على الطاولة، فلم يلتفت ناحيتها، فسارعت، بخبث هذه المرة، إلى إحضار منفضة السجائر من المطبخ ووضعتها إلى جانب كأس الشاي، بطريقة أحدثت فيها صوتاً، فبقي على حاله ولم يوجه لها  كلمة شكر، فخرجت إلى أمها تروي لها ما حدث، بطريقة أعادت دهشتها السابقة واحالتها إلى قلق، فنهضت الأم من فورها ودخلت غرفته، وفي عتبة الغرفة، وقبل أن تنبس بحرف، طالعتها صورته الظاهرة على شاشة جهاز الكومبيوتر، فبادلت الوجه المشرق الابتسام، وقفلت عائدة إلى المطبخ بقلب ينبض بإحساس آخر، مختلف عما دفعها إلى الدخول عليه، إحساس سار ومفرح، ولسان حالها يدعو له بالصحة والسعادة، هو وحيدها ومعيل بيتها، وفي المطبخ وجهت لأخته توبيخاً شديداً اللهجة، متهمة إياها وأخته الأخرى بالتحامل على أخيهما، ولو أنها انتظرت قليلاً في الغرفة، حتى يلتفت نحوها، ورأت وجهه الحقيقي لا صورته المنشورة على الفيس بوك، لربما وقع لها ما لا يحمد عقباه، ولو أنها عادت مرة أخرى إلى غرفته، بعد مرور ساعة على دخولها في المرة الأولى، أو اكثر، لوجدته جالساً أمام الجهاز بانكماش كهرة محاصرة، وكأس الشاي ماتزال على الطاولة، ملآنة لم يرتشف منها رشفة واحدة، كان على نلك الحال وقد غرز نظراته في هذه الجملة التي صفعت عينيه: 
 (رحمه الله وأدخله فسيح جناته) 
وكأنها تعويذة أصابت منه مقتلاً في روحه وطيشاً في عقله!  
غرق كل شيء من حوله في صمت عميق: الأصوات القادمة من الشارع، النسوة اللواتي ينادين اطفالهن بغضب، والدارجات النارية التي يقودها مراهقون، والأطفال الذين يلعبون بالكرة، حتى أصوات أمه وأختيه، انقطع تماماً بعد أن وجه لهنّ، ودون وعي منه، صيحات غضب وأوامر بأن يُكففن عن الدخول إلى الغرفة. أسود وجه السماء بعد أن غادرتها الشمس، غير آبهة بما سيحدث تحتها وفي جوّ الغرفة الملبَّدة بسحب دخان سجائره.   
 ليحدث، وللمرة الأولى، ومنذ زمن غير قصير، أن تخلفت روحه عن اللّحاق بأرواح سكان حَيَّه البسطاء من عتالين وأجراء مطاعم وباعة متجولين ونسوة، عاملات خارج بيوتهن وملكات في مطابخهن، والتي اعتادت، بعد هجوع شمس نهارها، وانتصاف اللّيل، التنزه في براري الله الواسعة، والتقاط ما تيسر لها من أحلام ومسرات خاطفة في هذه العوالم الساحرة. وبقيَّ حيث جلس في غرفته منذ لحظة دخوله إليها، وقد تجلل كلَّ شيء حوله بالسواد، عدا إضاءة شاحبة تنبعث من شاشة الجهاز، وتمتزج بسحب الدخان المتماوجة بكثافة، وتتلون بألوانها.
لم يدرْ كم من الوقت مرّ وهو على هذه الحال؛ متبلد الأحاسيس والأفكار، وموزعاً بين ما بقيّ منه في العالم الواقعي، وما تسلل إلى داخل هذا الفضاء الهلامي الغريب، كان صرير عربة الوقت قد بدأ يخفت كثيراً حين انبثقت من الظلمة أشباح راحت تحيط به من كل صوب، نَدَتْ عنه صرخة فزع وهو يحملق في مشاهد غريبة أخذت تنهض أمام ناظريه، وتتالى كشريط سينمائي:  
يا إلهي!!
هذا أنا، وهذا الجسد المسجَّى في وسط غرفتي، هو جسدي أنا، وهذه أمي وأختاي يلطمن وجوههن ويبكن بصوت عال، قال ذلك في نفسه وراح يتابع بذهول ما يراه. كان جمع من النساء قد احتشدن داخل الغرفة، يبكين تارة ويعانقن أمه وأختيه اللواتي لا يُكففن عن لطم وجوههن وشدّ شعورهن بعنف وانفعال تارة أخرى، أمَّا في باحة البيت، فقد كانت الوجوه كلَّها، وجوه الرجال منها والنساء والأطفال، قد اكتست بسيماء واحدة: الذهول والشفقة، ولسان الجميع يتلجلج بكلمات الأسف والحيرة. امتلأت عيناه بالدموع وجُعل يشهق، إذ أنّ بكاء أمّه وهي تناديه وتتحسر على شبابه كان موجعاً، كانت تبكي شبابه، وعدم دخوله دنيا الزواج، وحرمانها من رؤية أولاده وممن سيقول لها يا جدتي؟  غير أن الكلمات الأكثر إيلاما، والتي صعقت دمه، كانت تلك التي تبث من خلالها مخاوفها عن المصير المجهول الذي ينتظرها وابنتيها، حيث لا رجل يحميهن في هذه الأيام السوداء، ولا سند يتكئن عليه في هذه الدنيا الخراب.
 ومرَّت الأيام وتتالت المشاهد، شاهد أمه خلالها وهي تقف أمام أبواب الأفران، غصناً مكسوراً وسط تدافع أمواج من الشباب والأطفال والرجال، ونسوة ممن افتقدن المعيل، فتمنى لو أنه مات شهيداً مثل كثير من أبناء حيّه في هذه الحرب المجنونة، لربما جعل منه موت كهذا، ومع الفصيل العسكري المهيمن في المدينة، شهيداً، ومن أمه، أم الشهيد، الأمر الذي كان سيوفر عليها، مثل بقية أمهات شهدائهن، عناء الوقوف ساعات طويلة أمام أبواب وكوى الأفران، ويؤمن لها احتياجاتها الضرورية من السكر والشاي والزيت وغير ذلك. أما وقد مات في بيته كما يموت أيَّ عاجز، ميتة لا بطولة فيها ولا شهامة، بل ولا حتى في حادثة سير تعود على أمه بفائدة مالية يدفعها السائق، تسدُّ بها جوع أشهر أو سنة، فإنه بهذه الميتة المجانية يكون قد فوَّت على نفسه سمعة طيبة وجنازة أشبه بالعرس، وعلى أمه أية فرصة للفائدة، مادية أو معنوية، الأمر الذي سيجعلها تصحو كل يوم من الصباح الباكر، للبحث عما يسدُّ جوعها وأختيه، وقد تطرق من أجل ذلك أبواب بعض أمراء الحرب، فيستعملوها في خدمة بيوتهم بضعة أيام أو شهر، ولابدَّ أنْ تمرض بعد ذلك، لكثرة ما ستبذله من تعب، حينها سيرمون بها خارج بيوتهم لمجرد سماع أول أنة توجع منها، ويستبدلون أخرى بها، وما أكثرهن في البلد، هؤلاء أناس بلا قلوب، محدثو نعمة حرب، اغتنوا بموت قلوبهم، وحين يموت القلب في الإنسان؛ يحيا صاحبه بمباركة الشيطان، ويغتني بسرعة ويسود، وازداد انقباض قلبه وهو يتأمل شريط حياة عائلته الصغيرة: فقر وحرمان ومرض واستغلال..  وكاد يجهش بالبكاء، وينتفض من مكانه وسط الغرفة تحت بطانيته، ويعانق أمه وأختيه، لولا أن بصره وقع عليها فجأة.
 لم يصدق عينيه، وراح يتأملها بذهول غافلاً عن كلّ ما حوله: أمه وأختيه والنسوة اللواتي يبكين، وكذلك عن كل من في ساحة الدار من رجال وأطفال وجارات، كانت هي نفسها، فتاته صاحبة المثل المنشور على صفحتها في الفيس بوك، رأى وجهها وسط جموع الواقفين في فناء داره، كانت تقف ورفيقتها بجانب السلم الحديدي الصدأ الموصل إلى سطح المطبخ، ما الذي جعلها تقف في ذلك المكان بالذات؟ ذلك السلم اللعين قد يفسد كل شيء لو سارت واصطدم رأسها به، كما كان يحدث لكثير من رفاقه حين كانوا يزورونه، لطالما فكر أن يصلح من وضعيته الواطئة، البيت كله كان يحتاج إلى ترميم، اللعنة على الفقر، لو كان الفقر رجلاً لقتلته، كان يحلو له أن يكرر هذه المقولة دائماً، وخاصة عندما بدأ قلبه ينبض بحب هذه الفتاة، والتي تقف الآن في باحة بيته، زهرة فواحة اكتست بالاصفرار، حزناً عليه، فانقلب فجأة من حال إلى حال، ليحتلَّ الانتشاء والزهو مكان الوجع والأسف من قلبه، وتتسرب مشاعر غريبة  إلى داخله رغم كل ما جرى له، وما يجري حوله للتو. 
كانت صديقتها الأثيرة لديها تقف لِصقها وتربت على كتفها، مواسية ومحذرة، تضغط على يدها بحذر كلما نفرت من عينيها دمعة. وكما يحدث في الأفلام أو المسرح، تم تعتيم المشهد الناهض بقوة في حوش داره والغرفة التي أسجي فيها جسده، وتم تسليط ضوء خاص على فتاته ورفيقتها، في لقطة مقربة جداً. تسمح له بالتأمل جيداً لكل دمعة تسقط من عينيها، وكل خلجة وهمسة تصدر عنها.   
طال تحديقه فيها وهي على هذه الحال، تبكيه بصمت، حابسة دموعها خلف سهام عينيها الطويلة والكثيفة، ومطبقة شفتيها على شهقات كانت تصعد وتهبط داخل عنقها الأبيض الشفاف فلا تسمح لها بالخروج. لم يبكْ لبكائها كما فعل حين وجد أمَّه وأختيه يبكينه بحرقة، بل أحسَّ بالانتشاء، وبأنه محظوظ، وتمنى أن يشاهد جميع من هناك: أمه وأختاه وجاراته ورفاقه، وجه حبيبته المحتقن، ودموعها التي ملأت مآقيها؛ ليرى نظرات الحسد تبرق في العيون، ثم تمنى أن ترتمي على جثمانه وتناديه بحرقة، ويجمد كل شيء على هذا المشهد، ويعمُّ صمت مشحون بمخزون من الدهشة والتوتر، بل الحسد واللؤم.. المكان كلَّه، وفجأة، وفيما المشهد جامد رغم حيويته، إذ تبدر منه حركة: حركة صغيرة لم ينتبه لها أحد سواها؛ ليتقلص كلَّ ما في جسدها، وينكمش رهبة وفرحاً، وحين يتحسس شعرها ووجهها، ويستنشق بعمق رائحتها، ثم يطبع قبلة على عنقها، تطلق الحبيبة ضحكات أشبه بالزقزقة. وتمطره بالقبلات التي طالما تمنى أن يقطف من ثغرها ولو واحدة منها، وتطلق النسوة زغاريد الفرح، ويهرج الأطفال الأشقياء ويطلقون الصفير، وتمزق صمت المكان العيارات النارية وأصوات تكبير الرجال.   
الله أكبر!
وكاد أن ينطلق من مكانه، ويملأ الغرفة صخباً وصيحات فرح، لولا اختفاؤها المفاجئ، فبقيَّ في مكانه، جامداً مأخوذاً، وتساءل في سره: أين اختفت؟ الآن كانت في باحة البيت، بجانب ذلك السلم اللعين، لقد كانت أمام عيني، حتى أنها كانت تلبس بلوزة مزركشة، وتضع على شعرها الأسود القصير بنطاً زهري اللون، وكان الكحل قد سال من عينيها الباكيتين، كيف حدث ذلك، هل اصطدم رأسها بحديد السلم الصدأ فانقلب حزنها عليَّ نقمة؟ تساءل بحيرة وقلق، ولما عجز عن العثور على جواب؛ عادت الخيبة إلى ساحة روحه وتمددت فيها. 
وما أسرع أن عاد المشهد إلى سابق عهده، إذ ماتزال أمه وأختيه يبكينه وسط الوجوه ذاتها، فيما كان رجال من أقربائه يتجولون في غرف البيت وباحته بذهول كالمسرنمين، ثم يغادرون المنزل إلى الشارع، وهناك يدخنون ويدمدمون بأصوات غير مفهومة. ماذا عساهم يقولون؟ قال في نفسه، لاشك في أنهم متذمرين من موته المفاجئ لا حزانى عليه، فالموت في هذه الأيام لم يعدْ كالسابق، إنه باهظ التكاليف: خيمة عزاء وقهوة وشاي وطعام ضيوف قدِموا من بعيد لمدة ثلاثة أيام.. وفي النهاية ذبيحة: ضحية لروحه. فمن سيدفع تكاليف كل ذلك؟ فأمه لا تملك ثمن طعام يومها، وخاصة بعد موته هو، معيل الأسرة. وخاله رجل فقير، أما أعمامه فرجال بخلاء، الليرة عندهم ليست مجرد عملة نقدية، بل قيمة عظيمة الشأن يعجز عن وصفها، وتخيل ما يجول الآن في خاطر كل واحد منهم، وما يدور بينهم من حوار وتهامس، فأحس بالخجل، وامتلأ داخله كلّه بالضيق، ورثى لحاله، وأشفق على أمه وأختيه، وعلى مصيرهن القادم، ليس مما سيلاقينهن من ضنك العيش وحسب، بل لما سيصرن إليه من فرائس مغرية لبعض الرجال والشباب في الحي.
وراح يستعرض وجوه هؤلاء الغربان وهم يحومون حيث وِجد موت رجال، وما سحقته طاحونة الحرب الداخلية، لتحط تلك الغربان على نساء، كنَّ حتى الأمس القريب حبيبات وزوجات وبنات لضحايا وشهداء حرب مجنونة، فينهشون أجسادهن وأرواحهنَّ، وذلك قبل أن تُرفع خيمة العزاء. 
السيد أبو كمال واحد من هؤلاء الغربان، إنه يعرفه تماماً، مغامراته النسائية معروفة للجميع؛ رجل يداعب المسبحة بيد، مكبراً مسبحاً، ويكشف عن عورات الثكالى باليد الأخرى، وكذلك موجه مدرسة الحي محمد عيسى، رجل الأمن في المدرسة، والذي استغل منصبه وعلاقته مع رجال الأمن في توظيف بعض المعلمات لإقامة علاقات جنسية معهن.
 وراح يتذكر روايات الناس عن هذا الرجل بالذات؛ التلاميذ والمعلمين والمستخدم، روايات وقصص كانت تجعل الدماء تفور في عروقه، حتى المدير كان يحسب له ألف حساب، كيف لا وهو عين رجال الأمن ويدهم ورجلهم في المدرسة وفي الحي كلّه، متفوقاً في ذلك على كل المستخدمين في مدارس المدينة، حتى أنه قرر ذات يوم، وبالاتفاق مع رفيق له، أن يكمنا له في زاوية ما وهو عائد إلى بيته ليلاً، ليشبعنه ضرباً، ولكنهما تراجعا عن تنفيذ الأمر خشية أن ينكشف أمرهما فيلصق بهما هذا الجاسوس تهمة سياسية، كالتآمر على أمن الوطن، أو التعامل مع دولة أجنبية.. كما فعلها مع كثير من أبناء بلدته لمجرد أنهم ليسوا رفاق حزبيين، أو منتمين إلى أحزاب ليست مَرْضية، أو من أجل مصلحة شخصية صرفة، وقد تكون نزوة، كما حدث لمعلمة كانت في المدرسة، يقال أنه طلب منها أن تراوده على نفسها فأبت، بل وصفعته أمام التلاميذ. فكان أن نُقلت إلى الريف، بعد طول تحقيقات أمنية معها. ما الذي سيمنع رجل كهذا عن تكرار هذا الفعل مع إحدى أختيه؟ بعد أن يغيب هو، إنه ابن حرام.
اعتصرت كفَّ قويةٌ وخشنة قلبه، وداخله شعور غريب، صاعق وشرس، وهو يشاهد جثته ممددة في مكانها.
"كل نفس ذائقة الموت"
سمع هذه العبارة، وعبارات وجمل تتردد في مثل هذه المناسبة، فزادت الكفُّ الخشنة الضغط على قلبه العصفور، وانتابه سعال راح يتكرر، حتى جعل جنبات رأسه تردد صداها بقوة، غامت أشياء الغرفة السابحة في عتمة ملونة بسحب الدخان أمام عينيه أكثر فأكثر وهو ينصت لما يتردد من أقوال:
"أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة"
تساءل في البداية هل ما هو عليه مجرد كابوس، أم مجرد خيالات وتصورات من يحتضر، وتذكر أول ما تذكر جده الذي شاهده وهو يحتضر.
كان حينئذ فتى في الرابعة عشرة من عمره، لم يسبق له أن شاهد رجلاً يحتضر، ولم يكن قبل ذلك قد عرف ماذا يعني أن يموت الإنسان، كانت أمه حين ذاك تبكي وكذلك جدته، فيما كان خاله الكبير لا يكفُّ عن الصياح بصوت عال، طالباً من الجد ترديد الشهادتين، والعجوز يجيبه بكلمات تضيع وسط حشرجات متواصلة، كانت الوجوه التي أحاطت به قد علتها تعابير مختلفة: مشفقة وحزينة، وسمع من يهمس: إنه يحتضر، عجلوا في حفر قبر له.
ولم يطلْ المشهد كثيراً، إذ أن العجوز فارق الحياة بعد نهار طويل من هذا الصخب.
جمد فجأة وهو يراهم يعرُّونه تماماً، وقد اجتمع حوله بعض الرجال وانهمكوا في غسله، تقلص جسده وأحس بالحنق وهو يجد النظرات التي تتفحص جسده العاري تبرق بالسخرية، حدّث نفسه: بعد أن ينتهوا من دفنه سيتحدثون عن أعضاء جسمه، عن ردفيه وعن عضوه التناسلي وعن شعر العانة الكثيف، إنه بعرف جيداً كيف يفكرون، وشاهدهم يكتمون ضحكاتهم. تحت خيمة العزاء وخارجها. وتمنى لو أن من قام بغسل جسده كانوا من رجال حيّ آخر لا من حيّه.
وسرعان ما أحاطوا جسمه بالكفن ثم راحوا يصلْون عليه. تمنى حينها أن تدبُّ الحياة في جسده، ليرفع يده، ويقول لهم: أنا لست ميتاً، ماذا سيحدث للمصلين ولكل من ينتظر التشييع، الآن سيحملونه على الأكتاف ويوارونه التراب، وما هي سوى لحظات حتى حدث ذلك:
صرخ وهو يشاهد التراب ينهال عليه، كان كثير من المشيعين يتبارون في إلقاء التراب عليه، ولم لا؟  فالجميع يود كسب حسنة مقابل هذا الفعل كما يؤكد لهم رجل الدين في تشييع كل جِنازة، كل شيء وله ثمنه، حتى ولو كان التسليم والتعويض الآخرة، أراد أن يشتمهم ليكفوا عن ذلك، غير أن التراب كان أسرع إليه، فغطى وجهه ومن ثم باقي جسمه. سمع بعدها همهمات ودمدمات انقطعت حين علا صوت شيخ الحارة بالتلقين:
يا فلان ابن فلانة
يا ابن أمة الله
اذكر العهد الذي خرجت عليه : أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن..
وقفزت إلى ذاكرنه تعليقاته التي كان يهمس بها لمن يرافقه من الأصدقاء أثناء الانتهاء من الدفن، والعودة من المقبرة: حين أموت لن أقول أن المؤمنين كانوا أخوانا، بل سأقول كانوا أعداء، ولم تكن الكعبة إماماً، بل كان لكلّ منهم إمامه: موسكو، واشنطن، قطر، تركيا، إيران...أما العهد، فسأذكر ما يحدث في عهد أمراء الحرب، من قتل ونهب واغتصاب.. وقبلها في عهد الديكتاتور، من جوع واعتقالات وإفساد. وفجأة أحس بغصة وهو يسمع التلقين، فأصاخ السمع بحذر كي لا تفوته أيّ كلمة من كلماته. 
ردد التلقين أكثر من مرة، وأحس بالراحة لسرعة حفظه الكلمات، وحين فتح عينيه وهو منتش بما أنجزه، شاهد قبيلة من الديدان تزحف صوبه فاتحة أفواهها الغريبة الشكل كأنها أفواه تماسيح، فغادرته تلك الأحاسيس المريحة بالسرعة التي داخلته. 
يا إلهي!! 
صرخ برعب مكتوم وهو يشاهد تلك الديدان تتقدم نحوه بوجوه بشرية: وجوه لسراق وجواسيس وتجار حرب وعاهرات وقوادين، ثوار وقادة وأمراء حرب وساسة طارئين.. ممن كانوا يقرضون روحه، وأرواح الناس وأرزاقهم، وكم كانت دهشته كبيرة وهو يشاهد هؤلاء في هذه الهيئة والشكل المقزز، فانتابه إحساس تشفّ أسعده، وحدثته نفسه عن عدالة السماء التي لابدّ أنها مسخت هؤلاء إلى هذه الكائنات الهشة والمقززة عقاباً لهم على ما اقترفوه في الحياة من جرائم، ودّ بحماس لو يسحقها بقدميه أو بأطراف أصابعه، فلا يدع لها أثراً، وهمَّ بفعل ذلك، ولكن، وكما كان يحدث معه في الحياة، أحس بالعجز التام حيالها، ولم يستطع تحريك أيَّ عضو في جسده، لا قدميه ولا يديه ولا حتى فمه. امتلأ بالحنق وهو يشاهدها تخرج من كل ثقب وتتسلق جسده وتزحف عليه، كان بعضها قد بدأ يخترق جسده ويتغلغل في داخله وبين احشائه، فلم يحس بالألم الذي كان ينتابه إثر لسعة حشرة، حتى لو كانت ذبابة، ولم يحدث له من القرف والاشمئزاز مثلما حدث له بعد أن تناول زيت الخروع، للتخلص منها كما وصف له أهل الخبرة، جعله منظرها وهي في برازه يتقيأ طول النهار، وأورثه ذلك المشهد حالة قرف من كل ما هو قريب الشبه بها، كالمعكرونة. غير أن احساساً آخر، قديماً، ممضاً ومؤلماً، عاوده، كان هذا الإحساس بالذات يخترقه في الحياة كلما وقع بصره على هذه الديدان وهي تمارس افتراسها، مُذْ حصل على الشهادة الثانوية، ولم يستطع حينها الالتحاق بالجامعة، لا لقلة علاماته، التي كانت جيدة، بل بسبب وضعه المادي المزري، مما جعله يعمل محاسباً في سوق الخضار، عتالاً زمناً، ومن ثم محاسباً لدى معلم أميٌّ فاحش الثراء: دودة. 
-من ربك؟
اهتزت جدران القبر وهي تردد هذه الصيحة القوية، وكما يحدث في بعض الأفلام، أو في عوالم السحر، انبثق من الظلمة شبحان مرعبان وانتصبا أمامه كماردين، تساءل في سِرّه وقد انعقد لسانه من شدة الخوف: كيف استطاع قبر صغير بالكاد ضم جسده أن يسع لجسدين ضخمين مثل هذين الماردين؟!
أعاد أحدهما السؤال:
-من ربك؟
نظر في دهشة إلى الكائنين المخيفين، فشاهد في يَدّ كلّ واحدٍ منهما سوطاً غريب الشكل، شديد الشبه بالسوط الذي كان يُساط به من قبل جلَّاديه في أحد السجون القريبة من العاصمة، والذي قضى فيه تسعة أشهر بسبب تهمة سياسية، فأجاب من فوره وقد داخله إحساس سار: 
-أنا بريء يا سيدي.
فانهال سوط على جسده جعله يطلق صرخة ألم شقت عنان السماء، كانت أشدَّ قوة وألماً من وقع سوط جلاديه في السجن، قال وهو يغالب ألمه: 
-  منذ أن أُطلق سراحي وأنا أتجنب السياسة يا سيديّ.
عَلتْ الدهشة وجهي الكائنين، فقال واحد منهما بشيء بغضب:
-عن أيُّ سياسة تتحدث، أنت ميت. 
فردَّ بتضرع ورجاء:
_لماذا جئتما بي إلى هنا إذاً، ألم أقر، وأنا بكامل قواي العقلية، أن الرئيس هو سيدي الأوحد وربي الأعلى.
ولم يتمم جملته حتى سمع صرخة مدوية هزَّتْ المكان، حتى ظنَّ أن الأرض قد زلزلت زلزالها.  
انطفأ كل شيء حوله وغاب في سواد كثيف.
وكفَّتْ عجلات الزمن عن الصرير، وسكنتْ الأشباح المكان.
 
ألمانيا: شباط 2017
مجلة الجديد اللندنية عدد نيسان 2018

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 4.55
تصويتات: 9


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات