القسم الثقافي  |  القسم العربي  |  القسم الكوردي |  أرسل  مقال  |   راسلنا
 

تقارير خاصة | مقالات| حوارات | اصدارات جديدة | قراءة في كتاب | مسرح |  شعر | نقد أدبي | قصة | رياضة | الفنون الجميلة | الارشيف

 

twitter


البحث



Helbest

 

 
 

مقالات: أدواء العصر

 
الخميس 14 كانون الأول 2017


د. آلان كيكاني

في طفولتي، أيام كانت بيوتات قريتنا الصغيرة خالية من أجهزة التلفاز ولم يكن الإنترنت قد وجد بعد، كنت كثيراً ما أدس نفسي بين الكبار أوقات السهر في ليالي الشتاء الطويلة لأستمع إلى قصص الحكواتي الشيقة التي كانت تجمع الناس اجتماع الجياع القصعة. وفي اليوم التالي ورغم صغر سني آنذاك كنت على استعداد لرواية كل ما قصه الحكواتي علينا بالأمس. وليس هذا فحسب، فلا زالت ذاكرتي تزخر بالكثير من تلك الحكايات حتى يومي هذا رغم مضي أربعة عقود عليها، بل إن البعض من تلك الحكايا ترك أثره على ما نثرته من قصص في المواقع والصحف الإلكترونية هنا وهناك. 


وفي صباي كثيراً ما حفظت بيتاً من الشعر، أو آيةً من القرآن، أو حكمةً، أو قولاً مأثوراً، أو مفردة من لغة أجنبية، بعد قراءتها أو سماعها مرة واحدة فقط. وما أكثر ما علقت في ذهني، أيام المراهقة وباكورة الشباب، كلمات وألحان أغنية عربية سمعتها لمرتين أو ثلاث مرات رغم صعوبة الأغنية وفصاحة كلماتها، ورغم ركاكة لغتي العربية آنذاك. وأذكر أنني في سن الخامسة عشر حفظت أغنية الأطلال لأم كلثوم، كلماتٍ وألحاناً، عن ظهر قلب في ظرف يومين فقط بعد أن استعرت شريطها من أحد أصدقائي في المدرسة، وهكذا صرت أغنيها على انفراد بلذة ومرح وأدندن بفمي مقلداً صوت العود كما في الأغنية، بعد أن أعدت الشريط إلى صاحبه. وفي تلك الأيام البعيدة كانت رؤية واحدة لشخص ما كافية لأن تلتصق صورته بمخيلتي ولا تبرحها لعشرات السنين. 
لست هنا بمعرض الإشادة بنفسي بإبراز فطنتي وقوة ذاكرتي، فلا بد أنكم مررتم بنفس المرحلة من العمر وتتذكرون أحداثاً مرت بكم في باكورة حياتكم وتشهد على مدى فطنتكم وقوة ذاكرتكم آنذاك. وإنما غايتي هي المقارنة بين الذاكرة في السني الأولى من العمر والسنين المتقدمة منه، وإلقاء الضوء على تدهور قوة الذاكرة ابتداءً من الأعمار المتوسطة ومحاولة تبيان أسبابها.
فالآن، وبعد أن تجاوزت الخامسة والأربعين، أجد معاناة كبيرة عند محاولاتي لإرغام نفسي على حفظ مصطلح أجنبي، أو عبارة أو حكمة من بضع كلمات، أو إسم شخص التقيت به مرة أو مرتين. أردد بيتاً من الشعر عشرات المرات دون أن أتمكن من حفظه. أقرأ مقالاً طبياً أو سياسياً بتمعن وبعد دقائق من الانتهاء منه أجد نفسي عاجزاً عن استحضار شيء من محتواه. أعكف على قراءة جزء من رواية في الصباح، وفي المساء أعود لاستكمال القراءة لأكتشف أنني نسيت كل ما قرأته في الصباح، ولا أعود معها قادراً على تذكر أبطال هذه الرواية، فأعود إلى ما قرأته لأتذكرهم وأستحضر أدوارهم. ويكاد لا يمر يومٌ إلا وأقف فيه عاجزاً عن تذكر صورة مريض زارني في عيادتي لأكثر من مرة. والأسوء من هذا، ما من مرة أقصد فيها عملي إلا وقد نسيت شيئاً مهماً خلفي في البيت: قلمي، أو ختمي، أو تلفوني، أو لوحتي الإسمية، وأحياناً نظارتي! ولا يعلم إلا الله كم مرة عدت أدراجي من منتصف الطريق إلى المستشفى الذي أعمل فيه لأتأكد ما إذا كنت قد أغلقت باب بيتي الخارجي أم لا.
لا أدري ما السبب اليقين لهذه الظاهرة. لست مختصاً بعلوم النفس وأمراضها حتى أتمادى في الاجتهاد في هذا المجال، ولهذا سوف لن أخرج عن دائرة تجربتي الشخصية وتجربة من أعايشهم من الأصدقاء والأقرباء مع عنصر الذاكرة ومآلاتها تبعاً للمرحلة العمرية. 
ثمة الكثير من الأطباء لا يترددون في توجيه التهمة في هذا الشأن إلى الأجهزة الذكية وما تقوم به تقوم به من تسهيلات في توفير المعلومة، بحيث لم يعد المرء مضطراً معها إلى حفظ الكثير من الأسماء والمعلومات والأرقام والمواقع مادامت هذه الأجهزة تقوم له بهذا المقام، وهو أمر أدى، حسبما يزعم هؤلاء، مع مرور الأيام إلى كسل الذاكرة لدى الكثير من الناس. ناهيك عن أن مثل هذه الأجهزة والإشعاعات الصادرة عنها متهمة بقوة بلعب دور سلبي على صحة دماغ الإنسان ومداركه وحواسه ومزاجه. 
يضيف أحد الأطباء هنا: في تسعينات القرن الماضي كنت أحتفظ في ذاكرتي بالمئات من أسماء الأدوية واستطباباتها وطريقة إعطائها وجرعاتها وتأثيراتها الضارة. أما في هذه الأيام فلا أجدني إلا متكلاً على هذا الهاتف الذكي، وهو الذي أنساني كل ما كنت أحفظه في هذا المجال، وبدونه لم أعد قادراً على ممارسة مهنتي بالشكل الأمثل.
ويقول آخر: قبل أن يكون هذا الهاتف الذكي، كنت أحفظ غيباً عشرات الأرقام التلفونية تخص أهلي وأقربائي وأصدقائي، أما الآن، حتى رقمي كثيراً ما أنساه.
ولا بد من الذكر أن نسبة كبيرة من العلماء والفلاسفة اجتهدوا في هذا الموضوع، أعني ضعف الذاكرة وانحدار القدرة على التلقي ابتداءً من متوسط العمر. والآراء متضاربة في هذا الشأن. منهم قال أن الإنسان بطبعه يتلقى العلم حتى سن الأربعين ومن ثم ينتهي من التلقي بعد هذا العمر ليبدأ بالإعطاء، ولهذا نراه وقد تباطأت لديه القدرة على تذكر الأحداث التي مرت به، وخاصة القريبة منها. وإذا كان هذا التفسير يبدو منطقياً فإن الأمر المفروغ منه أيضاً هو أن قدرة دماغ الإنسان السليم لا تتأثر بالعمر مالم يكن هناك عاملٌ عضويٌ يحد من هذه القدرة كمرض الزهامر ونقص التروية الدموية للدماغ. 
وبرأيي أن ما يحدث بعد سن الأربعين لدى جميع الناس إنما هو ناجم عن تغيّر الأولويات في حياة المرء بعد هذا السن. فيحل التفكير بالمال والجاه والسلطة والجنس محل التفكير بالعلم والأدب والفن. وأزيد هنا دور عنصر المسؤولية في السنوات المتقدمة من العمر، وما تفرضه هذه المسؤولية من انشغال الدماغ بأمور لم تكن موجودة في سني الطفولة والشباب. 

 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
 

تقييم المقال

المعدل: 0
تصويتات: 0

الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ

خيارات